أعمدة

كيف أختفي: محاولات لهجر العالم الافتراضي

 
أكتب هذه المرة على أمل أن تسنح لي اللغة أكثر من أي وقت مضى بالاقتراب من حدود علاقتي الشخصية بما بتنا ندعوه اليوم 'عالماً افتراضياً' وذلك قبل أن نتلفت من حولنا لنجد أن ما كان افتراضياً بالأمس يصبح مع الوقت وبشكل تلقائي أكثر واقعية من الواقع نفسه، أو لعل واقعنا الحي هو من أمسى افتراضياً إلى حد ما. وإن صحَّت هذه التسمية فيما مضى، وإن كانت ما تزال سارية حتى جنون هذه اللحظة المشدوهة من تاريخ البشر والتقنية، فليس هذا العالم الافتراضي بالنسبة لي سوى صورة مستحدثة من صور 'عالم ليس لنا'، في إعادة استخدام لعنوان غسان كنفاني الشهير ولكن في سياق مستقل تماماً عن سياقه البعيد. هو عالم ليس لي إذن، ولا لأبناء 'الجيل Z' الذين أصبحت التكنولوجيا امتداداً لحواسِّهم. إنه عالم مفتوح للغربة الحيوية التي يلتقي فيها الجميع بالجميع دون رغبة في الاستيطان أو الانتماء.

قبل وسائل التواصل الاجتماعي لم أكن أتصور أن أعثر على هذه الازدواجية بين الحقيقي والافتراضي، بين الواقع والخيال، إلا عبر عوالم الأدب وحدها، فكل لقاء بين هذين العالمين يحيلني مباشرة إلى الباحة الخلفية التي يتشكل فيها الأدب. كان الحديث قد بدأ يتصاعد لتوه عن نوع جديد من الإدمان الذي يجتاح شباب العصر، الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي، عندما قررت أن أقفز بمراهقتي إلى موقع آخر وخوض التجربة بإنشاء أول حساب شخصي لي على فيسبوك بعد تحريض من أحد أقراني في المدرسة. حدث ذلك قبل حوالي أربعة عشر عاما، حين كان وصولي للإنترنت لا يتوفر إلا من خلال حواسيب المدرسة. لم أكن أدرك بتلك الخطوة أنني مقدم على عبور برزخ بين عالمين، حيث سأقوم بزيارات متكررة عبر ثغرة في جدار الكون نحو شكل جديد من أشكال الوجود الذي يقترحه الإنترنت على الإنسان المعاصر. ومنذ ذلك التاريخ بدأت أولى محاولاتي في الإقلاع عن ذلك الوجود الافتراضي والنضال من أجل صيانة الشخصية الواقعية من عوارض وآثار وسلوكيات شخصيتي الافتراضية التي بدأت تتبلور على حدة هناك، وعلى نحو تنافسي يزاحم الشخصية الواقعية التي أحيا داخلها وبها ومعها، بل ويهدد بالانفصال والقطيعة.

ولعل بإمكان القارئ أن يلاحظ إصراري المستمر على الحديث بلغة تشي بوجود انفصام حتمي، أو تمايز على الأقل، بين شخصية واقعية وأخرى افتراضية يتأرجح بينهما رواد وسائل التواصل الاجتماعي، الفكرة التي تبدو لدى البعض رجعية في التعاطي مع الوجود الرقمي الجديد كما تواري حالة من الرفض أو الممانعة الذاتية ضد أسلوب العصر، إلا أنني ما زلت أصر على حتمية هذا التمايز بين الشخصيتين أو استقلاليتهما من وجهة نظر بديهية جداً - أو سطحية حتى- أعبر عنها بالاعتراف دائماً بأنني حين أكون في غرفة نومي فلست أنا من أنا تماما حين أكون في صالة البيت، وقس على ذلك تبعا للسياق أو البيئة التي ترد فيها 'أنا' هذه. أليس هذا ما يحدث في الأدب أيضا، في المسافة الحرجة بين الشخص والنص؟ بل أرى أن الادعاء بعكس ذلك ليس إلا محاولة لتبرير الذات والتصالح المتأخر مع هذا الازدواجية التي لا جدوى من إنكارها أصلاً أو المغالاة في تشنيعها والتعامل معها كخلل أو تهمة.

فيسبوك، تويتر، وإنستجرام... إلخ غرف هذا العالم الافتراضي، تكنولوجيا تأخذ ملامحها وأخلاقياتها من سياسات السوق الجديدة، فهي لا تقوم على تلبية حاجاتنا بقدر ما تسعى لاختراعها (اختراع الحاجة). استناداً إلى تجربتي الشخصية، يمكنني القول بأنها تعمل في بادئ الأمر على تطوير ذلك الإحساس المبدئي لدينا بالألفة، من خلال طمأنتنا إلى الاعتقاد بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم: هناك من يفكر مثلي أو يتكلم لغتي، هناك من يقول معي أو نيابة عني آرائي ذاتها حول مسائل معينة، وهناك من هو قلق مثلي مما أنا قلق بشأنه. في الوقت ذاته فهي تبرز الفوارق وتحفز على المقارنة والاستقطاب. إنه ضرب من الاستثمار في غربتنا النفسية التي تمثل بالنسبة لكبرى الشركات المطورة لآليات الذكاء الصناعي رأسمال أساسي. فبينما تداعب مميزاتها وخصائصها غربتنا الداخلية، بمؤانسة مؤقتة وإلهاء خفي، تعمد برامجها إلى تعزيز الانفصال عن المحيط في فقاعة وهمية. مع ذلك، فإن الشعور بالهجران هو أول ما يجتاحنا بعد كل محاولة للانسحاب من ذلك الفضاء المتصل (Online) إلى حياة غير متصلة (Offline Life).

كيف أختفي؟ ربما يكون هذا السؤال هو الباعث النفسي الأول مع كل محاولاتي السابقة في حذف تلك التطبيقات، ومع كل المحاولات التي ستأتي والتي لا أظن بأنني سأتوقف عنها، ضمن مشاريع شخصية بعيدة المدى: 'وليسَ الغِنى إِلا عن الشيءِ لا بهِ'... كمشروعي الحالم الذي أطمح من خلاله للاستغناء عن السيارة الخاصة مستقبلاً.

الحاجة إلى الحضور من أجل إثبات الحضور والاطمئنان لوجودي من خلال تفاعل الآخرين مع ما أشاركه، هي حزمة من الدوافع التي تقابلها نداءات داخلية لجوجة للاختفاء في نهايات الغياب الممكن بالنسبة للأحياء، أو 'في الركن البعيد الهادئ' كما يحب أن يتندر الأصدقاء على العزلة. النداءات التي أفسرها غالبا بالحنين إلى الذات، للانكفاء عليها لا للاكتفاء بها، وهو الحنين الذي يرسّبه السأم من المحاولات اللاواعية في استجداء الشرعية التي قد يضفيها الآخرون بآرائهم وتفاعلهم مع حضوري العلني على تلك المنصات، بأي شكل من الأشكال، إلى جانب الإعياء من فرط التلقي المتواصل والعشوائي للاقتراحات والصور والألوان. لكن المفارقة تكمن في تلك اللوثة التي نحملها معنا في هجراتنا المتكررة عن العالم الافتراضي، والتي تغرينا بضرورة إثبات الغياب وتوثيقه والتَّدليل عليه، أي الطمع في الانتباه حتى آخر لحظة!