عمان الثقافي

زمن القصة القصيرة

 
لعل السؤال عن مستقبل القصة القصيرة له ما يبرره في ظل عوامل كثيرة ومعطيات دفعت به إلى السطح، ولكن بعيدا عن تكهنات المستشرفين القائلين بأفول جنس القصة القصيرة لصالح جنس الرواية، علينا مساءلة واقع هذا الجنس الأدبي وحاضره لنمحص حقيقة السؤال: ما إذا كان نابعا من إشكالية حقيقية تتهدده أم أنه نشأ جريا وراء الموضة الإعلامية التي فرضته لينسحب على باقي الفنون الإبداعية، بما فيها الرواية التي تجتاح سوق الأدب.

موضوعيا، يبدو أن القائلين بموت القصة القصيرة وانتهائها يستندون على معطيين رئيسيين غير قابلين مبدئيا للتجاهل: أولهما أن دور النشر ما عادت تتحمس لنشر المجاميع القصصية كما تتحمس لنشر الروايات، بل إنها – كما يقول أحدهم – تتبنى نشر رواية متوسطة الجودة وترفض نشر المجموعة القصصية الجيدة، والحجة في ذلك هو السوق ورغباته. أما المبرر الآخر، فهم كتّاب القصة القصيرة أنفسهم، الذين يهجرونها لكتابة الرواية. بل إن الكثيرين منهم إذا كتبوا رواية لا يعودون إلى كتابة القصة القصيرة مجددا إلا ما ندر؛ مؤكدين بذلك - من حيث يدرون ولا يدرون - أن كتابة القصة محض مِران على كتابة الرواية، التي متى ما تحققت لم تعد هناك حاجة للعودة إلى كتابة القصة مرة أخرى. ولا تفوتنا تصريحات بعض كتّاب القصة الذين تحوّلوا إلى روائيين إذ يُشبّهون كتابة الرواية بالسباحة في الأشواط البعيدة، بينما يُشبّهون كتابة القصة القصيرة بالسباحة في حوض صغير! (وهي وإن كانت تصريحات لا تقول هذا بالضبط، غير أنها تؤدي إليه). وقد نلاحظ أن كثيرا من الحوارات الصحفية التي تُجرى مع كتّاب القصة القصيرة - لاسيما الضالعين فيها ولم يغادروها إلى كتابة جنس آخر – لا تغفل طرح سؤال ما ينفك يتكرر: ألا تفكّر في كتابة رواية؟ وكأنما لا بدّ له أن يفعل، حتى يوشك السؤال أن يقول بطريقة مضمرة تروم استفزازه: ألم تنهِ مرانك بعد؟!

في عُمان، يتكرر طرح السؤال نفسه عن مستقبل القصة القصيرة أيضا، كما هو شأنه في أقطار أخرى حول العالم. وحتى وقت قريب نشرت جريدة عُمان استطلاعا يسأل عددا من الكتّاب العمانيين عمّا إذا كانت القصة القصيرة لا تزال تتنفس، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة الذي يوافق الرابع عشر من فبراير من كل عام، فكانت إجابات جميع المشاركين في الاستطلاع تقول شيئا واحدا وإن تعددت أساليب تعبيرهم عنه، وهو إن القصة القصيرة باقية وحيّة وتتنفس، ودعّموا هذا الرأي بشواهد تؤكدها الإصدارات الجديدة بين الحين والآخر، وجوائز القصة القصيرة لا سيما جائزة الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء للإبداع الثقافي والإنجاز الأدبي التي تخصص فرعا للقصة القصيرة كل عامين بالتناوب مع أجناس أخرى، وخارجيا، جائزة الملتقى للقصة القصيرة في الكويت التي شهدت صعود القاص محمود الرحبي مرتين في قائمتها الطويلة، فضلا عن شواهد تحويل بعض نصوص القصة القصيرة إلى أعمال مسرحية أو مواد فيلمية قصيرة.

الإجابة عن حقيقة مستقبل القصة القصيرة في عُمان، تفرض إحاطة بالإصدارات القصصية في السنوات الأخيرة، فهذه من شأنها أن تقدّم إجابة أوليّة لا بدّ منها. ولحسن الحظ أننا في عمان لا نعدم هذا الجهد، ففي عام 2018م نشر الكاتبان سليمان المعمري وهدى حمد كتابا حوى مختارات من القصة القصيرة في عمان بعنوان «أأنا الوحيد الذي أكل التفاحة؟» صدر عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية، ضم مسردا تعريفيا بأكثر من ستين كاتب قصة من مختلف الأجيال والتجارب (وهذا عدد كبير مقارنة ببلد قليل عدد السكان) رُتبت أسماؤهم أبجديا، بالإضافة إلى نموذج لكل منهم.

