نوافذ.. في وداع الـ BBC
السبت / 5 / رجب / 1444 هـ - 19:20 - السبت 28 يناير 2023 19:20
دقت الخامسة عصرًا بتوقيت مسقط من يوم الجمعة معلِنةً وفاة أعرق الإذاعات العربية وأكثرها تأثيرًا في الوجدان العربي بعد عمر ناهز خمسة وثمانين عامًا، شكّلت فيها وعينا بأخبارها وبرامجها وتحليلاتها السياسية إلى الدرجة التي كانت تكفي معها عبارة 'لقد أذاعتْه الــBBC ' لإضفاء المصداقية على أي خبر. وبين إعلان الإذاعيّ المصري أحمد كمال سرور عبارته التي صدح بها في 3 يناير 1938م: 'نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية لأول مرة في التاريخ' وعبارة الإذاعيّ المصري الآخر محمود المسلمي في 27 يناير 2023م: 'لا نقول وداعًا، بل إننا ننتظركم على منصات 'بي بي سي نيوز عربي'، وعلى منصة 'هنا لندن' حيث سيبقى صوت BBC'، بين هاتين العبارتين عُمرٌ من العمل الإعلامي المهني والذكريات الجميلة استطاعت فيه 'إذاعة لندن' -كما يحلو لآبائنا تسميتها- أن تكون المؤرخ الأمين، والصديق الوفيّ، للحظاتنا السياسية والاجتماعية والثقافية العربية، بالعديد من البرامج التي لا تُنسى: 'ندوة المستمعين'، 'السياسة بين السائل والمجيب'، 'حديث الساعة'، 'عالم الظهيرة'، 'قول على قول'، 'همزة وصل'، 'بروح رياضية'، عدا نشراتها الإخبارية الرصينة التي تفتتحها بدقات ساعة بج بن وبالعبارة الشهيرة: 'هنا لندن'، والتي حظِيتْ باحترام مستمعيها من جميع الفئات؛ بدءًا من رؤساء الدول، ومرورًا بكبار الفنانين والأدباء، وليس انتهاء بالفلاحين وعمّال المصانع وربات البيوت، بل إنه حتى السجناء كانت ملاذهم في وحدتهم بين القضبان، كما روى ذلك أحدهم لبرنامج 'همزة وصل'.
رحلتْ الـ BBC وفي الصدر غصّة حزينة على عصر لم يعد يحفل بالذكريات ولا بالإنجازات القديمة المتراكمة، عصر جعل كل شيء ترسًا في آلة ضخمة، قيمته تتحدد فقط بمقدار ما يُنتجه من سلع، وما يدرّه من مبالغ مالية. وإنه لمن المحزن حقًّا أن يكون المبلغ الذي تهدف إدارة هيئة الإذاعة البريطانية لتوفيره من وأد قسمها العربي هو واحد وثلاثون مليون دولار فقط، أي نحو سُدْس مبلغ صفقة لاعب كرة قدم شبه مُنتهي الصلاحية ككريستيانو رونالدو، والبالغ مائتي مليون دولار!.
كانت الــBBC في أيامها الأخيرة أقرب إلى ذلك المريض بداء عضال وقد تصالح مع ذاته بعد أن أخبره الطبيب أن ما تبقى له في الحياة أيامًا معدودة، فطفق يودّع أهله وأحبابه ويسترجع ذكرياته معهم. وهكذا فعلت الإذاعة العريقة بحلقات وداعية لبرامجها المختلفة، ومنها حلقة مميزة من برنامج 'حديث الساعة' بثت عصر الخميس الماضي، أجمع جميع ضيوفها وهم سياسيون وإعلاميون ومحللون عرب بارزون (الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيّه، وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى، ووزيرة الخارجية السودانية السابقة مريم الصادق المهدي، بالإضافة إلى الإعلامي العُماني أحمد الشيزاوي، وخطّار أبو دياب أستاذ العلاقات الدولية بجامعة باريس) أجمعوا على أن البي بي سي شكلت الذاكرة الجمعية للعرب ومنحتهم صوتًا في زمن عَزّ فيه الصوت قبل نشوء عصر الفضائيات الإخبارية والسوشل ميديا، وأعطتهم إحساسًا بالوجود بمناقشتها قضاياهم بموضوعية ومهنية.
ظلّت إذاعة الــBBC ، حتى وهي في ظروفها الصعبة بعد أن تقلص دعمها المادي وفقدت الكثير من موظفيها الأكفاء لصالح القنوات الإخبارية ذات الإمكانيات المادية الأكبر، ظلت مثالًا للإذاعة التي تجتهد بأقصى ما تستطيع لتعمل بمهنية عالية، وكانت –كما وصفها مذيعها المخضرم محمود المسلمي- أشبه بــ'بيت العيلة' الكبير المفتوح الذي هو بمثابة ملاذ لجميع الأبناء يأوون إليه في الإجازات الأسبوعية، والأعياد والمناسبات. وإذ تهدّم هذا البيت اليوم، فقد خسر الجميع ملاذهم وذكرياتهم. وإنه لأمر محزن حقًّا أن يكون هذا الفقد لإذاعة مهمة كالـ BBC في الوقت الذي نحن في أمسّ الحاجة فيه إلى منابر إعلامية مهنية.
رحلتْ الـ BBC وفي الصدر غصّة حزينة على عصر لم يعد يحفل بالذكريات ولا بالإنجازات القديمة المتراكمة، عصر جعل كل شيء ترسًا في آلة ضخمة، قيمته تتحدد فقط بمقدار ما يُنتجه من سلع، وما يدرّه من مبالغ مالية. وإنه لمن المحزن حقًّا أن يكون المبلغ الذي تهدف إدارة هيئة الإذاعة البريطانية لتوفيره من وأد قسمها العربي هو واحد وثلاثون مليون دولار فقط، أي نحو سُدْس مبلغ صفقة لاعب كرة قدم شبه مُنتهي الصلاحية ككريستيانو رونالدو، والبالغ مائتي مليون دولار!.
كانت الــBBC في أيامها الأخيرة أقرب إلى ذلك المريض بداء عضال وقد تصالح مع ذاته بعد أن أخبره الطبيب أن ما تبقى له في الحياة أيامًا معدودة، فطفق يودّع أهله وأحبابه ويسترجع ذكرياته معهم. وهكذا فعلت الإذاعة العريقة بحلقات وداعية لبرامجها المختلفة، ومنها حلقة مميزة من برنامج 'حديث الساعة' بثت عصر الخميس الماضي، أجمع جميع ضيوفها وهم سياسيون وإعلاميون ومحللون عرب بارزون (الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيّه، وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى، ووزيرة الخارجية السودانية السابقة مريم الصادق المهدي، بالإضافة إلى الإعلامي العُماني أحمد الشيزاوي، وخطّار أبو دياب أستاذ العلاقات الدولية بجامعة باريس) أجمعوا على أن البي بي سي شكلت الذاكرة الجمعية للعرب ومنحتهم صوتًا في زمن عَزّ فيه الصوت قبل نشوء عصر الفضائيات الإخبارية والسوشل ميديا، وأعطتهم إحساسًا بالوجود بمناقشتها قضاياهم بموضوعية ومهنية.
ظلّت إذاعة الــBBC ، حتى وهي في ظروفها الصعبة بعد أن تقلص دعمها المادي وفقدت الكثير من موظفيها الأكفاء لصالح القنوات الإخبارية ذات الإمكانيات المادية الأكبر، ظلت مثالًا للإذاعة التي تجتهد بأقصى ما تستطيع لتعمل بمهنية عالية، وكانت –كما وصفها مذيعها المخضرم محمود المسلمي- أشبه بــ'بيت العيلة' الكبير المفتوح الذي هو بمثابة ملاذ لجميع الأبناء يأوون إليه في الإجازات الأسبوعية، والأعياد والمناسبات. وإذ تهدّم هذا البيت اليوم، فقد خسر الجميع ملاذهم وذكرياتهم. وإنه لأمر محزن حقًّا أن يكون هذا الفقد لإذاعة مهمة كالـ BBC في الوقت الذي نحن في أمسّ الحاجة فيه إلى منابر إعلامية مهنية.