أثر السياسات الاقتصادية الجديدة على تجارة العالم
الثلاثاء / 7 / شعبان / 1444 هـ - 19:29 - الثلاثاء 28 فبراير 2023 19:29
ترجمة : قاسم مكي-
كلنا أنصار تدخّل الدولة في (تنظيم نشاط) الاقتصاد الآن. ففي الولايات المتحدة معقل أفكار حريَّة السوق قبل وقت ليس بعيدا تجتمع عدة عوامل لإعادة تشكيل السياسات التجارية والصناعية الحكومية. هذه العوامل هي الخوف من الصين والقلق بشأن أمن سلاسل التوريد والتطلع إلى إحياء الصناعة في الاقتصاد الأمريكي وآمال الانتقال إلى موارد الطاقة المتجددة.
الاتحاد الأوروبي يشارك الولايات المتحدة في مخاوفها من الصين وخصوصا في الجانب المتعلق بالتهديد التقني. ولكنه أيضا يشعر بالقلق من شعار «أمريكا أولا» الذي تسترشد به واشنطن في صُنع سياساتِها وتحديدا «قانون خفض التضخم» بمخصصاته التي تبلغ 369 بليون دولار.
هذا الاعتقاد الذي يزداد متانة في قدرة الحكومات على إعادة صياغة اقتصاداتها من أجل وضع أفضل ربما كان حتميا بالنظر إلى الخيبات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية التي شهدها العالم. لكن ما الذي ينطوي عليه؟
هنالك سؤال كبير وهو ما الذي ستفعله التحولات نحو القومية الاقتصادية والتدخل الحكومي لاقتصاد العالم؟ حسب الأوضاع الحالية التفكك العميق لهذا الاقتصاد إلى اقتصادات (وطنية) متبعثرة يبدو مستبعدا. لكن من الممكن تخيله. وسيكون أيضا باهظ التكلفة كما تشير إلى ذلك مذكرة صدرت مؤخرا عن صندوق النقد الدولي تحت عنوان «التشظِّي الجيو-اقتصادي ومستقبل التعددية».
إلى ذلك كلما كان هذا التشظي أو التفتت أعمق كلما زادت التكاليف. وسيكون فك الارتباط التقني الأكثر تكلفة. أيضا هنالك التكاليف الجيوسياسية الحتمية. وكما أشار جيمس باخوس الرئيس السابق لهيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية إلى أن احتواء هذه التكاليف في عالم اليوم يفرض تحديات هائلة.
هنالك سؤال أكثر تحديدا، وهو إلى أي حد ستنجح نزعة التدخل الحكومي الجديدة. هل الولايات المتحدة وهي اللاعب الأكثر نشاطا وفعالية ستحصل على النتائج المستهدفة من السياسات التي تعهدت بتطبيقها الآن؟ هنالك أسباب وجيهة للشك في ذلك. فالتدخل الحكومي الناجح في الاقتصاد صعب.
المسألة ليست في عدم وجود حجج نظرية للتدخل. بالعكس. فمنذ أيام أليكساندر هاملتون (أول وزير خزانة للولايات المتحدة في الفترة 1789-1795- المترجم) كانت الحجج التي تبرر حماية الصناعات الوليدة والتدخلات الأخرى المماثلة معلومة جيدا.
الحجة الجوهرية هي أن الأسواق بمفردها ستفشل في استغلال الفرص المتاحة. ومؤخرا جدَّد ريكاردو هاوسمان الأستاذ بجامعة هارفارد هذه الحجج. ويمكن أن نضيف إلى مبررات حماية الصناعات الوليدة تلك التي تتعلق بحماية الأمن الاقتصادي والتقني أو العسكري.
مع ذلك، في الممارسة العملية من الصعب تماما جعل هذا التدخل ينجح. على سبيل المثال كثيرا جدا ما يُفترَض أن نجاحات اليابان وكوريا الجنوبية ومؤخرا جدا الصين تعود إلى نزعة تدخل حكومي بعيدة النظر.
هذه مبالغة. لقد كانت منافسة السوق المحرك الرئيسي لهذه النجاحات. إلى ذلك، التدخل الحكومي يصبح أكثر صعوبة كلما كان الاقتصاد أقرب إلى التخوم التقنية (عندما يدخل مرحلة ابتكار أحدث التقنيات-المترجم)، فالابتكار عادة أصعب من الاستنساخ.
