منازل ظفار القديمة.. شواهد حية تجسد مهارة الصانع العماني
تتميز باعتدال الحرارة طيلة العام
الجمعة / 18 / رجب / 1444 هـ - 19:19 - الجمعة 10 فبراير 2023 19:19
العجيلي: طريقة بناء قصر الحصن وقصر المعمورة استخدم فيها مواد اضافية -
مقيبل: الجهات المختصة مطالبة بالاهتمام بالبيوت القديمة وجعلها مزارات سياحية -
أكدت عمارة البيت العماني القديم في محافظة ظفار مدى مهارة البناء والصانع العماني باستخدامه المتاح من الخامات المحلية حتى أفرز فيما بعد ذلك فنا جميلا من منازل حوت أشغالا من الأحجار والطين والأخشاب تراثا يقصده زوار المحافظة وذكرى لكبار الأهالي الذين هجروا هذه المنازل مع ظهور المواد والعمران الحديث.
وتتميز مواقع بناء المنازل في محافظة ظفار بقربها من مصادر المياه وإقامتها على مناطق ساحلية بحيث تقسم شوارعها بطريقة ينفذ الهواء إلى أماكن مختلفة بينها.
وكان صاحب المنزل المراد إنشاؤه يعمل على التعاقد مع ما يطلق عليه الكبير وهو الشخص الذي يعمل في مقام المقاول حاليا ويكون الكبير ملما، وذو خبرة عالية في مجال المسح الأرضي للمواقع والتخطيط وهو أيضا الاستشاري للمنزل ومن يتحمل مسؤولية رداءة البناء ومشكلاته ويحاسب الأساتذة والعمال على التأخير في العمل.
تخطيط المنازل
يقوم بعد ذلك – الكبير – بتفصيل المنزل بعصي رفيعة حسب ما أراد صاحب المنزل من غرف نظرا للظروف المالية ومقدرته على مواصلة البناء دون توقف، ثم يقوم العمال بجلب المواد اللازمة للبناء والشروع فيه من صبيحة اليوم الثاني بعد عمل التخطيط الكامل للمنزل.
وترتفع أسعار المواد اللازمة للبناء من حجر وخشب وغيره متلازما مع كثرة المباني في المنطقة الواحدة في موسم واحد نظرا لقلة أعداد العاملين في هذا المجال، وهم عمال قص الأحجار وناقلو الأخشاب ولا يتعدى بناء المنزل ثلاثة أشهر إذا تم العمل به دون توقف.
وكانت الأحجار الخاصة - حجر القص - تجلب من مواقع محددة في محافظة ظفار وقد كانت المنطقة تقريبا تضج بكميات كبيرة من هذه الأحجار تنتشر في السهول الساحلية وهي عبارة عن أحجار رملية سهلة التشكيل يتم فصلها من المواقع المتواجدة بها عن طريق -الهيب- وهو عبارة عن عصا حديدية ضخمة وثقيلة الوزن، وتبلغ قيمة المائة حجر مقصوصة على شكل مستطيل 10 – ريالات فرانص – سابقا وهي العملة التي كانت تتداول في المنطقة وكان صاحب المنزل هو الذي يقوم بنقل هذه الأحجار من مواقعها إلى مكان البناء نظير أجر يدفعه إلى الأشخاص الذين يمتلكون الجمال وتعتمد أسعار ذلك على قرب المكان وبعده من مكان إلى آخر.
أشجار النخيل وجوز الهند
أما عن الأخشاب المستخدمة في المنزل فكانت تجلب من أعالي السهل بقرب الجبل ومن المزارع القريبة من موقع العمل، حيث كان أهل الريف يقومون بتجهيز العصي الطويلة من أفرع أشجار - الخمير- محليا وقصها إلى قطع بطول الذراع الواحد ونقلها على الجمال وبيعها في أسواق المدينة في منطقة الحصن الذي يعتبر السوق العام في المدينة سابقا ومبادلته بكميات من الزاد يتم الاتفاق عليها بين البائع والمشتري وأما الأشجار المستخدمة كأعمدة في السقف وفوق نوافذ المنزل فكانت تؤخذ من أشجار النخيل - جوز الهند - في المزارع حيث يقوم الأستاذ – المهندس باختيار شجرة نخيل وفحص الجذع جيدا ومعرفة جودته وقدرته بالاعتماد على الخبرة العالية في هذا المجال، ويتم ذلك بإدخال قطعة من الحديد في الجذع وملاحظة صعوبة اختراق هذه القطعة لهذا الجذع وبهذه الطريقة يتم قياس جودة هذه النخلة ليقوم بعد ذلك صاحب المنزل بشراء هذه النخلة، ومن ثم يقوم النجارون وهم الموكلون بأعمال القص للخشب بتقطيع هذه النخلة إلى قطع بطول السقف المراد تغطيته وتجميع السعف المتبقي من النخلة وفرشها وتغطية السقف به.
