أفكار وآراء

الذكاء الاصطناعي ومستقبل صناعة الصحافة

لا خوف على الصحافة البشرية، وعلى الصحفيين البشر من التوسع في استخدام تقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي في إنتاج القصص الإخبارية وكتابة التقارير ومقالات الرأي، فقد ثبت أن كل تلك القصص والتقارير والمقالات تفتقر إلى الدقة، وتحتاج إلى الصحفيين لتصحيح ما بها من أخطاء قبل نشرها.

علينا أن نعترف بأن هناك توسعا ملحوظا في الأعوام القليلة الماضية في استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الفردي، مثل الخطابات والرسائل الشخصية والخطب وغيرها.

وأصبح هذا الاستخدام أمرًا مألوفًا لدى قطاعات من مستخدمي الإنترنت، الذين يرغبون في تجربة هذه الثورة الجديدة، ويمثلون ما نطلق عليهم في نظريات الإعلام «المتبنون الأوائل» لهذه التكنولوجيا الجديدة.

وتقوم فكرة نظرية التبنّي التي يمكن إسقاطها حاليا على برامج الذكاء الاصطناعي على أساس أن العصر الذي نعيش فيه يتميز بالتغير المستمر، وبالتالي فإن هناك تدفقًا هائلًا للمنتجات التكنولوجية وحلولًا لمشكلات، ومفاهيم جديدة، وغيرها من أنواع المستحدثات. هذه المستحدثات تتراوح بين المستحدثات المادية والمستحدثات الفكرية. ويتم تبنّي واستخدام معظم المستحدثات عبر عملية منتظمة يتم التعبير عنها بنظرية تبنّي الأفكار أو المستحدثات الجديدة.

وتكتسب نظرية تبنّي الأفكار المستحدثة أهميتها الآن في مجال استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الاتصالي الشخصي والجماهيري من اعتبارين، الأول أن كل وسائل الإعلام التي نعرفها اليوم كانت من قبل مجرد مستحدثات واختراعات أو اكتشافات جديدة، تم تبنّيها واستخدامها على نطاق واسع، والاعتبار الثاني أن وسائل الإعلام غالبًا ما تكون مسؤولة عن تقديم الأفكار والمستحدثات الجديدة إلى المجتمع الذي يقوم بتبنّيها.

وتمثل هذه النظرية النوع الثاني من النظريات التي تفسر التأثير المتراكم طويل المدى.

وتكتسب أهميتها من كونها تفسر دور وسائل الإعلام في عملية تبنّي أفراد المجتمع ليس فقط للمخترعات والاكتشافات والمستحدثات التكنولوجية والمادية الجديدة، ولكن أيضًا الأفكار الجديدة والأنماط والمعايير الثقافية والاجتماعية والسلوكية المستحدثة. فوسائل الإعلام تسهم على المدى الطويل وبصورة تراكمية في تبنّي الأفراد للأفكار الجديدة من خلال التعريف بها وتقديمها وشرحها ونشرها على نطاق واسع.

وقد أصبحت هذه النظرية محط اهتمام عدد كبير من الباحثين في العلوم الاجتماعية وعلوم الاتصال والإعلام منذ خمسينيات القرن الماضي الذين حاولوا شرح وتفسير عملية تبنّي الأفكار المستحدثة، وأوضحوا أن وسائل الإعلام تؤدي في الغالب دورًا بارزًا في نشر الأفكار والسلوكيات والمنتجات الجديدة.

وقد اهتم الباحثون بعملية التبنّي نفسها، وكيف تحدث، والدور الذي تؤديه وسائل الإعلام فيها. وخلصت الدراسات التي أجريت في هذا المجال إلى أن تأثير وسائل الإعلام يتضح في مراحل التعريف بالأفكار الجديدة وإثارة انتباه الناس بها، ونشر المعلومات الكافية عنها.

ويؤدي تكرار النشر على مدى زمني طويل إلى تبنّي الجمهور لهذه الأفكار. وفي ضوء ذلك تمر برامج الذكاء الاصطناعي حاليا بالمراحل الأولى لعملية التبنّي، والتي بدأت بالفعل بمرحلة إثارة الانتباه، وجذب انتباه المتبنّين الأوائل لها، ويتم ذلك من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، تليها مرحلة إيجاد الاهتمام التي يتجه فيها المتبنّون لبرامج الذكاء الاصطناعي إلى البحث عن معلومات إضافية عنه، ثم مرحلة التقييم، ويتم فيها تقييم الفكرة المستحدثة من جانب المهتمين بها وآثارها على حاضرهم وتوقعاتهم المستقبلية، ومرحلة الاختبار، وفيها يبدأ عدد صغير من الأشخاص في استخدام الفكرة المستحدثة وتجريبها على مستوى صغير لتحديد مدى ملاءمتها لهم.

وفي النهاية، تأتي المرحلة الخامسة (الأخيرة)، وهي مرحلة التبنّي، ويبدأ فيها المتبنّون في استخدام الفكرة المستحدثة على نطاق واسع. وبعد ذلك يتزايد عدد المتبنّين لها تدريجيا.

بعيدا عن التنظير يمكن القول إن أعدادا متزايدة من الناس يتحدثون الآن عن برامج الذكاء الاصطناعي وتأثيره على إنتاج المحتوى الإعلامي الشخصي والمؤسسي، والتداعيات السلبية الناجمة عنه على قطاعات عديدة في المجتمع منها قطاع التعليم وقطاع الإعلام، والإبداع الإنساني بوجه عام. إذ يستطيع الفرد أن يطلب من برامج الذكاء الاصطناعي، وأشهرها حاليا برنامج «جي بي تي شات» أن يكتب له خطابا لصديق، أو طلبا للالتحاق بوظيفة محددة أو طلبا للقبول في إحدى الجامعات، أو خطابا يلقيه في تجمّع ما.. الخ، كما يستطيع أن يطلب منه وصف علاج لحالة مرضية، ووضع برنامج غذائي، وكتابة الأغاني والقصص الأدبية. وتتيح تلك البرامج لمستخدميها من خلال اشتراكات شهرية بسيطة، البحث في أي مجال والحصول على ما يريدون من قصص وتقارير ومقالات. وتختلف عن محركات البحث المعروفة مثل «جوجل» في قدرتها على كتابة المقالات والبحوث والتقارير والأشعار والقصص وإنتاج الرسوم والصور التي يطلبها المستخدم.

رغم الثورة التي أحدثتها برامج الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الشخصي فإن دورها في إنتاج محتوى إعلامي مؤسسي ما زال محدودًا ومحاطًا بالشكوك خاصة فيما يتعلق بصحة ودقة المعلومات، والأخطاء التي قد يتضمنها هذا الإنتاج.

فالمؤسسات الإعلامية الكبيرة في العالم ما زالت بعيدة عن التوسع في إنتاج المحتوى عبر هذه البرامج، وحتى إن أنتجت بعضه فإنه لا يُمرر للنشر إلا بعد أن يراجعه الصحفيون ويصححون الأخطاء الواردة بها، وبالتالي فإنه لا يمثل خطرا كبيرا على وظائف الصحفيين أو على مهنة الصحافة بوجه عام.

ويشير مقال نُشر مؤخرا في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية للكاتب «بول فارحي» المتخصص في الإنترنت، إلى أن استخدام الموقع الإخباري الشهير «سينت» الذكاء الاصطناعي لإنتاج قصص إخبارية كان كارثيًّا ومخيبًا للآمال بصورة كبيرة، إذ كان على طاقم الموقع البشري كتابة الكثير من التصحيحات لهذه القصص، وأثبت أن الروبوتات ليست أفضل من البشر في العمل الصحفي بل أسوأ كثيرا. إذ ارتكبت تلك الروبوتات أخطاء وصفت بـ«الغبية جدا»، ومنها على سبيل المثال مقال حول الفائدة المركبة، جاء فيه أن إيداع مبلغ 10 آلاف دولار بفائدة 3 بالمائة سنويا يحقق عائدا قدره عشرة آلاف و300 دولار بعد السنة الأولى. والمعلومة الصحيحة أن العائد سيكون 300 دولار فقط. لذلك أصبح من الشائع أن يضع الموقع أسفل كل مقال تم إنتاجه بواسطة الذكاء الاصطناعي تحذيرًا للقارئ يقول «نقوم حاليا بمراجعة هذه القصة للتأكد من دقتها وإذا وجدنا أخطاء فسوف نقوم بإصدار التصحيحات المناسبة».

بالإضافة إلى التقارير غير الدقيقة، تثير القصص المكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي، كما يقول «فارحي» بعض الأسئلة العملية والأخلاقية التي بدأ الصحفيون في طرحها، وعلى رأسها قضية الانتحال. إذ كثيرا ما يكتشف بعض الكتّاب مقالات لهم أُعيد إنتاجها بواسطة برامج الذكاء الاصطناعي ونسبت إلى كتَّاب آخرين غامضين بعد إعادة خلط المحتوى مع محتوى آخر من مصادر أخرى.

إنه من المهم أن ندرك في هذه المرحلة المبكرة من ظهور برامج الذكاء الاصطناعي القادرة على إنتاج المحتوى الإعلامي، أن الإبداع سيبقى حكرا على الكتّاب والصحفيين البشر في المقام الأول، وأن المقالات التي تجمعها تلك البرامج عن طريق البحث في كمٍّ هائلٍ من المعلومات المتاحة على شبكة الويب، هي مجرد قصاصات خالية من النتائج الجديدة، والعواطف الإنسانية، ومعطلة للعمل الإبداعي.