على الأقل هناك اقتصاد سياسي للتدخل. فالخاسرون منه يختارون الحكومات (في الانتخابات) وليست الحكومات هي التي تختار الفائزين. وكلما كانت الدولة أكثر تأثرا بنفوذ جماعات الضغط كلما تعاظمت فرص حدوث ذلك. وهذا ينطبق خصوصا على الولايات المتحدة.
من المفيد في هذا الصدد أن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي نشر في عام 2021 إيجازا تحت عنوان «تقييم 50 عاما من السياسة الصناعية في الولايات المتحدة». فصَّل التقرير بعض السياسات باهظة التكلفة للحمائية الصناعية وأشار إلى أن «المستهلكين ودافعي الضرائب الأمريكيين يدفعون حاليا أكثر من 900 ألف دولار مقابل كل وظيفة حافظت عليها الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على واردات الصلب ومدَّد أجلها بايدن». أحيانا يمكن أن يشترك الحزبان في تأييد سياسات غير رشيدة.
ما الذي نجح من برامج تدخل الدولة في الولايات المتحدة؟ كما هو متوقع يمكن أن نذكر برنامج وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة والذي ربما هو برنامج الابتكار الأكثر نجاحا في تاريخ العالم. نجاح آخر يتمثل في برنامج «عملية السرعة القصوى» الذي ابتدعته إدارة ترامب لإنتاج اللقاحات. وهو انتصار تمنى العديد من الجمهوريين التبرّؤ منه. برنامج مماثل آخر في نجاحه وهو «مثلَّث الأبحاث» في كارولينا الشمالية. لقد نجح تشجيع تجميع السيارات الأجنبية بشكل جيد. وأيضا التخفيضات الضريبية لألواح الخلايا الشمسية.
لكن ما هو لافت إخفاق مثل هذه البرامج في جعل الصناعات قادرة على المنافسة وحماية الوظائف بتكلفة معقولة أو تحقيق المزيد من الإنجازات في مجال التقنيات المتقدمة.
ربما كان هذا صحيحا على نحو ملحوظ بالنسبة لإجراءات التجارة وبرامج الدعم المالي لشركات محددة. النجاحات الكبيرة كانت في الجمع بين النفقات العامة والخاصة في البحث والتطوير كما هو متوقع. على ضوء هذا يمكن التساؤل حول قدرة برامج الدعم الحالية على تحقيق أهدافها.
هنالك أسباب أمنية معقولة لتعزيز إنتاج رقائق الحواسيب مهما كانت التكاليف. وفي غياب سياسات أفضل يجب أن يدفع دعم التحول إلى الموارد المتجددة الاقتصادَ في الاتجاه الصحيح. إلى ذلك، الدعومات الحكومية المالية لديها ميزة الشفافية في حين تمثل الحمائية ضريبة مستترة على المستهلكين يتم تحويلها إلى المنتجين. الرسوم الجمركية أيضا تنحاز للإنتاج المحلي. لكن الدعومات ليست محايدة عبر البلدان. فأولئك الذين لديهم موارد مالية أوفر سيكسبون. إضافة لذلك الدعومات وخصوصا تلك المقتصرة على المنتجين المحليين ستتسبب في احتكاكات بما في ذلك مع حلفاء الولايات المتحدة. وستكون المحصلة «حرب دعم مالي». هذا قد يقلل انبعاثات بلدان الدخل المرتفع لكنه لن يحل مشكلة التغير المناخي للكوكب الذي يعتمد على التعاون الناجح من أجل تحول عالمي.
النزعة الجديدة لدور الدولة في توجيه الاقتصاد لديها عدة أسباب وعدة أهداف خصوصا عندما تكون مبررات التدخل الحكومي قوية كما هو الحال مع التغير المناخي أو الأمن الوطني. لكن هنالك مخاطر كبيرة محتملة ليس أقلها إن العديد من هذه البرامج سينتهي به المطاف إلى هدر هائل للمال مثلما كانت هي الحال مع برامج كثيرة في الماضي. بجانب ذلك ستفاقم هذه التدخلات حروب التجارة الدائرة الآن. من السهل جدا أن نشرع في تفتيت اقتصاد العالم. لكن سيكون من الصعب السيطرة عليه. وأصعب من ذلك التخلص منه وإعادة الأمور إلى نصابها.
مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز
كلنا أنصار تدخّل الدولة في (تنظيم نشاط) الاقتصاد الآن. ففي الولايات المتحدة معقل أفكار حريَّة السوق قبل وقت ليس بعيدا تجتمع عدة عوامل لإعادة تشكيل السياسات التجارية والصناعية الحكومية. هذه العوامل هي الخوف من الصين والقلق بشأن أمن سلاسل التوريد والتطلع إلى إحياء الصناعة في الاقتصاد الأمريكي وآمال الانتقال إلى موارد الطاقة المتجددة.
الاتحاد الأوروبي يشارك الولايات المتحدة في مخاوفها من الصين وخصوصا في الجانب المتعلق بالتهديد التقني. ولكنه أيضا يشعر بالقلق من شعار «أمريكا أولا» الذي تسترشد به واشنطن في صُنع سياساتِها وتحديدا «قانون خفض التضخم» بمخصصاته التي تبلغ 369 بليون دولار.
هذا الاعتقاد الذي يزداد متانة في قدرة الحكومات على إعادة صياغة اقتصاداتها من أجل وضع أفضل ربما كان حتميا بالنظر إلى الخيبات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية التي شهدها العالم. لكن ما الذي ينطوي عليه؟
هنالك سؤال كبير وهو ما الذي ستفعله التحولات نحو القومية الاقتصادية والتدخل الحكومي لاقتصاد العالم؟ حسب الأوضاع الحالية التفكك العميق لهذا الاقتصاد إلى اقتصادات (وطنية) متبعثرة يبدو مستبعدا. لكن من الممكن تخيله. وسيكون أيضا باهظ التكلفة كما تشير إلى ذلك مذكرة صدرت مؤخرا عن صندوق النقد الدولي تحت عنوان «التشظِّي الجيو-اقتصادي ومستقبل التعددية».
إلى ذلك كلما كان هذا التشظي أو التفتت أعمق كلما زادت التكاليف. وسيكون فك الارتباط التقني الأكثر تكلفة. أيضا هنالك التكاليف الجيوسياسية الحتمية. وكما أشار جيمس باخوس الرئيس السابق لهيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية إلى أن احتواء هذه التكاليف في عالم اليوم يفرض تحديات هائلة.
هنالك سؤال أكثر تحديدا، وهو إلى أي حد ستنجح نزعة التدخل الحكومي الجديدة. هل الولايات المتحدة وهي اللاعب الأكثر نشاطا وفعالية ستحصل على النتائج المستهدفة من السياسات التي تعهدت بتطبيقها الآن؟ هنالك أسباب وجيهة للشك في ذلك. فالتدخل الحكومي الناجح في الاقتصاد صعب.
المسألة ليست في عدم وجود حجج نظرية للتدخل. بالعكس. فمنذ أيام أليكساندر هاملتون (أول وزير خزانة للولايات المتحدة في الفترة 1789-1795- المترجم) كانت الحجج التي تبرر حماية الصناعات الوليدة والتدخلات الأخرى المماثلة معلومة جيدا.
الحجة الجوهرية هي أن الأسواق بمفردها ستفشل في استغلال الفرص المتاحة. ومؤخرا جدَّد ريكاردو هاوسمان الأستاذ بجامعة هارفارد هذه الحجج. ويمكن أن نضيف إلى مبررات حماية الصناعات الوليدة تلك التي تتعلق بحماية الأمن الاقتصادي والتقني أو العسكري.
مع ذلك، في الممارسة العملية من الصعب تماما جعل هذا التدخل ينجح. على سبيل المثال كثيرا جدا ما يُفترَض أن نجاحات اليابان وكوريا الجنوبية ومؤخرا جدا الصين تعود إلى نزعة تدخل حكومي بعيدة النظر.
هذه مبالغة. لقد كانت منافسة السوق المحرك الرئيسي لهذه النجاحات. إلى ذلك، التدخل الحكومي يصبح أكثر صعوبة كلما كان الاقتصاد أقرب إلى التخوم التقنية (عندما يدخل مرحلة ابتكار أحدث التقنيات-المترجم)، فالابتكار عادة أصعب من الاستنساخ.