رحلة بناء شاقة
وكان العاملون في بناء المنزل تتراوح أعدادهم بين الخمسة عمال إلى الثلاثين عاملا ينقسمون إلى أساتذته وعمال النقل والمساعدة ونجارين ويعتمد هؤلاء على عدد من الأدوات في عملية بنائهم للمنزل كان منها: الهيب والتجارية (قطعة من الحديد يحمل بها الطين) والميزان وهو خشب لقياس الاستواءات في المنزل، والسحالة التي تقوم بتمليس الأحجار التي تطل على الغرف من الداخل.
وقد اختلفت أجور عمال البناء سابقا حيث كانت عبارة عن طعام يوم واحد فقط، ثم بعد ذلك أصبح أجر الشخص العامل ريالا في أربعة أيام، ثم ارتفعت الأسعار إلى أن وصلت 4 ريالات لليوم الواحد، وأما الكبير فكانت له حصة خاصة من بناء المنزل يتم الاتفاق عليها مع صاحب المنزل وتصل إلى 200 ريال.
وكان صاحب المنزل يقوم بإطعام العمال في منزله لوجبتي الفطور والغداء فقط، خاصة عندما يبعد المنزل المراد بناؤه عن منازل العمال وكانت النساء يقمن بتجهيز الذرة المحلية وطحنها في الساعات الأولى من الصباح وعمل العصيدة بالسمن البلدي كوجبة تقدم يوميا للعاملين على بناء المنزل بالإضافة إلى عمل الخبز وتجهيز الماء للشرب.
ويتحدث محمد بن جمعان بن عبدالله بن الفقيه العجيلي أحد أساتذة البناء سابقا قائلا: إن رحلة العمل الشاقة تبدأ بعد صلاة الفجر حيث يتجمع العاملون والأساتذة في مكان محدد سابقا سواء كان أحد المنازل أو في مساجد المدينة حاملين كافة المعدات اللازمة على أكتافهم لمسيرة مسافات طويلة قد تصل لربع يوم والعودة بنفس الوقت، ولم يكن هناك وقت للاستراحة أو الاسترخاء سواء دقائق قصيرة كنا نقضيها في تناول الغداء.
قلعة الحصن
ويقول الفقيه إنه قد عمل في بناية قلعة الحصن – قصر الحصن حاليا – وقصر المعمورة وقد كانت الطريقة في بناء هذه القصور تختلف قليلا عن منازل المواطنين، حيث يتم إضافة الجير الذي يستخرج من الأحجار بعد حرقها بالنار وكان يقوم الجير في صب أرضية الغرف والأسقف في القصر واستخدام الأحجار في عملية السقف على شكل أقواس وعكوف لم تكن تستخدم في منازل المواطنين إلا مؤخرا.
وقد أنشئت جميع المباني في محافظة ظفار مواجهة للبحر وينقسم المبنى إلى ثلاثة أدوار رئيسية، وهي الدهاليز لأغراض التخزين، والمحايل وهي غرف السكن، والدرج والقصور وهي مجموعة من الغرف في الدور الثاني تستخدم في السكن أيضا، كما كان المبنى يشتمل على سور حول المنزل يحتوي على بئر وحظائر للحيوانات.
وأضاف الفقيه إن صبّية السقف تعمل بعد اكتمال بناء الأحجار وإيصالها للارتفاع المراد حيث توضع الجسور أو -الإقبال- على جدران المبنى بأشكال متوازية وعادة ما تكون من أشجار جوز الهند أو شجرة الخفوت، بعد ذلك تغطي هذه الجسور بخشب الركراك وهي أعواد
صغيرة بطول الذراع ملاصقة لبعضها البعض ثم يوضع سعف النخيل عليها، ثم تطمي بالطين المخلوط بالماء وبقايا مخلفات الذرة ومواد أخرى على كامل منطقة السقف، وقال إن الطلاء الداخلي لم يعرف مؤخرا وهو عبارة عن مسحوق أبيض من الرمل يستخرج من بقايا الأحجار بعد حرقها كما أن الأستاذ ذا الكفاءة العالية في البناء يقوم بتزيين بعض الغرف بتشكيلات تشبه الجبس حاليا.
وتتميز هذه المنازل باعتدال في الحرارة طيلة أيام السنة لأنها تفرد جوا من هواء بارد ولم يذكر الفقيه أن الأهالي كانوا يعانون بداخلها حرا أو بردا نظرا لتصميمهما من قبل فنيين وخبراء كانوا يعتمدون دراسة مداخل الهواء ومخارجه في الأنحاء المختلفة للمنزل بالإضافة إلى المواد المستخدمة في بنائها أيضا من الأحجار والطين.
حارات تاريخية
وقال الدكتور سالم بن عقيل مقيبل، باحث في تاريخ عمان الحديث والمعاصر: يبلغ عدد الحارات التاريخية في ظفار حوالي إحدى عشرة حارة تاريخية منها: (حافة الشنافر وحافة السادة وحافة الرواس وحافة المراهين وحافة عوقد الشرقية وحافة عوقد الغربية والدهاريز القديمة وطاقة القديمة ومرباط القديمة وسدح القديمة ورخيوت القديمة) وهذه الحارات بما فيها المساجد الأثرية والبيوت القديمة، يتجاوز عمرها تقريبا مائتين إلى ثلاثمائة سنة، حيث تعاقبت عليها الأجيال جيلا بعد جيل، وتُعرف هذه البيوت عادةً بساكنيها، وتتميز بطراز معماري ظفاري ذي طابع خاص، حيث يظهر ذلك في تفاصيل الهندسة الداخلية للبيت، كما يمكن مشاهدة ملامح هذا الطراز في تفاصيل الشكل المعماري الخارجي، وقد أثارت زوايا التهوية الداخلية للبيوت الأثرية الظفارية، اندهاش بعض المهندسين المعماريين بجامعة السلطان قابوس، بقيادة البروفسورة نعيمة أحمد بن قاري، حيث عبرت عن اندهاشها وإعجابها بهذه الخصوصية المنفردة لتفاصيل وملامح الهندسة الظفارية الفريدة.
وأضاف مقيبل إن التراث الثقافي المعماري يُمثل هوية المجتمع وثقافته، ونحن اليوم بحاجة إلى حفظ وحماية هذا التراث من العبث والتلف والاندثار حتى تتمكن الأجيال القادمة من دراسته ومعرفته والاستفادة منه، كما أن هذه الحارات التاريخية ستمثل الوجهة السياحية الأولى في المرحلة المقبلة من العالم.
وعن تصميم المباني القديمة يقول الدكتور سالم مقيبل: صُممت هذه البيوت لتعيش وتتكيف مع البيئة وتناسب سكانها، وهي مكونة من الحجر الجيري (الحجر القص) الذي يُقلع من المحاجر، مع الطين الجيري (الخطري) والخشب المحلي المستخرج من أشجار النارجيل (جوز الهند)، أما عن سماكة الجدار فيمتّد عرضه إلى حوالي متر تقريبا، والمداخل تكون على أشكال أقواس نصف دائرة بنسق هندسي فريد.
