أفكار وآراء

أسواق العمل وكفاءة الأدلة

تشكل البيانات (الأدلة Evidence) مدخلًا مهمًا من مداخل الإصلاح الهيكلي في منظومات اتخاذ القرار في كل القطاعات؛ ذلك أنه كلما توافر نطاق واسع من البيانات (التاريخية – تشخيص الواقع الراهن – التنبؤات المستقبلية) حول موضوع/ قطاع/ قضية معينة، كلما مكّن ذلك صانع القرار ومتخذه من فهم السياق العام الذي تسير فيه تلك القضية واتجاهاتها، وأعطاه بُعد شمولي حول حركتها في إطار الدولة والمجتمع، وعلاقاتها بالقطاعات والمكونات الأخرى. ورغم أن علم (صناعة القرار) أو ما يُعرف بـ 'دعم اتخاذ القرار' يشهد اليوم تطورات محورية في البرامج والتقنيات التي تكشف عن العلاقات والتأثيرات البينية لمنظومة اتخاذ القرار المعتمدة على البيانات، إلا أن هذا النظام يمكن أن يكون فاعلًا شريطة كفاءة البيانات (الأدلة) التي يقوم على تجميعها ومعالجتها كبيانات (أولية). يتحدث إنجل وودكليفتس عن أن نظام دعم اتخاذ القرار (الفاعل) تسمه عدة سمات أساسية، منها:

- إمكانية استخدامه من قبل صانعي القرار على مختلف المستويات الهرمية.

- كونه يدعم المراحل التالية من عملية اتخاذ القرار بما فيها التحليل الفكري للمهام وتطوير الحلول البديلة واختيار الحلول المثلى.

- قدرته على تحليل البيانات الضخمة (منخفضة التنظيم).

- قدرته على التكيف للاستخدام من قبل صانع قرار واحد ومجموعة من الناس.

- تمكينه من تنفيذ طرق مختلفة لصنع القرار.

- قدرته على تحسين كفاءة عملية اتخاذ القرار.

- القدرة على التكيف بسرعة مع المتغيرات داخل النظام الذي يتم تحليله وخارجه.

ونعتقد أن هناك بعدًا أساسيًا لنجاح هذا النظام (الفاعل) هو في قدرته على مشاركة بعض المخرجات للعموم، لتحسن جودة خياراتهم المرتبطة بالقرار العمومي، وهذا مرتبط بشكل أساس بـ (التحليل الفكري Intellectual analysis) و (تحليل الاتجاهات العامة Trend analysis) وهي المهام التي تتجاوز توفير البيانات عن موضوع/ قطاع/ قضية معينة إلى عملية قراءة اتجاهاتها ومعرفة الظروف والعوامل الأكثر تأثيرًا فيها، وبالتالي إمكانية تقديم أدلة (فكرية) واضحة لصانع القرار/ المجتمع على حد سواء فيما يتعلق بالموقف إزاء ذلك الموضوع أو القطاع أو القضية. يمكن أن يكون مثال ذلك أكثر وضوحًا فيما يتصل بأسواق العمل؛ فالكثير من الإرهاصات ونقاط الجدل المتصلة بأسواق العمل والمشكلات الهيكلية التي تواجهها إنما تتأثر في شق منها بجودة البيانات (الأدلة) المتوافرة عن هذه الأسواق، وكذلك بمدى بناء السياسات المرتبطة بسوق العمل على الأدلة Evidence-based policies.

ما يعنينا في هذه المقالة على وجه التحديد كيف يمكن أن تخدم البيانات المتصلة بسوق العمل الأفراد (المجتمع) في حال وجدت بتوافر عالٍ وكفاءة عالية واتساق منهجي لبنيتها من الناحية التاريخية ومن ناحية النمذجة (التوقعات المستقبلية). هناك أسئلة يمكن أن تجيب عليها البيانات من قبيل:

- كيف تغير الطلب تاريخيًا على مخرجات تخصصي أكاديمي معين؟

- كيف تغيرت طبيعة المواقع التي يشغرها خريجو تخصص أكاديمي معين بين القطاعات؟

- كيف تغيرت أجور مخرجات تخصص معين أو وظيفة معينة بحسب التغيرات التي طرأت على القطاع الذي تنشط فيه؟

- أي من التخصصات أكثر ميولًا للشروع في مشروعات ذاتية؟ وأيها أكثر ربحية؟

- أي التخصصات أكثر استقرارًا وظيفيًا؟ وأيها أكثر مرونة للتنقل بين قطاعات مختلفة؟

هذه نماذج لأسئلة ليست لحظية، وإنما أسئلة (تتبعية) تشتغل على رصدها بعض المراكز والمكاتب المتخصصة في دراسات سوق العمل حول العالم، وليس أدل من ذلك على موقع مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، الذي يقدم تشخيصًا دقيقًا للوظائف والتخصصات وكافة تفاصيل السوق المرتبطة بها من ناحية الطلب والعرض والأجور وسواها. وهو بذلك يخدم منظومة صنع القرار في عدة أطراف (الحكومة 'صناع السياسة العامة'، المؤسسات الأكاديمية، الأفراد 'المجتمع'، مؤسسات العمل 'السوق'، بالإضافة للباحثين والراصدين لمتغيرات سوق العمل). وتوافر هذه البيانات في تقديرنا ليس نوعًا من الترف (المعرفي)، وإنما هي ضرورة ملحة في سياق كل الجهود المحلية الراهنة لمعالجة الإشكالات والتحديات المرتبطة بـ (التشغيل وأسواق العمل – القطاع الأكاديمي ومخرجاته – الاقتصاد ومدى توليده لفرص الشغل وممكناته).

إن البيانات التي نشير إليها نركز على أنها لا تقتصر فقط على استقصاء آراء عينات محددة، كما أنها لا تركز على عنصر الداخلين الجدد إلى أسواق العمل، بل تتعدى ذلك لفهم طبيعة تغير سوق العمل من خلال المؤسسات نفسها، طبيعة الطلب والعرض فيها، وطبيعة الفرص المتاحة حسب التخصصات، وفي بعض الدراسات فإن البيانات تصل لمستويات متقدمة بمعرفة أكثر التخصصات مُكنة في الترقي والتطور الوظيفي في مؤسسات معينة. هناك لبنات أولى لمثل هذه الدراسات والتقصيات في سلطنة عُمان وأهمها (مسح الخريجين)، غير أننا بحاجة – في تقديرنا – إلى نظام وطني متكامل لتقصي بيانات سوق العمل وتحولاته و(توقعاته) أيضًا بما يتوفر من أدوات الاستشراف والنمذجة.

إن توافر البيانات وجودتها وتحليلها من الممكن أن يساهم في ردم الكثير من الفجوات العالقة أهمها: طرق تجسير الفجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، وجدلية هل نحن بحاجة إلى إبقاء بعض التخصصات الأكاديمية (نشطة) أو إلى التقليل من معدلات المقبلين عليها – رغم تحفظنا على هذه الجدلية – وكذلك سيوفر تجارب إرشاد مهني/ توجيه وظيفي قائمة بالمقام الأول على الأدلة. وسيحد من دور (الانطباعات) و (المعاينات) في مسألة اتخاذ الفر للقرار المهني أو الأكاديمي. وبناء النظام الذي نشير إليها من الممكن أن يتم حوكمته عبر جمع كافة الأطراف تحت منظومة واحدة للتوجيه الوظيفي / المهني بحيث تكون البيانات داعمة لهذه العملية، ويكون عمل الوحدات المتصلة بهذه المسألة تحت نسق / مظلة واحدة، وتكون تغذية مصادر البيانات منصبة في مؤسسة واحدة. وهو ما يمكن البدء فيه من خلال إما توسيع عمليات تقصي الخريجيين الحالية أو البناء على هيكل جديد في شكل مكتب/ مركز متخصص في هذه التقصيات والدراسات. وهو ما نراهن على كونه سيمكن الأفراد (المجتمع) من فهم الصورة الكلية للتغيرات التي يشهدها سوق العمل، واتخاذ قرارات أكثر استنارة بناء على الأدلة، وفي الآن ذاته سيمكن صانع القرار ومتخذه من إيجاد التدخلات الأكثر نجاعة للإصلاح والتحسين والتطوير المزمع لسوق العمل.