على الأقل هناك اقتصاد سياسي للتدخل. فالخاسرون منه يختارون الحكومات (في الانتخابات) وليست الحكومات هي التي تختار الفائزين. وكلما كانت الدولة أكثر تأثرا بنفوذ جماعات الضغط كلما تعاظمت فرص حدوث ذلك. وهذا ينطبق خصوصا على الولايات المتحدة.
من المفيد في هذا الصدد أن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي نشر في عام 2021 إيجازا تحت عنوان «تقييم 50 عاما من السياسة الصناعية في الولايات المتحدة». فصَّل التقرير بعض السياسات باهظة التكلفة للحمائية الصناعية وأشار إلى أن «المستهلكين ودافعي الضرائب الأمريكيين يدفعون حاليا أكثر من 900 ألف دولار مقابل كل وظيفة حافظت عليها الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على واردات الصلب ومدَّد أجلها بايدن». أحيانا يمكن أن يشترك الحزبان في تأييد سياسات غير رشيدة.
ما الذي نجح من برامج تدخل الدولة في الولايات المتحدة؟ كما هو متوقع يمكن أن نذكر برنامج وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة والذي ربما هو برنامج الابتكار الأكثر نجاحا في تاريخ العالم. نجاح آخر يتمثل في برنامج «عملية السرعة القصوى» الذي ابتدعته إدارة ترامب لإنتاج اللقاحات. وهو انتصار تمنى العديد من الجمهوريين التبرّؤ منه. برنامج مماثل آخر في نجاحه وهو «مثلَّث الأبحاث» في كارولينا الشمالية. لقد نجح تشجيع تجميع السيارات الأجنبية بشكل جيد. وأيضا التخفيضات الضريبية لألواح الخلايا الشمسية.
لكن ما هو لافت إخفاق مثل هذه البرامج في جعل الصناعات قادرة على المنافسة وحماية الوظائف بتكلفة معقولة أو تحقيق المزيد من الإنجازات في مجال التقنيات المتقدمة.
ربما كان هذا صحيحا على نحو ملحوظ بالنسبة لإجراءات التجارة وبرامج الدعم المالي لشركات محددة. النجاحات الكبيرة كانت في الجمع بين النفقات العامة والخاصة في البحث والتطوير كما هو متوقع. على ضوء هذا يمكن التساؤل حول قدرة برامج الدعم الحالية على تحقيق أهدافها.
هنالك أسباب أمنية معقولة لتعزيز إنتاج رقائق الحواسيب مهما كانت التكاليف. وفي غياب سياسات أفضل يجب أن يدفع دعم التحول إلى الموارد المتجددة الاقتصادَ في الاتجاه الصحيح. إلى ذلك، الدعومات الحكومية المالية لديها ميزة الشفافية في حين تمثل الحمائية ضريبة مستترة على المستهلكين يتم تحويلها إلى المنتجين. الرسوم الجمركية أيضا تنحاز للإنتاج المحلي. لكن الدعومات ليست محايدة عبر البلدان. فأولئك الذين لديهم موارد مالية أوفر سيكسبون. إضافة لذلك الدعومات وخصوصا تلك المقتصرة على المنتجين المحليين ستتسبب في احتكاكات بما في ذلك مع حلفاء الولايات المتحدة. وستكون المحصلة «حرب دعم مالي». هذا قد يقلل انبعاثات بلدان الدخل المرتفع لكنه لن يحل مشكلة التغير المناخي للكوكب الذي يعتمد على التعاون الناجح من أجل تحول عالمي.
النزعة الجديدة لدور الدولة في توجيه الاقتصاد لديها عدة أسباب وعدة أهداف خصوصا عندما تكون مبررات التدخل الحكومي قوية كما هو الحال مع التغير المناخي أو الأمن الوطني. لكن هنالك مخاطر كبيرة محتملة ليس أقلها إن العديد من هذه البرامج سينتهي به المطاف إلى هدر هائل للمال مثلما كانت هي الحال مع برامج كثيرة في الماضي. بجانب ذلك ستفاقم هذه التدخلات حروب التجارة الدائرة الآن. من السهل جدا أن نشرع في تفتيت اقتصاد العالم. لكن سيكون من الصعب السيطرة عليه. وأصعب من ذلك التخلص منه وإعادة الأمور إلى نصابها.
مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز