أفكار وآراء

الرسالة الصينية ومنطاد التجسس

كما هي أدبيات السياسة الأمريكية التي تقوم على الإثارة، وخلق مشهد إثارة على الصعيد الإعلامي المحلي والدولي، استغلت الولايات المتحدة الأمريكية ظهور المنطاد الصيني في الأجواء الجنوبية، وبالتحديد على سواحل ولاية كارولينا الجنوبية لتعطي ذلك المشهد الدرامي، وكأنه تجسس صيني في وضح النهار كما لعبت وسائل الإعلام الأمريكية وحتى عدد من القنوات الإخبارية الدور المفتعل لرحلة المنطاد الذي انتهى بإسقاطه بواسطة صاروخ أطلق من طائرة عسكرية أمريكية.

وبصرف النظر عن أهداف المنطاد الصيني ووصوله إلى الأجواء الأمريكية، فإن هناك رسالة صينية واضحة يبدو أنها وصلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية تتعلق بالاختراق الأمريكي لبحر الصين الجنوبي بحجة حماية تايوان علاوة على استعراض القوة، ووضع الصين في موقف محرج أمام الرأي العام الصيني وأمام العالم.

ومن هنا فإن المنطاد الصيني سواء كان هدفه التجسس وهو أمر مستبعد، أو كان هناك انحراف لمسار المنطاد بسبب الرياح القوية في طبقات الجو العليا، لكن الهدف الصيني تحقق وهو أن الذراع الصيني سواء بواسطة المنطاد أو غيره من الأدوات التقنية، وحتى التجسس على مفاصل الدولة الأمريكية، وهو ما تدعيه واشنطن يمكن أن يتحقق، وهذا هو الهدف الاستراتيجي لذلك المنطاد الضال في الأجواء الذي انتهى بسقوطه، وهو يحمل من الأمور الكثير، ترى واشنطن بأنها سوف تفحص بقايا ذلك المنطاد الذي جعل الساحة الأمريكية تعيش توترا لافتا وصل إلى حد إعطاء الأمر من الرئيس الأمريكي بايدن بإسقاط المنطاد في عملية دراماتيكية. ومن خلال النقل المباشر لشبكات التلفزة الأمريكية وعشرات المعلقين والبرامج الحوارية ومن خلال اهتمام كبير بأهداف الخصم الأهم للولايات المتحدة الأمريكية في هذا القرن، وهو عملاق آسيا الصين التي سوف تزيح الولايات المتحدة الأمريكية يوما ما عن قمة الاقتصاد العالمي وفقا لعدد من الدراسات من المراكز البحثية الأمريكية والأوروبية.

إن ذلك الهياج الأمريكي والإثارة الإعلامية تعني أن رسالة الصين قد وصلت بصرف النظر عن هدف ذلك المنطاد الذي حمل أكثر مما يحتمل علاوة على أن مسألة التجسس أصبحت أكثر تعقيدا من خلال التقنية، وأكثر من ذلك بواسطة الأفراد مدعوما بالمال، وهو الأسلوب الأكثر نجاحا على صعيد الاستخبارات في العالم، وأيضا من خلال القوة الناعمة.

وعلى ضوء ذلك المشهد الدرامي الذي شاهده العالم على مدى ساعات وهو يحلق فوق سواحل المحيط الأطلسي وفي المياه الإقليمية للسواحل الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية، فإن ذلك المشهد كان مبالغا سواء بقصد أو غير قصد، بل إن المشهد أعطى هشاشة أمنية للولايات المتحدة الأمريكية، وهو كيف استطاع هذا المنطاد اختراق الأجواء الأمريكية على مدى عدة أيام. كما أن الصين ربما أرادت أن تنتهج الولايات المتحدة الأمريكية ذلك السلوك من الإثارة الإعلامية على وجه التحديد، وتشعر واشنطن بالحرج أمام الشعب الأمريكي، وهو يرى أجواءه يتم اختراقها بواسطة منطاد صيني معاد.

ومن هنا فإن الرد الصيني أن صحت التسمية قد نجح وهو أنها لن تتسامح مع الاختراق العسكري والأمني الأمريكي لبحر الصين الجنوبي بحجة الدفاع عن تايوان.

قضية المنطاد الصيني في الأجواء الأمريكية كانت خطوة غير متوقعة على صعيد الأجهزة الأمنية الأمريكية، وهناك مراجعات سوف تحدث عن اختراق المنطاد للأجواء الأمريكية بصرف النظر عن أهداف ذلك المنطاد، وهل هو منطاد للتجسس على عدد من الأماكن الحساسة والاستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهل كان المنطاد مزودا بكاميرات دقيقة ترسل الصورة مباشرة إلى مراكز الاستقبال في الصين؟ كل هذه الأسئلة سوف يكشف عنها التحقيق الأمريكي وفحص بقايا المنطاد الذي سقط فوق سواحل ولاية كارولينا الجنوبية، كما أن وقف الملاحة الجوية في عدد من الولايات الجنوبية خاصة كارولينا الجنوبية وكارولينا الشمالية لعدة ساعات أضاف للمشهد الكثير من الإثارة، وأوجد قلقا واضحا لمسار المنطاد الصيني ومساره قبل إسقاطه بواسطة إحدى القاذفات الأمريكية.

إن الرسالة الصينية الناعمة وصلت ولعل وصولها بتلك القوة والفاعلية هي تلك الإثارة الإعلامية والتفاعل من قبل البيت الأبيض ووزارة الدفاع، وأجهزة الاستخبارات ولعل ذلك يعود في تصوري أن ذلك المنطاد أطلقته الصين بكل ما تحمله من دلالات ورمزية تتمثل في المواجهة الاستراتيجية الحالية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وهي مواجهة تتعدى في أهميتها وخطورتها المواجهة الاستراتيجية الحالية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية على الأراضي الأوكرانية من خلال الحرب القاسية الحالية التي سوف تدخل عامها الثاني قريبا دون وجود مؤشرات على الحسم العسكري. ولكن يبدو أن مسألة الأرض المحروقة هي التي تبدو الآن من خلال القصف الصاروخي الروسي على المدن الأوكرانية بما فيها العاصمة كييف، كما أن الدعم الأمريكي والغربي سوف يتواصل مما يجعل تلك الحرب مرشحة للاستمرار، وسقوط مزيد من الضحايا وخاصة المدنيين.

إذا كانت الصين هدفت إلى إطلاق المنطاد تجاه الأراضي الأمريكية كبالون اختبار، فقد نجحت تلك الرسالة بامتياز في الصين تقول بوضوح من خلال رمزية المنطاد: بأن اختراق بحر الصين الجنوبي سوف يقابله اختراق السواحل الأمريكية حتى لو كان ذلك بواسطة منطاد كان من أكثر الأخبار إثارة في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، على رغم أن المسألة وفق التحليل لا تستحق تلك الضجة الإعلامية الأمريكية، ومع ذلك تحقق للصين ما كانت تهدف إليه، وهي أن الصين لديها من الأدوات ما يمكنها من الوصول إلى الأجواء الأمريكية، حتى من خلال منطاد يتهادى في الأجواء الأمريكية.