مزيدًا من الفراغات المعرفية
السبت / 4 / شعبان / 1444 هـ - 22:57 - السبت 25 فبراير 2023 22:57
إن كان ممكنًا اليوم تشخيص الهواجس المعرفية، سواء تلك التي تقودها (فتوحات المعرفة وفضاءاتها الحرة) بشكل عام، أو تلك التي يقودها الوصول الحر، والتطبيقات الناشئة للبحث والمعرفة ومحاكاة اشتغال العقل البشري؛ فإن تلك الهواجس تتلخص في سؤال: ماذا نعرف عن الطريقة التي نعرف بها؟. أثارت - على سبيل المثال - الطريقة التي يعمل بها روبوت المحادثة (ChatGPT) جدلًا عالميًا واسعًا. يخشى المعلمون اليوم والأكاديميون والباحثون من اقتحام مثل هذه التطبيقات لحقل (تخليق المعرفة) والاشتغال بها بطريقة يصعب ضبطها، ويصعب التحقق منها، ويصعب تمييزها. في الآن ذاته صعد الحديث عن تطبيقات أخرى، بعضها يطلب منك وضع أفكار أولية مبعثرة، ثم يتكفل بصناعة محتوى إبداعي أو تسويقي من تلك الأفكار، وبعضها يتكفل بتلخيص أهم ما كتب (علميًا) من تراث نظري وتفنيده حول قضية معينة. تتيح بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومواقعه (المفتوحة) اليوم أيضًا عمل محاكاة للتوقعات المناخية في بعض البلدان خلال آجال زمنية واسعة المدى، كما بدأت بعض المؤسسات الصحية بإدخال تلك التطبيقات لمعاونة الأطباء في اتخاذ قرارات العلاج من خلال تحليل بيانات المريض وتاريخه الطبي وتاريخ الأسرة الطبي.
منذ أعوام بدأت جامعة ستانفود مشروعها المهم في «الجمع بين صور الأقمار الصناعية والتعلم الآلي للتنبؤ بالفقر» والذي يهدف لإدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي وصور الأقمار الصناعية في تتبع مستويات الفقر في عدد من القرى الإفريقية، بحسب موقع الجامعة فإن «الأداة التي تم تطويرها يمكن أن توفر معلومات مفيدة للمنظمات والوكالات الحكومية والشركات التي تقدم الخدمات والضروريات للفقراء». حيث يقول مدير مركز الأمن الغذائي والبيئة في معهد ستانفورد وودز للبيئة إنه «إذا تمكنت الأقمار الصناعية من مساعدتنا في إعادة بناء تاريخ الفقر، فقد تفتح مجالًا كبيرًا لفهم وتخفيف الفقر بشكل أفضل في القارة».
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتم الحديث عن تطبيق بمسمى (Do Not Pay) أو ما يُعرف بـ (محامي الروبوت) والمتكفل بتقديم حجج واستشارات قانونية معينة مقابل اشتراك شهري رمزي. أصبح الأمر لا يتعلق بأداء المهام البشرية وحدها بواسطة الآلة/ التقانة/ الذكاء الاصطناعي، ولا يتعلق بالإتاحة والوصول العمومي public availability بقدر ما أصبحت المسألة ترتبط بتحويل المعرفة الأولية (الخام) إلى معرفة قابلة للاستخدام والتضمين في سياق عمليات التواصل البشري والإنتاج الإنساني بطريقة تستعيض فعليًا عن التدخل البشري كليًا في بعض أوجهها وأشكالها.
إلا أن سؤال (كيف تعمل الأشياء؟)، وكيف توجه؟، وما الذي يقف خلفها من اتجاهات سواء كانت بشرية/ مادية؟ أصبح سؤالًا محوريًا، وهنا لا نقف على عتبة التشكيك المفضي إلى تبني منظور المؤامرة، بقدر ما نقف على عتبة ضرورة فهم (آلية عمل المعرفة وإنتاجها). حيث إن هناك سياقا تاريخيا يجعل من عملية إنتاج المعرفة في ذاتها (أزمة تاريخية). وهذا السياق التاريخي مرده إلى ما يُعرف اليوم بـ «علم الجهل/ التجهيل»، والذي تُعرفهُ جورجينا كينيون كونه: « دراسة الأفعال المتعمدة لنشر اللبس والخداع، عادة لبيع منتج أو كسب معروف». يتم الحديث عن جذور هذا العلم في عديد من الأدبيات من خلال الواقعة الشهيرة لشركات صناعة التبغ في الولايات المتحدة الأمريكية. مطلع الستينيات من القرن الفائت تم الكشف عن «استراتيجية التدخين والصحة» لشركة براون (أند ويليامسون) للتبغ، وهي استراتيجية تسويقية تقوم على حشد أدلة علمية مضادة لتلك الأدلة التي تثبت خطر التدخين على الأفراد، تقوم هذه الاستراتيجية بحسب روبرت بروكتور المختص في تاريخ العلوم - بحسب ما ترصده جورجينا كينيون - على مبدأ تسويق الشك، حيث تنص على: «الشك هو منتجنا لأنه أفضل وسيلة للتنافس مع مجموعة الحقائق الموجودة في ذهن عامة الناس، كما أنها وسيلة لإثارة الجدل». تطور علم الجهل/ التجهيل لاحقًا ليقود استراتيجيات الشركات في عدة قطاعات، وتجاوز ذلك ليقود تسويق بعض السياسات العامة في الدول، وقيادة الدعاية السياسية والانتخابية والدعاية المضادة في أكثر من دولة حول العالم.
ما يعنينا هنا هو الأدوات التي أصبحت تسند هذا العلم، فمنطق عمل وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال من الممكن أن يعزز من تسويق أفكار معينة لخدمة أغراض معينة، وكذلك لطمس الحقائق المضادة، أو المعارف الموازية. يقود اليوم معهد Data & Society وهو مختص في أثر التقنيات الجديدة على أنماط الحياة الاجتماعية مشروعًا بحثيًا ضخمًا حول (الحياة الاجتماعية للأضرار الخوارزمية The Social Life of Algorithmic Harms). حيث يؤكد القيمون على المشروع أن مفردات «المراقبة والتحيز والتعتيم» تتمحور حولها الأضرار الاجتماعية العميقة التي تولدها خوارزميات التواصل الاجتماعي. وعلى نفس المنوال فإن ما تتيحه اليوم التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي يجدر بنا الانخراط في ثلاثة أسئلة أساسية حولها:
-كيف تعمل؟
-كيف تقود وتوجه النشاط ضمن المجتمع البشري؟
-هل تؤدي إلى تسويق أنماط معينة للفعل الإنساني؟
في تصورنا فإنه بقدر الانخراط في التعرف على هذه التقنيات/ التطبيقات بقدر ما نحن بحاجة إلى نشاط مواز في فهم الأسس التي تعمل عليها، والكشف عن مواطن التحيز التي يمكن أن تخلقها تلك الأسس، ومعرفة مواضع التوجيه التي يمكن أن تكون خارجة عن إرادة الآلة/ وإرادة المستخدم. فالمعرفة هي الأساس لبناء (العلاقات / النشاط / العمليات) في أي مجتمع إنساني، كما أنها المتحكم الرئيسي في الفهم البشري. إن مزيدًا من الفراغات المعرفية (الأسئلة العالقة) التي تخلقها هذه الفتوحات التقنية، تعني مزيدًا من العمل المتطلب على البحث، ليس فقط في الآثار وإنما في الطرق السليمة للمواكبة والمشاركة في حركة الإنتاج وهذا يقودنا إلى الأهمية الوطنية القصوى لثلاثة اعتبارات مهمة: مزيدًا من التمويل للبحوث العلمية الموجهة نحو الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته - مزيدًا من الجهد نحو إدماج أسس التفكير النقدي وعملياته في النظام التعليمي ومحتوياته - ومزيدًا من عمليات الفهم