الكتابة كتذكر.. نقيض للمحو
الاحد / 5 / شعبان / 1444 هـ - 18:39 - الاحد 26 فبراير 2023 18:39
هدى حمد
يعتقدُ الإغريقُ القدماء بأنّنا نكتشفُ الحقيقة من خلال ذكرياتنا، وكأنّ ثمّة ما يُملي علينا أن نملأ ثقوب المخيلة وفراغاتها «بالتذكر»، ولذا فإنّ الشاعر والروائي سنان أنطون -الذي حلّ ضيفا على فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب- يرى بأنّه كائن محظوظ لأنّه لم يترك العراق صغيرا دون ذاكرة، فسنواته الثلاث والعشرون الأولى التي قضاها في العراق، تمكنتْ من تشكيله فكريا وروحيا بل منحته مخزونا هائلا من الذكريات لبقية العمر، لكنه لم يكتب في البلاد التي يحب في ربع القرن الذي عاشه فيها، خوفا من تزييف تاريخ البلاد وتاريخ الأفراد!
يرى غاستون باشلار بأنّ المكان لا يغدو أبعادا هندسية وحسب، وإنّما «كل ما في الخيال من تحيز»، ولذا ينحازُ سنان أنطون للعراق، فيظهرُ بصورة لافتة في أعماله، فلا يصدقُ القراء أنّه لا يعيش في العراق -وهذه هي جائزته الكبرى- إذ يبقى متصلا به عبر اللغة التي يراها بمثابة البيت.
عبر السرد يمضي سنان أنطون خارج النظرة المؤدلَجة بين ثقافتين عاش في كنفهما عمرا متقاربا، فحربُ الخليج ١٩٩١، كانت هي اللحظة التي أذنت بالرحيل إلى الولايات المتحدة حيثُ أكمل دراساتِه العليا هناك. المفارقة أنّه عندما كان في العراق كان يرى الأشجار، لكن سنوات المهجر جعلته يرى الغابة من مسافة آمنة، ولذا نجد أعماله الروائية مشغولة بالوطن المشوه في مخيلة الناس، وبتاريخ العراق والأحداث التي عصفت بالعراقيين في العقود الأخيرة. يدركُ أنّ مهمته في الكتابة «هي على نقيض مهمة القابلة التي تقصُ الحبل السري عقب الولادة، فهو يُعيدُ نسج وشائج الحبال السرية بين الأشياء وأمهاتها. يُعيد الأوتار إلى الأعواد المحترقة كما يعيد الدمعة إلى العين»، ولذا ليس من المفاجئ أن يصفَهُ الكاتب الأرجنتيني آلبرتو مانغويل بأنّه: «واحدٌ من كبار كتاب الرواية في عصرنا».
سبعُ سنوات من حياته ذهبت وهو يكتب روايته الأولى «إعجام» فالدفاتر التي كتب فيها، بلّلها المطر وحولها إلى لوحة انطباعية، فأعاد كتابتها من ذاكرته الشخصية، إلا أنّ المفارقة تكمن في أنّ بطل الرواية السجين يعيشُ هو الآخر ليتذكر!
وكما التقط فلوبير «مدام بوفاري» من خبر في صحيفة، التقط سنان أنطون بطله العاشق للفن التشكيلي في رواية «وحدها شجرة الرمان»، والذي تحول بصورة تراجيدية من الفن إلى تغسيل الموتى وتكفينهِم.. منتقلا من بهجة الألوان إلى المشهد الأكثر قتامة. في روايته «فهرس» هدم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية ليخلق امتزاجا بين الرواية وقصائد النثر، «دون أن يكون التجريب غاية في حد ذاته، وإنّما مرتبط بشكل عضوي وجدلي بالنص وبعوالمه».
وجوار الرواية يُخلص أنطون للشعر أيضا باعتباره البئر الأولى التي نهل منها، فقد صدر له: «موشور مبلل بالحروب»، «ليل واحد في كل المدن» و«كما في السماء».
سبق وأن سمعت أنعام كي كجي تصف «النوستالوجيا» الحنين بأنّه «مرض» في بعض صوره، ويرى سنان أنطون أنّه يمكن أن يغدو «نقدا للحاضر» لكن ماذا عن الحنين إلى ماضٍ مُتخيل، ماضٍ لم يكن موجودا أساسا! سأستعير هذه الجملة التي قالها «ودود» بطل روايته فهرس: «هنالك من يكتب ليُغير الحاضر والمستقبل، أما أنا فأحلمُ بتغيير الماضي». لكن ألا يبدو تغيير الماضي مُرعبا وغامضا أمام فيوضٍ من التصورات! لتذليل هذه المشقة يتبنى سنان أنطون مقولة الفيلسوف الإيطالي غرامشي:«تشاؤم الفكر، تفاؤل الإرادة»، فإن كانت الحروب تُسمم الذاكرة، فإن روايات سنان أنطون على النقيض تُحاول ترميم مفاصلها المعطوبة عبر السرد، وكأن «السرد» هو فعل مقاومة، وفعل استعادة من «المحو» الممنهج.
يرى غاستون باشلار بأنّ المكان لا يغدو أبعادا هندسية وحسب، وإنّما «كل ما في الخيال من تحيز»، ولذا ينحازُ سنان أنطون للعراق، فيظهرُ بصورة لافتة في أعماله، فلا يصدقُ القراء أنّه لا يعيش في العراق -وهذه هي جائزته الكبرى- إذ يبقى متصلا به عبر اللغة التي يراها بمثابة البيت.
عبر السرد يمضي سنان أنطون خارج النظرة المؤدلَجة بين ثقافتين عاش في كنفهما عمرا متقاربا، فحربُ الخليج ١٩٩١، كانت هي اللحظة التي أذنت بالرحيل إلى الولايات المتحدة حيثُ أكمل دراساتِه العليا هناك. المفارقة أنّه عندما كان في العراق كان يرى الأشجار، لكن سنوات المهجر جعلته يرى الغابة من مسافة آمنة، ولذا نجد أعماله الروائية مشغولة بالوطن المشوه في مخيلة الناس، وبتاريخ العراق والأحداث التي عصفت بالعراقيين في العقود الأخيرة. يدركُ أنّ مهمته في الكتابة «هي على نقيض مهمة القابلة التي تقصُ الحبل السري عقب الولادة، فهو يُعيدُ نسج وشائج الحبال السرية بين الأشياء وأمهاتها. يُعيد الأوتار إلى الأعواد المحترقة كما يعيد الدمعة إلى العين»، ولذا ليس من المفاجئ أن يصفَهُ الكاتب الأرجنتيني آلبرتو مانغويل بأنّه: «واحدٌ من كبار كتاب الرواية في عصرنا».
سبعُ سنوات من حياته ذهبت وهو يكتب روايته الأولى «إعجام» فالدفاتر التي كتب فيها، بلّلها المطر وحولها إلى لوحة انطباعية، فأعاد كتابتها من ذاكرته الشخصية، إلا أنّ المفارقة تكمن في أنّ بطل الرواية السجين يعيشُ هو الآخر ليتذكر!
وكما التقط فلوبير «مدام بوفاري» من خبر في صحيفة، التقط سنان أنطون بطله العاشق للفن التشكيلي في رواية «وحدها شجرة الرمان»، والذي تحول بصورة تراجيدية من الفن إلى تغسيل الموتى وتكفينهِم.. منتقلا من بهجة الألوان إلى المشهد الأكثر قتامة. في روايته «فهرس» هدم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية ليخلق امتزاجا بين الرواية وقصائد النثر، «دون أن يكون التجريب غاية في حد ذاته، وإنّما مرتبط بشكل عضوي وجدلي بالنص وبعوالمه».
وجوار الرواية يُخلص أنطون للشعر أيضا باعتباره البئر الأولى التي نهل منها، فقد صدر له: «موشور مبلل بالحروب»، «ليل واحد في كل المدن» و«كما في السماء».
سبق وأن سمعت أنعام كي كجي تصف «النوستالوجيا» الحنين بأنّه «مرض» في بعض صوره، ويرى سنان أنطون أنّه يمكن أن يغدو «نقدا للحاضر» لكن ماذا عن الحنين إلى ماضٍ مُتخيل، ماضٍ لم يكن موجودا أساسا! سأستعير هذه الجملة التي قالها «ودود» بطل روايته فهرس: «هنالك من يكتب ليُغير الحاضر والمستقبل، أما أنا فأحلمُ بتغيير الماضي». لكن ألا يبدو تغيير الماضي مُرعبا وغامضا أمام فيوضٍ من التصورات! لتذليل هذه المشقة يتبنى سنان أنطون مقولة الفيلسوف الإيطالي غرامشي:«تشاؤم الفكر، تفاؤل الإرادة»، فإن كانت الحروب تُسمم الذاكرة، فإن روايات سنان أنطون على النقيض تُحاول ترميم مفاصلها المعطوبة عبر السرد، وكأن «السرد» هو فعل مقاومة، وفعل استعادة من «المحو» الممنهج.