مراكز تراثية وثقافية
وأضاف مقيبل من هنا نناشد الجهات المختصة بالاهتمام بهذه البيوت التراثية وإعادة بنائها، وجعلها مراكز ثقافية ومزارات سياحية للزوار والسياح، ولنا في النماذج الأهلية خير مثال على الاهتمام بالبيوت الأثرية، حيث قام أحفاد التاجر سالم بن أحمد السيل الغساني بترميم بيت جدهم الأثري ليصبح اليوم علامة بارزة للتراث الظفاري القديم، والذي سيتحول مستقبلا إلى متحف تراثي مذهل وسيفتح لطلاب كلية الهندسة والطراز المعماري بعمان، آفاقًا رحبة وجديدة في البحث والتصميم والإبداع، كما أنه سيعمل على إثراء السياحة المعمارية والتراثية بالمحافظة، وهناك نموذج آخر يتمثل في بيت السيد عبدالله بن إبراهيم الذي بناه معالي يوسف بن علوي آل إبراهيم، وهو بيت خاص يجسد الطراز المعماري بظفار، أما النموذج الثالث فهو بيت نزوى أو بيت “سيدوف” في مرباط الذي آلت ملكيته مؤخرا لوزارة التراث والسياحة. ونُهيب بالوزارة بأن تنهي أعمال الترميم والتطوير لهذا المعلم التاريخي الفريد لما يُمّثله من قيمة تاريخية كبيرة للمحافظة.
ويرى الباحث مقيبل أنّ هذه البيوت الأثرية القديمة، يُمكنها أن ترفد الاقتصاد الوطني وتوجد فرص عمل جديدة للباحثين عن عمل حيث يمكن الاستفادة منها في أكثر من جانب من خلال إنجاز متاحف تحوي تراث المنطقة، مثل بيت الشيخ سالم السيل الغساني وممكن استخدامها مكتبات أثرية تحوي الكتب والمخطوطات والوثائق القديمة الذي يحكي التراث العلمي أو تحويلها الى نزل تراثي للسياح أو بيوت تراثية خاصة، وقال مقيبل نناشد وزارة السياحة ووزارة التراث والثقافة، وغيرها من الجهات المختصة أن تقوم بدعم هذه المشاريع التي ستعمل على حماية هذا التراث المعماري، كما أنها ستسهم بشكل كبير في دعم وتعزيز السياحة التاريخية والتراثية لعمان، خصوصا في ظل ازدهار هذا النوع من السياحة على مستوى العالم، باعتبار عمان سلطنة عريقة لها هوية تاريخية خاصة وإرث حضاري عظيم، ولا بُّد أنْ تظهر تراثها وتاريخها للعالم بصورة رائعة ومنظمة.
مقيبل: الجهات المختصة مطالبة بالاهتمام بالبيوت القديمة وجعلها مزارات سياحية -
أكدت عمارة البيت العماني القديم في محافظة ظفار مدى مهارة البناء والصانع العماني باستخدامه المتاح من الخامات المحلية حتى أفرز فيما بعد ذلك فنا جميلا من منازل حوت أشغالا من الأحجار والطين والأخشاب تراثا يقصده زوار المحافظة وذكرى لكبار الأهالي الذين هجروا هذه المنازل مع ظهور المواد والعمران الحديث.
وتتميز مواقع بناء المنازل في محافظة ظفار بقربها من مصادر المياه وإقامتها على مناطق ساحلية بحيث تقسم شوارعها بطريقة ينفذ الهواء إلى أماكن مختلفة بينها.
وكان صاحب المنزل المراد إنشاؤه يعمل على التعاقد مع ما يطلق عليه الكبير وهو الشخص الذي يعمل في مقام المقاول حاليا ويكون الكبير ملما، وذو خبرة عالية في مجال المسح الأرضي للمواقع والتخطيط وهو أيضا الاستشاري للمنزل ومن يتحمل مسؤولية رداءة البناء ومشكلاته ويحاسب الأساتذة والعمال على التأخير في العمل.
تخطيط المنازل
يقوم بعد ذلك – الكبير – بتفصيل المنزل بعصي رفيعة حسب ما أراد صاحب المنزل من غرف نظرا للظروف المالية ومقدرته على مواصلة البناء دون توقف، ثم يقوم العمال بجلب المواد اللازمة للبناء والشروع فيه من صبيحة اليوم الثاني بعد عمل التخطيط الكامل للمنزل.
وترتفع أسعار المواد اللازمة للبناء من حجر وخشب وغيره متلازما مع كثرة المباني في المنطقة الواحدة في موسم واحد نظرا لقلة أعداد العاملين في هذا المجال، وهم عمال قص الأحجار وناقلو الأخشاب ولا يتعدى بناء المنزل ثلاثة أشهر إذا تم العمل به دون توقف.
وكانت الأحجار الخاصة - حجر القص - تجلب من مواقع محددة في محافظة ظفار وقد كانت المنطقة تقريبا تضج بكميات كبيرة من هذه الأحجار تنتشر في السهول الساحلية وهي عبارة عن أحجار رملية سهلة التشكيل يتم فصلها من المواقع المتواجدة بها عن طريق -الهيب- وهو عبارة عن عصا حديدية ضخمة وثقيلة الوزن، وتبلغ قيمة المائة حجر مقصوصة على شكل مستطيل 10 – ريالات فرانص – سابقا وهي العملة التي كانت تتداول في المنطقة وكان صاحب المنزل هو الذي يقوم بنقل هذه الأحجار من مواقعها إلى مكان البناء نظير أجر يدفعه إلى الأشخاص الذين يمتلكون الجمال وتعتمد أسعار ذلك على قرب المكان وبعده من مكان إلى آخر.
أشجار النخيل وجوز الهند
أما عن الأخشاب المستخدمة في المنزل فكانت تجلب من أعالي السهل بقرب الجبل ومن المزارع القريبة من موقع العمل، حيث كان أهل الريف يقومون بتجهيز العصي الطويلة من أفرع أشجار - الخمير- محليا وقصها إلى قطع بطول الذراع الواحد ونقلها على الجمال وبيعها في أسواق المدينة في منطقة الحصن الذي يعتبر السوق العام في المدينة سابقا ومبادلته بكميات من الزاد يتم الاتفاق عليها بين البائع والمشتري وأما الأشجار المستخدمة كأعمدة في السقف وفوق نوافذ المنزل فكانت تؤخذ من أشجار النخيل - جوز الهند - في المزارع حيث يقوم الأستاذ – المهندس باختيار شجرة نخيل وفحص الجذع جيدا ومعرفة جودته وقدرته بالاعتماد على الخبرة العالية في هذا المجال، ويتم ذلك بإدخال قطعة من الحديد في الجذع وملاحظة صعوبة اختراق هذه القطعة لهذا الجذع وبهذه الطريقة يتم قياس جودة هذه النخلة ليقوم بعد ذلك صاحب المنزل بشراء هذه النخلة، ومن ثم يقوم النجارون وهم الموكلون بأعمال القص للخشب بتقطيع هذه النخلة إلى قطع بطول السقف المراد تغطيته وتجميع السعف المتبقي من النخلة وفرشها وتغطية السقف به.
رحلة بناء شاقة
وكان العاملون في بناء المنزل تتراوح أعدادهم بين الخمسة عمال إلى الثلاثين عاملا ينقسمون إلى أساتذته وعمال النقل والمساعدة ونجارين ويعتمد هؤلاء على عدد من الأدوات في عملية بنائهم للمنزل كان منها: الهيب والتجارية (قطعة من الحديد يحمل بها الطين) والميزان وهو خشب لقياس الاستواءات في المنزل، والسحالة التي تقوم بتمليس الأحجار التي تطل على الغرف من الداخل.
وقد اختلفت أجور عمال البناء سابقا حيث كانت عبارة عن طعام يوم واحد فقط، ثم بعد ذلك أصبح أجر الشخص العامل ريالا في أربعة أيام، ثم ارتفعت الأسعار إلى أن وصلت 4 ريالات لليوم الواحد، وأما الكبير فكانت له حصة خاصة من بناء المنزل يتم الاتفاق عليها مع صاحب المنزل وتصل إلى 200 ريال.
وكان صاحب المنزل يقوم بإطعام العمال في منزله لوجبتي الفطور والغداء فقط، خاصة عندما يبعد المنزل المراد بناؤه عن منازل العمال وكانت النساء يقمن بتجهيز الذرة المحلية وطحنها في الساعات الأولى من الصباح وعمل العصيدة بالسمن البلدي كوجبة تقدم يوميا للعاملين على بناء المنزل بالإضافة إلى عمل الخبز وتجهيز الماء للشرب.
ويتحدث محمد بن جمعان بن عبدالله بن الفقيه العجيلي أحد أساتذة البناء سابقا قائلا: إن رحلة العمل الشاقة تبدأ بعد صلاة الفجر حيث يتجمع العاملون والأساتذة في مكان محدد سابقا سواء كان أحد المنازل أو في مساجد المدينة حاملين كافة المعدات اللازمة على أكتافهم لمسيرة مسافات طويلة قد تصل لربع يوم والعودة بنفس الوقت، ولم يكن هناك وقت للاستراحة أو الاسترخاء سواء دقائق قصيرة كنا نقضيها في تناول الغداء.
قلعة الحصن
ويقول الفقيه إنه قد عمل في بناية قلعة الحصن – قصر الحصن حاليا – وقصر المعمورة وقد كانت الطريقة في بناء هذه القصور تختلف قليلا عن منازل المواطنين، حيث يتم إضافة الجير الذي يستخرج من الأحجار بعد حرقها بالنار وكان يقوم الجير في صب أرضية الغرف والأسقف في القصر واستخدام الأحجار في عملية السقف على شكل أقواس وعكوف لم تكن تستخدم في منازل المواطنين إلا مؤخرا.
وقد أنشئت جميع المباني في محافظة ظفار مواجهة للبحر وينقسم المبنى إلى ثلاثة أدوار رئيسية، وهي الدهاليز لأغراض التخزين، والمحايل وهي غرف السكن، والدرج والقصور وهي مجموعة من الغرف في الدور الثاني تستخدم في السكن أيضا، كما كان المبنى يشتمل على سور حول المنزل يحتوي على بئر وحظائر للحيوانات.
وأضاف الفقيه إن صبّية السقف تعمل بعد اكتمال بناء الأحجار وإيصالها للارتفاع المراد حيث توضع الجسور أو -الإقبال- على جدران المبنى بأشكال متوازية وعادة ما تكون من أشجار جوز الهند أو شجرة الخفوت، بعد ذلك تغطي هذه الجسور بخشب الركراك وهي أعواد
صغيرة بطول الذراع ملاصقة لبعضها البعض ثم يوضع سعف النخيل عليها، ثم تطمي بالطين المخلوط بالماء وبقايا مخلفات الذرة ومواد أخرى على كامل منطقة السقف، وقال إن الطلاء الداخلي لم يعرف مؤخرا وهو عبارة عن مسحوق أبيض من الرمل يستخرج من بقايا الأحجار بعد حرقها كما أن الأستاذ ذا الكفاءة العالية في البناء يقوم بتزيين بعض الغرف بتشكيلات تشبه الجبس حاليا.
وتتميز هذه المنازل باعتدال في الحرارة طيلة أيام السنة لأنها تفرد جوا من هواء بارد ولم يذكر الفقيه أن الأهالي كانوا يعانون بداخلها حرا أو بردا نظرا لتصميمهما من قبل فنيين وخبراء كانوا يعتمدون دراسة مداخل الهواء ومخارجه في الأنحاء المختلفة للمنزل بالإضافة إلى المواد المستخدمة في بنائها أيضا من الأحجار والطين.
حارات تاريخية
وقال الدكتور سالم بن عقيل مقيبل، باحث في تاريخ عمان الحديث والمعاصر: يبلغ عدد الحارات التاريخية في ظفار حوالي إحدى عشرة حارة تاريخية منها: (حافة الشنافر وحافة السادة وحافة الرواس وحافة المراهين وحافة عوقد الشرقية وحافة عوقد الغربية والدهاريز القديمة وطاقة القديمة ومرباط القديمة وسدح القديمة ورخيوت القديمة) وهذه الحارات بما فيها المساجد الأثرية والبيوت القديمة، يتجاوز عمرها تقريبا مائتين إلى ثلاثمائة سنة، حيث تعاقبت عليها الأجيال جيلا بعد جيل، وتُعرف هذه البيوت عادةً بساكنيها، وتتميز بطراز معماري ظفاري ذي طابع خاص، حيث يظهر ذلك في تفاصيل الهندسة الداخلية للبيت، كما يمكن مشاهدة ملامح هذا الطراز في تفاصيل الشكل المعماري الخارجي، وقد أثارت زوايا التهوية الداخلية للبيوت الأثرية الظفارية، اندهاش بعض المهندسين المعماريين بجامعة السلطان قابوس، بقيادة البروفسورة نعيمة أحمد بن قاري، حيث عبرت عن اندهاشها وإعجابها بهذه الخصوصية المنفردة لتفاصيل وملامح الهندسة الظفارية الفريدة.
وأضاف مقيبل إن التراث الثقافي المعماري يُمثل هوية المجتمع وثقافته، ونحن اليوم بحاجة إلى حفظ وحماية هذا التراث من العبث والتلف والاندثار حتى تتمكن الأجيال القادمة من دراسته ومعرفته والاستفادة منه، كما أن هذه الحارات التاريخية ستمثل الوجهة السياحية الأولى في المرحلة المقبلة من العالم.
وعن تصميم المباني القديمة يقول الدكتور سالم مقيبل: صُممت هذه البيوت لتعيش وتتكيف مع البيئة وتناسب سكانها، وهي مكونة من الحجر الجيري (الحجر القص) الذي يُقلع من المحاجر، مع الطين الجيري (الخطري) والخشب المحلي المستخرج من أشجار النارجيل (جوز الهند)، أما عن سماكة الجدار فيمتّد عرضه إلى حوالي متر تقريبا، والمداخل تكون على أشكال أقواس نصف دائرة بنسق هندسي فريد.
مراكز تراثية وثقافية
وأضاف مقيبل من هنا نناشد الجهات المختصة بالاهتمام بهذه البيوت التراثية وإعادة بنائها، وجعلها مراكز ثقافية ومزارات سياحية للزوار والسياح، ولنا في النماذج الأهلية خير مثال على الاهتمام بالبيوت الأثرية، حيث قام أحفاد التاجر سالم بن أحمد السيل الغساني بترميم بيت جدهم الأثري ليصبح اليوم علامة بارزة للتراث الظفاري القديم، والذي سيتحول مستقبلا إلى متحف تراثي مذهل وسيفتح لطلاب كلية الهندسة والطراز المعماري بعمان، آفاقًا رحبة وجديدة في البحث والتصميم والإبداع، كما أنه سيعمل على إثراء السياحة المعمارية والتراثية بالمحافظة، وهناك نموذج آخر يتمثل في بيت السيد عبدالله بن إبراهيم الذي بناه معالي يوسف بن علوي آل إبراهيم، وهو بيت خاص يجسد الطراز المعماري بظفار، أما النموذج الثالث فهو بيت نزوى أو بيت “سيدوف” في مرباط الذي آلت ملكيته مؤخرا لوزارة التراث والسياحة. ونُهيب بالوزارة بأن تنهي أعمال الترميم والتطوير لهذا المعلم التاريخي الفريد لما يُمّثله من قيمة تاريخية كبيرة للمحافظة.
ويرى الباحث مقيبل أنّ هذه البيوت الأثرية القديمة، يُمكنها أن ترفد الاقتصاد الوطني وتوجد فرص عمل جديدة للباحثين عن عمل حيث يمكن الاستفادة منها في أكثر من جانب من خلال إنجاز متاحف تحوي تراث المنطقة، مثل بيت الشيخ سالم السيل الغساني وممكن استخدامها مكتبات أثرية تحوي الكتب والمخطوطات والوثائق القديمة الذي يحكي التراث العلمي أو تحويلها الى نزل تراثي للسياح أو بيوت تراثية خاصة، وقال مقيبل نناشد وزارة السياحة ووزارة التراث والثقافة، وغيرها من الجهات المختصة أن تقوم بدعم هذه المشاريع التي ستعمل على حماية هذا التراث المعماري، كما أنها ستسهم بشكل كبير في دعم وتعزيز السياحة التاريخية والتراثية لعمان، خصوصا في ظل ازدهار هذا النوع من السياحة على مستوى العالم، باعتبار عمان سلطنة عريقة لها هوية تاريخية خاصة وإرث حضاري عظيم، ولا بُّد أنْ تظهر تراثها وتاريخها للعالم بصورة رائعة ومنظمة.