لانحيازاتنا البشرية والسلوكية في كل المواقف والأصعدة ومساءلة تلك الانحيازات وبناء الذات المعرفية القادرة على تفنيدها ومواجهتها. إن فهم ما تسببه التقنية من آثار وتغيرات لا بد أن ينطلق من فهم الأساس الذي تعمل عليه التقنية، قبل القفز إلى الطريقة التي يتلقى بها المجتمع تلك المنتجات ويتعامل معها. لم نعد اليوم أمام طوفان من المعرفة المتدفقه فحسب، وإنما أمام مزيد من الفراغات المعرفية التي قد ينتج عنها، اتجاهات مجتمعية موجهة، ومشاعر جمعية موجهة، وفهوم وقناعات موجهة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
منذ أعوام بدأت جامعة ستانفود مشروعها المهم في «الجمع بين صور الأقمار الصناعية والتعلم الآلي للتنبؤ بالفقر» والذي يهدف لإدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي وصور الأقمار الصناعية في تتبع مستويات الفقر في عدد من القرى الإفريقية، بحسب موقع الجامعة فإن «الأداة التي تم تطويرها يمكن أن توفر معلومات مفيدة للمنظمات والوكالات الحكومية والشركات التي تقدم الخدمات والضروريات للفقراء». حيث يقول مدير مركز الأمن الغذائي والبيئة في معهد ستانفورد وودز للبيئة إنه «إذا تمكنت الأقمار الصناعية من مساعدتنا في إعادة بناء تاريخ الفقر، فقد تفتح مجالًا كبيرًا لفهم وتخفيف الفقر بشكل أفضل في القارة».
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتم الحديث عن تطبيق بمسمى (Do Not Pay) أو ما يُعرف بـ (محامي الروبوت) والمتكفل بتقديم حجج واستشارات قانونية معينة مقابل اشتراك شهري رمزي. أصبح الأمر لا يتعلق بأداء المهام البشرية وحدها بواسطة الآلة/ التقانة/ الذكاء الاصطناعي، ولا يتعلق بالإتاحة والوصول العمومي public availability بقدر ما أصبحت المسألة ترتبط بتحويل المعرفة الأولية (الخام) إلى معرفة قابلة للاستخدام والتضمين في سياق عمليات التواصل البشري والإنتاج الإنساني بطريقة تستعيض فعليًا عن التدخل البشري كليًا في بعض أوجهها وأشكالها.
إلا أن سؤال (كيف تعمل الأشياء؟)، وكيف توجه؟، وما الذي يقف خلفها من اتجاهات سواء كانت بشرية/ مادية؟ أصبح سؤالًا محوريًا، وهنا لا نقف على عتبة التشكيك المفضي إلى تبني منظور المؤامرة، بقدر ما نقف على عتبة ضرورة فهم (آلية عمل المعرفة وإنتاجها). حيث إن هناك سياقا تاريخيا يجعل من عملية إنتاج المعرفة في ذاتها (أزمة تاريخية). وهذا السياق التاريخي مرده إلى ما يُعرف اليوم بـ «علم الجهل/ التجهيل»، والذي تُعرفهُ جورجينا كينيون كونه: « دراسة الأفعال المتعمدة لنشر اللبس والخداع، عادة لبيع منتج أو كسب معروف». يتم الحديث عن جذور هذا العلم في عديد من الأدبيات من خلال الواقعة الشهيرة لشركات صناعة التبغ في الولايات المتحدة الأمريكية. مطلع الستينيات من القرن الفائت تم الكشف عن «استراتيجية التدخين والصحة» لشركة براون (أند ويليامسون) للتبغ، وهي استراتيجية تسويقية تقوم على حشد أدلة علمية مضادة لتلك الأدلة التي تثبت خطر التدخين على الأفراد، تقوم هذه الاستراتيجية بحسب روبرت بروكتور المختص في تاريخ العلوم - بحسب ما ترصده جورجينا كينيون - على مبدأ تسويق الشك، حيث تنص على: «الشك هو منتجنا لأنه أفضل وسيلة للتنافس مع مجموعة الحقائق الموجودة في ذهن عامة الناس، كما أنها وسيلة لإثارة الجدل». تطور علم الجهل/ التجهيل لاحقًا ليقود استراتيجيات الشركات في عدة قطاعات، وتجاوز ذلك ليقود تسويق بعض السياسات العامة في الدول، وقيادة الدعاية السياسية والانتخابية والدعاية المضادة في أكثر من دولة حول العالم.
