أعمدة

قوة الصمت

عبـدالله الشـعيلي -01
 
عبـدالله الشـعيلي -01
أعرف كثيرًا من البشر ممن يمكن أن يتسموا بالانطوائية، فهم منعزلون عمن حولهم متقوقعون على أنفسهم لا يعنيهم ضجيج العالم ولا صخب الحياة، اختاروا أن ينأوا بأنفسهم عن البشر ويعتزلوا الكثير من المجالس ويركنوا إلى الصمت والسكون ليتخذوا من العزلة ملاذا وسكنا لهم. يجدون في الصمت لذة وفي الخلوة حياة وفي الوحدة أمانا واطمئنانا وفي الاعتزال سعادة، متعتهم الكبرى في البقاء بعيدا عن الأنظار والاختباء عن أعين الناس والتلذذ بالجلوس مع الذات ومرافقة ما لا يتحدث والاتكاء على بعض العادات التي تجلب له السعادة في وحدته كتقليب كتاب أو الانشغال ببحث أو العمل في حقل أو حتى البقاء صامتا دون فعل أي شيء.

هل يعد من يحمل هذه الصفات مريضا وبحاجة إلى علاج نفسي؟ أو أن الأمر لا يعدو كونه الركون إلى عالم السكون والدعة والهرب من ضجيج البشر والحياة؟ سؤال يشخصه أطباء السلوك بأنه مرض نفسي إن توفرت في الشخص بعض الخصائص كاعتزالهم البشر وإن أبقى على بعض العلاقات فلا تتعدى أصابع اليد الواحدة، يركنون إلى الصمت والسكون والهدوء والاكتفاء بالمراقبة والمشاهدة لما حولهم من دون إبداء تعليق أو كلام وغيرها من الخصال التي تصنف صاحبها بأنه بحاجة إلى علاجات تخرجه من صمته وانطوائيته تلك.

بهذه الخصال وجدت نفسي عالقا في وسط الانطوائية في بعض الأحيان وليس الأغلب، لكنني أعرف من هو أشد انطوائية مني ممن يعتزل الحياة فلا يعرف فيها سوى مكان أو اثنين فقط هما مسار حياته كلها يتنقل بينهما كأنهما قطع شطرنج في رقعة صغيرة، يحيط نفسه بالصمت في أغلب الأوقات وأجزم أنه لا يتحدث إلا إلى نفسه أو لوحه المحمول فهو أعز أصدقائه. عندما تسنح فرصة للمواجهة يعلق قائلا: إن الحياة هكذا أجمل.

حضرت ندوة ناقشت «آثار ما بعد الجائحة» وتعني الآثار التي خلفها وباء كورنا على البشرية وتحديدا فيما يخص الجوانب النفسية والاجتماعية للبشر، وخلص المجتمعون إلى أن أحد أهم الآثار تلك هي الوحدة والانطوائية حيث عمقت الجائحة من عزلة الناس وانطوائيتهم وعدم حبهم للتجمع أو الحديث والانكفاء إلى العزلة والخوف من مخالطة البشر وعدم الرغبة في مغادرة المنزل للقيام بأي عمل.

عدد الانطوائيين زاد في العالم من حولنا لا سيما في فئات الشباب وصغار السن كما أشار أحدهم في تلك الندوة وإن لم يتدخل المجتمع والأهل وذوو الاختصاص في الحد من هذه الظاهرة فإن أعداد ممن يفضلون الوحدة سيزداد وهذا ما قد يؤثر في جوانب كثيرة في الحياة كالجوانب الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والسلوك والقيم وغيرها من الظواهر التي قد تموت بموت التجمعات البشرية.

طاف في عقلي الكثير من النماذج التي أعرفها أو التي سمعت عنها عبر التاريخ ممن يوسمون بأنهم انطوائيون وانعزاليون من أمثال نيوتن وداروين وأينشتاين، وشوبان، والروائي جورج أورويل والمخرج السينمائي ستيفن سبيلبرج، وبيل جيتس والزعيم الهندي مهاتما غاندي، فقلت في نفسي إن كان هؤلاء قد وسموا بالانطوائية وهم من غيّر مسار البشرية كل بطريقته في العلم والفن والموسيقى والتقنية فقد يكون من المشجع أن يركن الإنسان إلى الانعزال والانطوائية إن كان في إمكان عزلته أن تحقق له ما حققت لغيره.

المثل العربي يقول: «إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب» ولا أحسب أن وصفا جميلا لقوة الصمت سيكون أفضل من هذا المثل ولولا أن في الصمت الكثير من الفوائد لما فضله الأوائل، ولولا أن اعتزال الناس في كثير من الأمور أفضل من الخوض معهم لما حثت عليه العلوم الحديثة التي تعنى بالنفس وشؤونها وشجونها.