أفكار وآراء

تأملات في أحوال الزلزال

كنت أنوي أن أستأنف مقالي السابق عن الفن والحياة بكتابة مقال آخر عن صلة الفن بالسياسة، لكن كارثة الزلزال المروِّع الذي ضرب مؤخرًا تركيا وسوريا قد استدعى عندي تأملات تطغى على ما عداها. ولقد سبق أن تناولت في هذه الجريدة الرصينة كارثة وباء «كورونا» في مقال بعنوان «تأملات في أحوال الوباء»، لكن كارثة الزلزال الأخير تستدعي تأملات أخرى لها خصوصيتها. وأول ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن كارثة وباء كورونا- مثل أنواع الوباء الأخرى التي عانت منها البشرية فيما مضى: كالطاعون وغيره- هي كارثة تدوم عدة سنوات، تحصد تباعًا أعدادًا هائلة من الأرواح، ولكن البشر مع وطأة هذا النوع من الكوارث يحدوهم الأمل في الفرار أو النجاة منها؛ أما كارثة الزلزال فهي كارثة «لحظية» أو «خاطفة» تأتي الناس بغتةً. تحدث هذه الزلازل بفعل عوامل جيولوجية لا يعنينا الخوض فيها؛ لأنها تخرج عن نطاق اختصاصنا وتأملنا.

هذه الخاصية المباغتة للزلزال تتبدى في مدته القصيرة: ثوان لم تتجاوز الدقيقة، ولكنها دمرت منشآتٍ ومبانٍ سكنية لها تاريخ، وأفنت حيوات عشرات الآلاف من البشر، وخلَّفت ما يقرب الآن من مائة ألف من الضحايا والمصابين، ليعيشوا في العراء تحت وطأة طقس جليدي قاس، خاصة في شمال سوريا. تأمل دلالة هذا المشهد من الناحية الوجودية: بشر استغرقوا في النوم أو تهيأوا له في الساعة الأولى من صباح يوم تالٍ، أو تهيأوا ليوم عمل جديد، وآخرون قد استغرقوا في حلم بهيج بأن يأتيهم الغد بما يحلمون. هذه الحالة المباغتة تستدعي أيضًا نوعًا من التأمل في الدلالة الدينية للحدث التي استولت على كثير من المواقع الإعلامية، خاصةً المواقع المرتبطة بإعلام السلفيين؛ إذ أثارت هذه المواقع القضية التالية: هل هذه الكارثة الزلزالية هي انتقام الله من البشر الذين نسوا دينهم ومارسوا الفسق والفجور والعصيان؟ وكما هو متوقع، فإن إجابة السلفيين المتشددين هي بالإيجاب لا النفي؛ لأن مثل هؤلاء لا يعرفون من الدين سوى صورة متجهمة تؤكد على الزجر والعقاب والتكفير؛ وهم يستندون في أقوالهم عادةً على نوع من التعميم الذي ينافي كل تفكير منطقي، فيقولون إن هذا يشبه عقاب الله لقوم عاد وثمود!! أما الفقهاء حقًّا ممن يفهمون روح الدين وحقيقته، فقد ذهبوا إلى أن هذا النوع من الكوارث هو شكل من أشكال الابتلاء لا العقاب: فليس من المعقول أن نتصور أن الله الرؤوف الرحيم يعاقب جملة هائلة من البشر فيهم الصالح والطالح؛ لأن هذا يتنافى مع طبيعة العدالة الإلهية نفسها وحكمتها.

ولا شك في أن هناك دلالة دينية نصية تتعلق بالدين الإسلامي في هذه المسألة؛ إذ يقول المولى عز وجل في الآية التي حفظناها منذ طفولتنا: «إذا زُلزلت الأرض زِلزَالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان ما لها، يومئذ تُحدِّث أخبارها بأن ربك أوحى لها». ولكننا عندما نتأمل معنى هذه الآية الكريمة بعمق، سوف نفطن إلى دلالتها الوجودية، وهي الإشارة إلى الزلزال الأعظم في الوجود الذي سوف يأتي يومًا ما، لا باعتباره زلزالًا من الزلازل القوية التي عرفتها البشرية، وإنما باعتباره يوم القيامة نفسه! وكأن الزلازل التي عرفتها البشرية- مهما بلغت قوتها- ليست سوى «بروفات» على الزلزال الأعظم الذي لم تعرفه البشرية يومًا، ولكنها سوف تعرفه يوم القيامة. الدلالة الوجودية للنص الديني هنا هي دلالة عميقة بعيدة؛ فهي لا تتعلق بالزلازل التي تحدث في مناطق معينة هنا وهناك؛ وإنما تتعلق بزلزال الكرة الأرضية نفسها، فليست الزلازل التي تحدث هنا وهناك- مهما كانت قوتها- سوى «بروفات» للزلزال الأعظم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أو- على الأقل- لا يتعظون! وأظن أن هذا هو المعنى الميتافيزيقي للنص الديني. الأرض التي تشكلت منذ أكثر من أربع مليارات سنة، لا يزال باطنها جمرة من سعير النار، ولم يبرد سوى قشرتها التي نعيش عليها، ولكنها من حين لآخر تُعلن عن حقيقتها التي نغفل عنها نحن البشر: فهي حينما تريد أن تتنفس تُحدث البراكين، وهي حينما تريد أن تتمطى تحدث لنا الزلازل هنا وهناك؛ فما بالك إن أوحى الله لها أن تتنفس وتتمطى كلها في آن، وذلك على الله يسير؛ إذا كنا نؤمن بالتفسير الديني الميتافيزيقي للكون.

لكن المسألة لها أبعاد أخرى بخلاف البعد الديني الميتافيزيقي، فالبعد السياسي حاضر بقوة: البشر الذين ضربهم الزلزال في شمال سوريا لم يتلقوا الإغاثة نفسها التي تلقاها البشر في تركيا لأسباب سياسية: فهم منبوذون في أوطانهم، وهم ممزقون بين قوى دولية تهيمن عليهم؛ ولذلك أصبحوا صرعى لقوى الطبيعة أيضًا، ولم تسع المساعدات الدولية المتقدمة إلى إنقاذهم إلا بعد فوات الأوان؛ وهذا دليل دامغ على لا إنسانية السياسة. الدول الغربية المتقدمة التي تتشدق بحقوق الإنسان لم تسارع إلى إنقاذ هؤلاء، بل إن الصحيفة المارقة العدوانية في أكبر دولة ديمقراطية في أوروبا، وهي صحيفة شارل إيبدو التي طالما سخرت من نبي الإسلام، لم تتورع عن السخرية من هذا الوضع الإنساني المأساوي!

لقد لاحظ الفيلسوف بيتر سينجر في كتابه «الحياة التي يمكنك إنقاذها» أن البشر فيما يتعلق بالكوارث الزلزالية وغيرها، لا يبادرون إلى مساعدة إخوانهم في الإنسانية بالقدر نفسه الذين يساعدون أنسباءهم وبني وطنهم. فلقد حدثت في العقدين الأخيرين زلازل مروعة في الصين وجنوب شرق آسيا (تفوق آثارها المدمرة زلزال تركيا وسوريا)، ولكنها لم تجد من الأمريكيين إلا القليل جدًا من التبرع بالقياس إلى تبرعهم من أجل إعصار كاترينا الأخف هونًا بكثير.

العالم الغربي المتحضر يحتاج إلى أن يكون أكثر إنسانية والتزامًا بحقوق الإنسان بما هو إنسان.