ما يعنينا هنا هو الأدوات التي أصبحت تسند هذا العلم، فمنطق عمل وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال من الممكن أن يعزز من تسويق أفكار معينة لخدمة أغراض معينة، وكذلك لطمس الحقائق المضادة، أو المعارف الموازية. يقود اليوم معهد Data & Society وهو مختص في أثر التقنيات الجديدة على أنماط الحياة الاجتماعية مشروعًا بحثيًا ضخمًا حول (الحياة الاجتماعية للأضرار الخوارزمية The Social Life of Algorithmic Harms). حيث يؤكد القيمون على المشروع أن مفردات «المراقبة والتحيز والتعتيم» تتمحور حولها الأضرار الاجتماعية العميقة التي تولدها خوارزميات التواصل الاجتماعي. وعلى نفس المنوال فإن ما تتيحه اليوم التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي يجدر بنا الانخراط في ثلاثة أسئلة أساسية حولها:
-كيف تعمل؟
-كيف تقود وتوجه النشاط ضمن المجتمع البشري؟
-هل تؤدي إلى تسويق أنماط معينة للفعل الإنساني؟
في تصورنا فإنه بقدر الانخراط في التعرف على هذه التقنيات/ التطبيقات بقدر ما نحن بحاجة إلى نشاط مواز في فهم الأسس التي تعمل عليها، والكشف عن مواطن التحيز التي يمكن أن تخلقها تلك الأسس، ومعرفة مواضع التوجيه التي يمكن أن تكون خارجة عن إرادة الآلة/ وإرادة المستخدم. فالمعرفة هي الأساس لبناء (العلاقات / النشاط / العمليات) في أي مجتمع إنساني، كما أنها المتحكم الرئيسي في الفهم البشري. إن مزيدًا من الفراغات المعرفية (الأسئلة العالقة) التي تخلقها هذه الفتوحات التقنية، تعني مزيدًا من العمل المتطلب على البحث، ليس فقط في الآثار وإنما في الطرق السليمة للمواكبة والمشاركة في حركة الإنتاج وهذا يقودنا إلى الأهمية الوطنية القصوى لثلاثة اعتبارات مهمة: مزيدًا من التمويل للبحوث العلمية الموجهة نحو الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته - مزيدًا من الجهد نحو إدماج أسس التفكير النقدي وعملياته في النظام التعليمي ومحتوياته - ومزيدًا من عمليات الفهم لانحيازاتنا البشرية والسلوكية في كل المواقف والأصعدة ومساءلة تلك الانحيازات وبناء الذات المعرفية القادرة على تفنيدها ومواجهتها. إن فهم ما تسببه التقنية من آثار وتغيرات لا بد أن ينطلق من فهم الأساس الذي تعمل عليه التقنية، قبل القفز إلى الطريقة التي يتلقى بها المجتمع تلك المنتجات ويتعامل معها. لم نعد اليوم أمام طوفان من المعرفة المتدفقه فحسب، وإنما أمام مزيد من الفراغات المعرفية التي قد ينتج عنها، اتجاهات مجتمعية موجهة، ومشاعر جمعية موجهة، وفهوم وقناعات موجهة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان