أعمدة

نوافذ :حكايا العابرين

 
ashuily.com

أقتبس فكرة هذا العمود من كتاب قرأته منذ فترة طويلة للكاتب خالد الخميسي بعنوان تاكسي: حواديت المشاوير، فحكايا الطريق أو حكايا الشارع وعابريه لا تنتهي ولا تنضب أبدا وحكايا سائقي الأجرة لا تمل فهم كما يقال عنهم بأنك إن أردت معرفة شؤون أي مجتمع أو دولة فعليك بسائقي سيارات الأجرة فهم يعرفون كل شيء ابتداء من السياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية والنفسية مرورا بحالاتهم الشخصية وما يعانونه في يومهم من صعوبات مالية وأسرية ممزوجة ببعض الطرافة والخفة في وصف مشاهد يمكن اعتبارها كوميديا سوداء ممزوجة بالحزن والسخرية من نقد لاذع للأوضاع في المجتمع.

تعتبر سيارات الأجرة معلما من معالم أي دولة أو مدينة وأيقونة من أيقوناتها فأحيانا يكون لونها اللافت للنظر هو ما يميز أي دولة أو مدينة عن غيرها مثل تكاسي مدينة نيويورك الصفراء الفاقعة وقد يكون نوع السيارة المستخدمة في الأجرة هو بحد ذاته ما يميز تلك المدينة عن غيرها مثل سيارات أجرة مدينة لندن أو تكاسي القاهرة الأبيض والأسود أو تاكسي الإسكندرية بسيارات اللادا الصفراء، وقد تكون الوسيلة المستخدمة في نقل الركاب هي ما يميز بعض المدن مثل عربات الركشة والتوك توك التي تميز بعض المدن الهندية والباكستانية وغيرها من أنواع النقل مثل تاكسي العجلة في العاصمة اليابانية طوكيو وغيرها من الأمثلة التي باتت المدن تتسابق في تمييزها عن بعضها الآخر بواسطة سيارات الأجرة.

لكل منا حكايا مع الطريق أبطالها سائقو سيارات الأجرة وسواء أكانت هذه الحكايا في الحضر أو في السفر فإن قاسمها المشترك هو سائقو سيارات الأجرة الذين لا تختلف كثير من عاداتهم وطباعهم عن بعضهم البعض حتى مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم فقاسمهم المشترك هو المعرفة الحقيقية بالمجتمع وأسراره وخباياه حتى أن بعضا من السياسيين المتمرسين في السياسة ودهاليزها يلجأون إلى سائقي سيارات الأجرة لمعرفة كثير من التفاصيل التي لا يمكنه أن يعرفها عن المجتمع إلا من خلال الركوب في سيارات الأجرة والبدء في حوارات عن شؤون المجتمع وشجونه، وكثير من المشاهد المصورة في السينما والتلفزيون شخصت هذا الحال ووصفته بشتى الأوصاف والأشكال.

حكايا الطريق أو مشاويره مع سائقي الأجرة لها متعة خاصة، فلكل سائق أسلوبه في التعامل مع زبائنه من الركاب فمنهم من يلتزم الصمت والسكون منتظرا إشارة من الطرف الآخر كي يبدأ في الحديث، في حين أن البعض الآخر يبدأ منذ اللحظة الأولى في التعرف على الراكب وميوله واتجاهاته وعمله ثم يسترسل في الحديث عن الأوضاع المعيشية والاقتصادية وسرد حكاياه الشخصية ونظرته للحياة والمجتمع والبعض الآخر يجبرك على التعاطف معه منذ اللحظة الأولى حين يسرد لك قصص معاناته مع الحياة والمعيشة وغلاء الأسعار ومن يعيله من الأولاد وملامة الدولة والمجتمع في الحال التي وصل إليها سيارات الأجرة وغيرها من القصص التي تبدأ مع بداية المشوار ولا تنتهي مع نهايته.

قصص العابرين لا تنتهي ولكن حلاوة هذه القصص تأتي عندما يبدأ أصحابها في سردها في قوالب قصصية ممتعة كما فعل الأديب والفنان المصري سليمان نجيب عندما كتب كتابه «مذكرات عربجي» تحت اسم مستعار هو الأسطى حنفي أبو محمود والذي صدر في عشرينيات القرن الماضي حين كانت عربات الأجرة تستخدم العربات التي تجرها الخيول أو ما يسمى اليوم بالحنطور، ويسرد سليمان نجيب في كتابه هذا حكايات القاهرة وثورة 1919 في قالب لا يخلو من الكوميديا والمواقف التي يتعرض لها مع زبائنه الذين يقوم بتوصيلهم في مشاوير خاصة وعامة.

حكايا العابرين قد تصمت ومشاوير سيارات الأجرة قد تختفي حين بدأت بعض المدن في طمس هوياتها وأيقوناتها بالسماح للعديد من التطبيقات الإلكترونية في غزو شوارعها ملغية بذلك هوية معرفية وثقافية كانت في يوم من الأيام تميز بلدًا عن آخر ومصدرا لشهرة مدينة على أخرى، ويبقى أن تراث بعض من هذه الحكايا بحاجة إلى توثيق بصري ومعرفي قبل أن يندثر بفعل عوامل الاقتصاد والمال.