لم يكتفِ كتاب التفاحة (هكذا سنسميه اختصارا عند الضرورة) بذكر من نشر مجموعة قصصية أو أكثر خلال مسيرته الكتابية، بل إنه شمل حتى أولئك الذين جرّبوا كتابة القصة ونشرِها وإن كانت يتيمة، إذ كانت معايير اختيار القصص كما بيّنها المحرران في مقدمتهما، إلى جانب أن تكون منشورة: «الجماليات الفنية وقدرتها على تأسيس مستويات جديدة للتأويل لدى القارئ، وجزالة اللغة وقوة الفكرة، وأن تكون عُجنت بالجغرافيا المحلية دون أن يكون هدفها الوحيد هو التوثيق، وإنما إعطاء المعنى للأشياء». ولكنهما لا ينفيان احتكامها كذلك إلى الذوق الشخصي في اختيار هذا النص أو ذاك، مؤكدَين أنه لو أقدم غيرهما من الكتّاب أو الباحثين على تجربة مماثلة فإنهم سيقدّمون – بلا شك – كتاب مختارات مختلفا. ومع أن الكتاب عبارة عن مختارات، غير أنه خطوة مهمّة في تقديم الأدب في عمان عموما، والقصة القصيرة خصوصا. ويحسب لسليمان المعمري وهدى حمد سدّهما ثغرة هائلة في الأدب العماني حتى حين؛ لأن جهدهما هذا - الذي اشتغلا عليه على مدى ست سنوات - سيحتاج إلى من يبني عليه ويتابعه مستقصيا الأسماء كلها، لاسيما الجديدة التي التحقت بميدان القصة القصيرة في السنوات التي أعقبت صدور كتاب «أأنا الوحيد الذي أكل التفاحة». وقد نشير إلى جهد آخر غير منشور كان يشتغل عليه القاص وليد النبهاني في إعداد بيبلوغرافيا القصة القصيرة في عمان، ونحسبه إذا ما نُشر فسيُغطي كل الإصدارات القصصية، لا سيما في السنوات اللاحقة التي تلت نشر كتاب المعمري وهدى حمد.

ويمكن ملاحظة أن ما استجد من إصدارات قصصية أو نصوص منشورة هنا وهناك بعد عام 2018م ليس بالندرة المقلقة حتى يشغلنا هاجس انقراض القصة القصيرة وكتّابها. ولكن علينا أن نعترف - الاعتراف القديم بعد كل شيء - بأن المشهد الأدبي في عُمان تنقصه المتابعة التي لا تكتفي برصد ما يُنشر وإضافته إلى التعداد العام للنصوص والإصدارات (على أهميته في سياقنا هذا)، ولكن بقراءته وإظهاره حتى لا يتحوّل إلى مجرّد عدد؛ فليس أضرّ بالأدب من أن يبقى مجرّد إحصائيّات يعوزها الالتفات إلى القيمة الإبداعية.

في التاسع من يناير من عام 2023 أخبرنا بيان لجنة تحكيم فرع القصة القصيرة في جائزة الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء للإبداع الثقافي والإنجاز الأدبي لعام 2022 أن المجاميع القصصية التي تنافست على الجائزة بلغ عددها تسع مجموعات قصصية صدرت في السنوات الأربع الأخيرة (2019 – 2022)، ما يعني أنها مجاميع لم يشملها كتاب «التفاحة»، وإن شمل أسماء كتّابها على الأرجح؛ فليس عسيرا على متابع المشهد الأدبي في عمان أن يخمّن عناوينها أو أسماء كتّابها. ولكن من ذا يجزم بعدم وجود إصدارات أخرى لم تشترك في المنافسة، أو ألا يكون بين المتنافسين اسم جديد مثلا؟ لاسيما أن الجائزة لا تبيح الإعلان عن الأعمال المتنافسة، ولا يفصح المترشح غير المتوّج عادة عن مشاركته.

في مشهدنا الإبداعي تواجهنا مشكلة عصيّة على الفهم، وهي أنه لا توجد جهة معنية بمتابعة الإصدارات الجديدة ونشر بياناتٍ عنها على سبيل الإعلام بالشيء على الأقل، بصرف النظر عن القيمة الفنية. وكأن هذا الدور ليس في أجندة أحد، باستثناء الجهود الفردية التي ينهض بها أحدهم مستجيبا لنداء من داخله بضرورة أن يفعل شيئا. وحتى تلك الأعمال التي لا تفوز بالجوائز فإنها تذهب طي النسيان، إذ ما من قوائم طويلة وأخرى قصيرة في رحلة المنافسة تعرّف بها، ويكافح كاتبها بجهد فردي للتعريف بها عبر حساباته الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي.

في إحدى دورات جائزة الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء للإبداع الثقافي والإنجاز الأدبي، وقعت لجنة تحكيمٍ على اكتشافات لم تكن لتقع عليها لولا تجربة التحكيم تلك، فقد سنحت لها الفرصة لأن تطّلع على إصدارات لم يسبق أن رأت لها إشهارا أو ترويجا في أية وسيلة إعلامية رسمية أو خاصة، ورغم أن هذه الإصدارات لم تفز بالجائزة، ولكن عضوا أو اثنين كتبوا عنها لاحقا، في تجسيد لمقولة غير مألوفة: «شارك في جائزة وفز بها من غير ما تفوز». وأحسب أن هذا واحد من أهم أدوار الجوائز التي لا ينبغي أن تقتصر على تتويج الفائز فقط، ولكن إشهار الأعمال التي خاضت غمار السباق كذلك من باب الإخبار بها كأضعف الإيمان.

ربما نشير إلى أحد المشاريع المهمّة التي أقرتها وزارة الثقافة والرياضة والشباب في نهايات عام 2022 ولم ير النور بعد، إذ كان على فريق بحثي أن يرصد المؤلفات العمانية من مختلف التخصصات والحقول المعرفية خلال خمسين عاما، وقد بدا أنه ليس في وسع الجهات ذات العلاقة بنشر المؤلفات أو عرضها أكثر من تقديم إفادة جزئية عما مرّ في أروقتها فقط، وعلى الباحثين أن يجمعوا قطع البازل المتفرقة بجهد خارق ضمن حيّز زمني محدود. ورغم وعورة المهمة نرجو أن تكلل بالنجاح، فبمثل هذه المشاريع يمكن الإجابة عن الكثير من الأسئلة العالقة في شأن الأدب وصنوف التأليف الأخرى في عمان، ولربما أمكن الاشتغال على أسئلة أكثر جدوى من السؤال عن مستقبل القصة القصيرة أو مستقبل غيرها من أشكال الفنون الكتابية؛ لأن تكرار سؤال على هذا النحو – في القصة القصيرة أو في غيرها – يغدو مستفزا، وكأنما بات طرحه مجرد كليشيه إعلامي لا يخدم حاضر الأدب، ولا ينفع مستقبله وإن صدقت التكهنات؛ إذ لا يبدو أن في وسعه أن يقود إلى قيمة معرفية أو الكشف عن واقع هذا الجنس الأدبي لدى كتّابه ومتلقيه، وإلا فإن البحث عن آليات لمتابعة الإصدارات الأدبية فنيا وتسويقها إعلاميا أكثر أهمية من استشراف مستقبلها في الوقت الذي لا تجد حاضرا تعيش فيه. وهل هناك مستقبل يمكن الحديث عنه لمن لا يجد حاضره أصلا؟ أليست هذه إجابة بديهية بالضرورة؟ وكأننا فعلنا كل شيء إزاء أسئلة الحاضر ولم يبق سوى التكهن بالمستقبل!

كل ما سبق لا ينعزل عن دور النقد الأدبي في تقديم المنجز القصصي – وغيره بطبيعة الحال – وتصديره للمشهد الثقافي، إذ يبدو أنه الأساس في تقديم شهادة عن حيويّة المشهد الأدبي، وذلك عندما يجد الأدب من يتابعه بأدوات المراجعة الفنية والكشف النقدي، وهذه أم الإشكاليات! وهنا نستعيد عبارة قالها الروائي حسين العبري في ندوة (المشهد الروائي العماني راهنه ومستقبله) التي أقامتها مجلة نزوى في عام 2016، ونُشرت مجرياتها في عددها (86) بمشاركة روائيين عدة ونقاد، قال: «في عمان لا نعرف صراحة إن كنا نكتب الرواية بشكل جيد أو رديء»، ونضيف: ليست الرواية وحدها وإنما كل أشكال الكتابة الإبداعية؛ بسبب قصور المتابعة النقدية والمراجعات الفنية. الأمر الذي قد يصيب الكاتب بالإحباط لعدم وجود رجع صدى لما يكتب، وأحيانا يحدث أن تمضي على الإصدار السنون من غير أن يلتفت إليه أحد فضلا عن العلم به. هل بوسعنا مثلا أن نتجاهل عبارة الباحث والقاص أحمد الحجري في حوار صحفي أجرته معه جريدة عمان إثر فوز مجموعته القصصية «وجه رجل ميت» بجائزة الجمعية للإبداع الثقافي والإنجاز الأدبي لعام 2022، عندما قال إن فوز مجموعته بالجائزة لفت إليها الانتباه، رغم أنها صدرت في عام 2020، ولكنها لم تحظ منذ ذلك الوقت باهتمام يُذكر!

من المسلّم به أن النقد في عُمان متأخر عن الأدب، كما هو الحال في الوطن العربي عموما؛ فالأمر كما وصفه صلاح فضل قبل سنوات: «في وطننا العربي نعاني من مجاعة نقدية»، أو كما قيل في وصف المعادلة غير المتكافئة بين الأدب والنقد: «العربة تجرُّ الحصان». وجرت العادة في نقاش كهذا، يدور فيه الحديث عادة عن قصور النقد عن مواكبة الإنتاج الأدبي، أن تتوجّه أصابع الاتهام تلقائيا إلى النقاد أو المشتغلين به، ولكن لم يحدث أن طرح أحدهم سؤالا بطريقة مغايرة: ماذا نفعل من أجل إيجاد حركة نقدية فاعلة؟ ماذا لو اشتركنا جميعا كتّابا وباحثين وقراء مع المؤسسة الثقافية الرسمية والمؤسسة الأكاديمية في البحث عن إجابات لهذا السؤال؟ أليس نقاش كهذا أكثر جدوى من استشراف مستقبل هذا الجنس أو ذاك في واقع لا يجد حاضره؟!