أحلام كبيرة وكل شيء ضاق
الثلاثاء / 7 / شعبان / 1444 هـ - 20:02 - الثلاثاء 28 فبراير 2023 20:02
لا أعرف ما الذي دفعني لمشاهدة مسلسل «أحلام كبيرة» لأمل حنا وحاتم علي؟ ربما بسبب قراءاتي في الفترة الماضية، كانت كلها تقريبا عما يحدث في العالم العربي منذ العثمانيين وحتى اليوم، لم أشاهد هذا العمل من قبل، ولم أتوقع أنني أستطيع مشاهدة عمل عربي تم إنتاجه وعرضه بداية الألفية الثانية. مع تقدم العمل حلقة إثر حلقة، كنتُ أتبين سر تعلقنا الشديد بالدراما السورية وبإخراج حاتم علي على جه الخصوص، إذ لا يقتصر الأمر على رؤيته الفنية، واللقطات التي تبدو مبهرة حتى مع محدودية التقنيات العربية آنذاك، فمن وراء ستارة النافذة نلمح الأم وهي تملأ كأس الماء في المطبخ لابنتها الفزعة في حوش البيت من موقف حدث لها في الطريق، كل هذه التوليفة في لقطة واحدة، فيها من الكشف والحجب، من الدقة والحساسية العاليتين لما يمكن أن يحل في وجداننا للأبد.
إن سر هذا التعلق في طريقة تقديم النصوص التي يعمل عليها حاتم علي للعائلة العربية. دفئها، وإخفاقها ونجاحها، وتعقيداتها. وقد نظن أن عمله الفصول الأربعة أكثر وضوحا في الذهاب إلى تلك المنطقة والعمل عليها، لكننا نكتشف أن غالبية أعماله عائلية بامتياز، وتظهرُ جانبا من وجود هذا الكيان الذي ومع مرور الوقت وجد الفن الرغبة في مساءلته ونقده وتفكيكه بصورة رعناء، مدفوعا بنوع من الغضب الذي يتملكنا جميعا على ما قد عشناه من الأسرة العربية، وكل ما عرف عنها من أفكار، عدم تقبلها لنا ولأفكارنا، رجعيتها، وتزمتها، وقسوتها وعدم وضوح العاطفة فيها. إلا أن «أحلام كبيرة» يعطينا ما يحدث في الحياة بالفعل، فالطفل المتمرد، والمشاكس والذي يقع في مشاكل كل يوم، تدفع والده لمعاقبته، يبكي في آخر الليل لأنه يشعر بأنه منبوذ في عائلته، إن لديه رؤيته عن الحب الذي يتلقاه، هو إذا ليس شريرا على نحو صرف، بل إن والده عندما يوشك على الموت جراء حادثة مفاجئة، نجد هذا الابن الذي لطالما تمنى موت والده وهو ينتحب ويقول: إنه لم يقصد تمني تلك الأمنية بموت والده فعلا. إنه التعقيد فعلا، الذي يحاول كل شيء في زمننا السائل هذا إبعاده، والادعاء بعدم وجوده، إننا نعيش في زمن الأشياء السهلة التي يمكن تجاوزها ببساطة، فيما نحن بحاجة مستمرة لكي نؤكد ونتيقن من أن «الأمر معقد». فلماذا تستمر المرأة بحب رجل يبدو أنه لا يحبها؟ أو لماذا ينتظر الرجل امرأة بعينها دون كل النساء؟ لماذا تحب الابنة أباها رغم قسوته وتبكيه كثيرا عند موته؟ كل تنويعات المشاعر الإنسانية التي ندعي أننا اليوم بتنا نفهمها أكثر ونستطيع التعامل معها على نحو أفضل بسبب من كل ما يعطيه لنا علم النفس الشعبوي تحديدا من ملفات وصناديق جاهزة لنحشرها بداخلها، رغم ذلك فالأمر ما زال معقدا فعلا.
إن عالمنا اليوم يرفض حضور السحر، والأشياء التي لا تقبل التفسير والعقلنة، ورغم فشل العقل، الذي أودى بالبشرية للهلاك في حروب ضارية مثل الحرب العالمية الثانية، ونقد الحداثة الذي أفرز حالة ما بعد الحداثة ورفض السرديات الكبرى إلا أننا ما زلنا وبدفع من النيوليبرالية المتوحشة نريد الانحياز للأشياء الملموسة، المنطقية، المتوقعة، إن إجسادنا وأرواحنا الهشة، أصبحت عرضة للاستهلاك بدورها، أمام هذه الأعباء التي لا نهاية لها من الأشياء التي ينبغي أن نشعر بها طيلة الوقت، وأن نكون نزقين، متحفزين، راغبين بلا حد، ونتوق باستمرار لأن يهزنا حدث ما عنيف، كارثة كبرى نعبدها لأنها تقودنا من أيدينا، وتهزنا عميقا بلا حد في حالة لا تحقق السكون الذي نخاف منه إذ ربما يجعلنا نفكر!
في أحلام كبيرة، عندما دخل وفي الحلقات الخمس الأخيرة أحد أبناء العائلة بتهمة قتل منافسه في السوق، وكانت قد ألصقت التهمة فيه بطريقة يصعب الفكاك منها، نظن أن الكاتبة والمخرج سيستثمران هذه الإثارة حتى الحلقة الأخيرة، الأمر الذي يجعلنا ننتظر الحدث الكبير بخروج حسن (رامي حنا) من السجن بريئا إذ نعرف نحن أنه كذلك بالفعل، لكن حاتم علي يخيب أملنا، إنها قصة من قصص العائلة التي تعيش في وسط الشام فحسب، لكن قد يكون الحصول على الطلاق، أو عودة الحبيبة التي غابت لأكثر من عشر سنوات أحداثا توازي بأهميتها ما تلقيه بظلالها تلك الجريمة على العائلة، إنها تحمل في مضمونها التأثير كله الذي لذلك الحدث المثير الكارثي الذي يبدو ملموسا بلا حد.
ثم فلنتأمل في شارة مسلسل أحلام كبيرة للشاعر السوري الرائع نزيه أبو عفش:
كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع
كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع
لم يبق للعشاق.. غير اليأس
واليأس بعض.. فضائل العشاق
نفذت أمانينا.. نفذت مرامينا
أحلامنا نفدت.. عصارة روحنا نفدت
وما نفد الكلام
***************
نامي إذا يا روح.. نامي الآن
هي آخر الأحلام.. نطلقها على عجل ونمضي
هي آخر الأيام.. نطويها على عجل ونرحل بسلام
ألسنا جميعا أصدقائي القراء الكرام نعيش بين قوسي هذه القصيدة التي غنتها نورا رحال الساحرة، بطريقة تستطيع أن تتركها علامتها في أرواحنا كما يفعل الفن الحقيقي وكما سيفعل للأبد؟
إن سر هذا التعلق في طريقة تقديم النصوص التي يعمل عليها حاتم علي للعائلة العربية. دفئها، وإخفاقها ونجاحها، وتعقيداتها. وقد نظن أن عمله الفصول الأربعة أكثر وضوحا في الذهاب إلى تلك المنطقة والعمل عليها، لكننا نكتشف أن غالبية أعماله عائلية بامتياز، وتظهرُ جانبا من وجود هذا الكيان الذي ومع مرور الوقت وجد الفن الرغبة في مساءلته ونقده وتفكيكه بصورة رعناء، مدفوعا بنوع من الغضب الذي يتملكنا جميعا على ما قد عشناه من الأسرة العربية، وكل ما عرف عنها من أفكار، عدم تقبلها لنا ولأفكارنا، رجعيتها، وتزمتها، وقسوتها وعدم وضوح العاطفة فيها. إلا أن «أحلام كبيرة» يعطينا ما يحدث في الحياة بالفعل، فالطفل المتمرد، والمشاكس والذي يقع في مشاكل كل يوم، تدفع والده لمعاقبته، يبكي في آخر الليل لأنه يشعر بأنه منبوذ في عائلته، إن لديه رؤيته عن الحب الذي يتلقاه، هو إذا ليس شريرا على نحو صرف، بل إن والده عندما يوشك على الموت جراء حادثة مفاجئة، نجد هذا الابن الذي لطالما تمنى موت والده وهو ينتحب ويقول: إنه لم يقصد تمني تلك الأمنية بموت والده فعلا. إنه التعقيد فعلا، الذي يحاول كل شيء في زمننا السائل هذا إبعاده، والادعاء بعدم وجوده، إننا نعيش في زمن الأشياء السهلة التي يمكن تجاوزها ببساطة، فيما نحن بحاجة مستمرة لكي نؤكد ونتيقن من أن «الأمر معقد». فلماذا تستمر المرأة بحب رجل يبدو أنه لا يحبها؟ أو لماذا ينتظر الرجل امرأة بعينها دون كل النساء؟ لماذا تحب الابنة أباها رغم قسوته وتبكيه كثيرا عند موته؟ كل تنويعات المشاعر الإنسانية التي ندعي أننا اليوم بتنا نفهمها أكثر ونستطيع التعامل معها على نحو أفضل بسبب من كل ما يعطيه لنا علم النفس الشعبوي تحديدا من ملفات وصناديق جاهزة لنحشرها بداخلها، رغم ذلك فالأمر ما زال معقدا فعلا.
إن عالمنا اليوم يرفض حضور السحر، والأشياء التي لا تقبل التفسير والعقلنة، ورغم فشل العقل، الذي أودى بالبشرية للهلاك في حروب ضارية مثل الحرب العالمية الثانية، ونقد الحداثة الذي أفرز حالة ما بعد الحداثة ورفض السرديات الكبرى إلا أننا ما زلنا وبدفع من النيوليبرالية المتوحشة نريد الانحياز للأشياء الملموسة، المنطقية، المتوقعة، إن إجسادنا وأرواحنا الهشة، أصبحت عرضة للاستهلاك بدورها، أمام هذه الأعباء التي لا نهاية لها من الأشياء التي ينبغي أن نشعر بها طيلة الوقت، وأن نكون نزقين، متحفزين، راغبين بلا حد، ونتوق باستمرار لأن يهزنا حدث ما عنيف، كارثة كبرى نعبدها لأنها تقودنا من أيدينا، وتهزنا عميقا بلا حد في حالة لا تحقق السكون الذي نخاف منه إذ ربما يجعلنا نفكر!
في أحلام كبيرة، عندما دخل وفي الحلقات الخمس الأخيرة أحد أبناء العائلة بتهمة قتل منافسه في السوق، وكانت قد ألصقت التهمة فيه بطريقة يصعب الفكاك منها، نظن أن الكاتبة والمخرج سيستثمران هذه الإثارة حتى الحلقة الأخيرة، الأمر الذي يجعلنا ننتظر الحدث الكبير بخروج حسن (رامي حنا) من السجن بريئا إذ نعرف نحن أنه كذلك بالفعل، لكن حاتم علي يخيب أملنا، إنها قصة من قصص العائلة التي تعيش في وسط الشام فحسب، لكن قد يكون الحصول على الطلاق، أو عودة الحبيبة التي غابت لأكثر من عشر سنوات أحداثا توازي بأهميتها ما تلقيه بظلالها تلك الجريمة على العائلة، إنها تحمل في مضمونها التأثير كله الذي لذلك الحدث المثير الكارثي الذي يبدو ملموسا بلا حد.
ثم فلنتأمل في شارة مسلسل أحلام كبيرة للشاعر السوري الرائع نزيه أبو عفش:
كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع
كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع
لم يبق للعشاق.. غير اليأس
واليأس بعض.. فضائل العشاق
نفذت أمانينا.. نفذت مرامينا
أحلامنا نفدت.. عصارة روحنا نفدت
وما نفد الكلام
***************
نامي إذا يا روح.. نامي الآن
هي آخر الأحلام.. نطلقها على عجل ونمضي
هي آخر الأيام.. نطويها على عجل ونرحل بسلام
ألسنا جميعا أصدقائي القراء الكرام نعيش بين قوسي هذه القصيدة التي غنتها نورا رحال الساحرة، بطريقة تستطيع أن تتركها علامتها في أرواحنا كما يفعل الفن الحقيقي وكما سيفعل للأبد؟