الاقتصادية

البنوك المركزية تتوجه بشكل متزايد نحو العملات الرقمية

 
-متغير يعيد تشكيل ملامح الخدمات المالية

-الهدف هو تعزيز الشمول والاستقرار المالي وإيجاد قنوات احتياطية في حال التعرُّض لأي ظروف طارئة

-تستكشف البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم المزايا المحتملة بما في ذلك كيفية تعزيز الكفاءة والأمان

-تسعى السلطات الرسمية لاستعادة السيطرة من العملات المشفرة الخاصة التي انتشرت وسببت خسائر ضخمة للمستثمرين والمضاربين

-خلال العام الماضي كشف المركزي العماني عن أنه يدرس تطوير عملته الرقمية الخاصة

مثل كافة قطاعات الاقتصاد العالمي، أدّى التطور التكنولوجي المتسارع إلى متغيرات واسعة النطاق في نطاق وطبيعة الأنشطة المالية عالميا والتي تشهد تحولا متزايدا نحو تقليص الاعتماد على استخدام النقود ودعم الخدمات الرقمية والتكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي والمدفوعات الرقمية.

ولمواكبة هذه المتغيرات يتوجه عدد من البنوك المركزية في العالم لتعزيز الشمول والاستقرار المالي وإيجاد قنوات احتياطية إضافية للتعاملات المالية في حال التعرُّض لأي ظروف طارئة، وتأتي العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية أو تدرس إصدارها كواحد من أهم المتغيرات الجديدة التي تعيد تشكيل الملامح الجديدة في القطاع المالي في العالم حاليا بما يواكب المتغيرات التقنية.

تعد العملات الرقمية للبنوك المركزية هي نسخ رقمية من النقود تصدرها البنوك المركزية وتنظم العمل بها وهي تتشابه مع النقود التقليدية في كونها تتمتع بضمان البنوك المركزية التي تصدرها مما يتيح درجة أعلى من الأمان يجعلها غير متقلبة على عكس الأصول المشفرة والعملات الرقمية التي تصدرها شركات خاصة للاستثمار مثل بيتكوين وغيرها من العملات الرقمية التي شهدت انتشارا واسعا وأصبحت خلال السنوات الماضية من مجالات المضاربة الرئيسية في الأسواق المالية واتسمت بتعرضها لارتفاعات أو انهيارات حادة في قيمتها، لكن رغم الكثير من المخاطر التي أحاطت بالمضاربات على العملات الرقمية الخاصة لكنها في الوقت نفسه كانت انعكاسا للتقدم التقني وقد أثبتت انتشارا كبيرا من خلال قدرتها على استغلال تقنيات متقدمة مثل البلوك تشين التي سهلت على الجميع في كل مكان في العالم الدخول للاستثمار والمضاربة في هذه العملات أو غيرها من أدوات الاستثمار، لكن انتشار العملات الخاصة والمشفرة أدى أيضا إلى خسائر ضخمة للمتعاملين مما سبب عدم تفضيل متزايد للاستثمار في هذه العملات الرقمية الخاصة التي لا تتمتع بأي نوع من الضمان من قبل جهات رسمية.

على الجانب الآخر، ومن ناحية البنوك المركزية العالمية، يتزايد بشكل كبير التوجه نحو الاستفادة من تقنيات البلوك تشين في تعزيز الخدمات المالية والتحول الرقمي لكافة الخدمات والوصول تدريجيا إلى مجتمع غير نقدي وتسهيل الاندماج والمرونة في التعامل مع النظام المالي العالمي، ويعزز ذلك التوجه أن العملات الرقمية للبنك المركزي تتمتع بالأمان والاستقرار لأنها تخضع لسيطرة وإشراف الحكومات وبشكل أكثر تحديدا البنوك المركزية، ولا ينظر إليها على أنها وسيلة للمضاربة أو استثمار الأموال وإنما هي امتداد للمنظومة الرسمية للدفع الإلكتروني التي تتبناها الدول.

وخلال العام الماضي، كشف البنك المركزي العماني عن أنه يدرس تطوير عملته الرقمية الخاصة، وعن أنه يعتزم بدء الخدمات المصرفية المفتوحة ضمن سياساته للالتزام بدعم الابتكار وتحديث القطاع المالي، وبما يتماشى وضمان الاستقرار المالي مع توجه نحو الاستفادة من التجارب المطبقة في هذا المجال، ويأتي هذا استمرارا للتطور التقني الكبير الذي يشهده القطاع المصرفي والمالي في سلطنة عمان والذي تعكسه مؤشرات عديدة منها اتساع حيز الشمول المالي والحجم الكبير للتعاملات عبر أنظمة الدفع الإلكترونية للمؤسسات والأفراد، كما أشار البنك المركزي العماني إلى حرصه على دعم وتشجيع التطورات التقنية والمنتجات والخدمات الإلكترونية المتقدمة في شتى المجالات بما يتوافق مع المصلحة العامة.

ورصدت دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي الصعود الكبير لتوجه البنوك المركزية نحو العملات الرقمية حيث إن أكثر من نصف البنوك المركزية في العالم تبحث إصدار العملات الرقمية، وقد قامت بنوك قليلة حتى الآن بإصدار هذه العملات فعليا بينما دخل كثير من البنوك المركزية في مراحل تجريبية للاستخدام وتحديد مدى الحاجة إلى تبنّي عملة رقمية.

ورغم اعتقاد البعض بأن العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية مفهوم جديد، فالواقع أن تاريخها يرجع إلى ثلاثة عقود ماضية، ففي عام 1993 أطلق بنك فنلندا المركزي بطاقة افانت الذكية، وهي شكل إلكتروني من النقود، ورغم أن هذا النظام قد أُلغي في بداية العقد الماضي، فمن الممكن تاريخيا اعتباره أول عملة رقمية يصدرها بنك مركزي في العالم، غير أن هذه العملات لم تصبح محور الاهتمام على نطاق عالمي واسع إلا في الآونة الأخيرة. وفي الوقت الراهن، تستكشف البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم المزايا المحتملة للعملات الرقمية بما في ذلك كيفية تعزيزها للكفاءة والأمان في أنظمة الدفع، وتسعى السلطات الرسمية أيضا لاستعادة السيطرة من العملات المشفرة الخاصة، وخلال عام 2022، ووفق دراسة صندوق النقد الدولي كان هناك ما يقرب من 100 عملة رقمية صادرة عن بنوك مركزية تمر بمرحلة البحث أو التطوير، واثنتان صدرتا بشكل كامل، وهما في نيجيريا التي أصدرت عملة اسمتها إي نايرا في أكتوبر 2021، والدولار الرملي في جزر البهاما، الذي ظهر لأول مرة في أكتوبر 2020، وتختلف دوافع استكشاف وإصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية، ففي جزر البهاما، كان الدافع الأساسي هو توسعة الشمول المالي وتلبية الحاجة إلى خدمة السكان غير المتعاملين مع البنوك أو غير المستفيدين من خدماتها بشكل كافٍ في أكثر من 30 من جزرها المأهولة بالسكان.

وفي منطقة اليورو يمر اليورو الرقمي بمرحلة الدراسات التجريبية، وفي أماكن أخرى من أوروبا يسود التوجه نفسه وانضمت له النرويج مؤخرا بإعلانها الدخول في مرحلة اختبار جديدة لدراسة إمكانية إصدار العملة الرقمية، وأشار البنك المركزي النرويجي إلى أن الدافع للشروع في دراسة العملة الرقمية للبنك المركزي هو تعزيز نظام دفع فعال وآمن يندمج مع النظام المالي العالمي ويعزز أنظمة الدفع بالعملة المحلية ويلبي حاجة المؤسسات والأفراد المتزايدة للتعامل الإلكتروني والانخفاض المتزايد في استخدام النقد والتغييرات الهيكلية الأخرى في أنظمة الدفع نتيجة التقدم التقني، كما رصد البنك المركزي النرويجي أن اهتمام البنوك المركزية بالعملات الرقمية يستهدف ضمان وصول الجمهور إلى الأصول الخالية من مخاطر الائتمان والتحسب لحالات الطوارئ كملاذ إضافي إذا تعطل نظام الدفع الإلكتروني، وبدأ البنك المركزي النرويجي دراسة إصدار العملة الرقمية منذ عام 2016 ولكن أكد دائما أنه لا يوجد قرار نهائي بشأن ما إذا كان سيتم إطلاق العملة الرقمية بالفعل، وقد أعلن مؤخرا الدخول لمرحلة تجريبية جديدة ستستمر حتى يونيو 2023 وستتضمن مزيدا من التحليلات التي ستشكل 'الأساس للتوصية حول كيفية المضي قدمًا في المرحلة التالية النهائية بحلول الصيف المقبل'. وتتضمن عمليات التحليل الحالية مدى ملاءمة نظام تصميم العملة الرقمية، ودراسة ما إذا كان تقديم عملة رقمية للبنك المركزي كمكمل للنقد يمكن أن يحقق إضافات مهمة للقطاع المالي وتطويره بشكل أكبر وكيف يمكن أن تمتثل العملة الرقمية للمبادئ الأساسية للاتفاقية المالية وقواعد الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية، والتي تلتزم بها النرويج رغم أنها ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، كما أشار البنك المركزي النرويجي إلى أنه بينما يظل الاستقرار المالي في صميم عمله واهتمامه فإن اختبار نظام عملات البنوك المركزية الرقمية ليس مجالًا يمكن التحرك فيه بسرعة إنما يتطلب دراسة عميقة ومتأنية، كما أن إصدار العملة الرقمية لا ينبغي أن يكون هدفا في حد ذاته، بل الهدف هو ضمان نظام دفع فعال وآمن وجذاب ومستقر للكرونة النرويجية في المستقبل.

وإضافة إلى استهداف البنوك المركزية تعزيز الشمول المالي والذي يعني بشكل أساسي زيادة انتشار وتسهيل وصول الجميع للخدمات المالية، يرى الخبراء أن العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية يمكن أن تجعل أنظمة الدفع المحلية أكثر صلابة وتدعم المنافسة، مما قد يؤدي إلى تحسين فرص الحصول على القروض وزيادة كفاءة المدفوعات وخفض تكاليف المعاملات. ومن شأن هذه العملات أيضا أن ترفع من مستوى الشفافية في تدفقات الأموال ويمكن أن تساعد على خفض عمليات استبدال العملة، لكن البنوك المركزية يجب أن تحدد أولا ما إذا كانت هناك دواع ملحّة لاعتمادها في الوقت الراهن ومدى كفاية الطلب عليها في المستقبل، وقد قررت بعض البنوك المركزية أنه لا وجود لهذه الدواعي على الأقل في الوقت الحالي.

وبالإضافة إلى ذلك، يقترن إصدار البنوك المركزية للعملات الرقمية بمخاطر يجب على البنوك المركزية أخذها في الاعتبار، فقد يسحب المستخدمون قدرا مفرطا من الأموال من البنوك دفعة واحدة لشراء عملات البنك المركزي، مما قد يتسبب في وقوع أزمة في القطاعات المصرفية. وسيتعين على البنوك المركزية أيضا أن تقيم قدرتها على إدارة المخاطر التي تفرضها الهجمات الإلكترونية، مع الحرص أيضا على وضع معايير حاسمة لضمان خصوصية البيانات والنزاهة المالية.