هجلة " مسلم النار "
السبت / 5 / رجب / 1444 هـ - 19:09 - السبت 28 يناير 2023 19:09
عُمر العبري
يلقبونه بـ' مسلم النار ' رغم أن اسمه الحقيقي ' خلفان ' وقد عُرف بسرعة البديهة ودماثة الخُلق والهدوء وبالمِزاج الرائق دائمًا أي لا يربط بين لقبه وطبعه أي رابط.
كان ' مسلم النار ' راويًا فنتازيًا للحكايات محترفًا القّص يجيد السرد رغم شطحاته التي لا يُخطئها لُب عاقل خاصة تلك التي تتعلق بالجِن و' المغايبة ' والسَحرة فعندما يُدخلك ' مُسلم ' إلى عوالمهم لا تستطيع إتيان أدنى حركة بل تظل فاغرًا فاك حتى ينتهي.. يُسمي الأشخاص المُشتهرين بالسِحر بأسمائهم - دون وجل - أولئك الذين كنا نعرفهم ونلتقيهم في الطرقات والأسواق والمناسبات.
يستعرض ' مسلم النار ' في ' هجلته ' الليلية صراعات هؤلاء الرجال الشخصية التي لا تنتهي حُبًا في السيطرة خاصة ما يقومون به من أعمالِ خارقة كالطيران بين القُرى واختطاف الناس وسجنهم في أودية وعِرة واستغلالهم في السُخرة رغم أنهم توفوا ووريت أجسادهم التراب والمزايدة على البشر وبيعهم في ' عرصات ' الأسواق وهم على غير هيئتهم الإنسانية !!.
ذات ليلة بعد صلاة ' العتيم ' و' مسلم النار ' مقرفص أمام منزله الطين على ' رُفصة الدُرجة ' يتلو حكايته أمام عدد من كبار السن والأولاد الذين كانوا في أعمار متفاوتة ظهر من الظلام فجأة قط أسود بدأ يموء ويُخرج أصواتًا غريبة ومخيفة بعدها قام أحد الأولاد باقتلاع حجر من الأرض بنِيةِ رمي القط لإسكاته وإبعاده لما سبّبه للحاضرين من إزعاج وقطعٍ للحكاية التي كادت أن تصل إلى ذروتها.
في ذلك الموقف - كأنه يحدث أمام عيني الآن - قفز ' مُسلم النار' من مكانه وقد استشاط غضبًا وقال: ' آها وتعقه بحصاه أو تقوله شي.. مو دراك هذا سنور ولا شي ثاني.. ما عارف الليل حال حد والنهار حال حد ؟!! '.
مرت على هذه الحكاية سنوات وسنوات لكن المشهد نفسه يعود إلى ذاكرتي كلما زُرت الحارة القديمة التي ما زال بعض بيوتها المهجورة يقاوم الموت.. وكلما مررت بمنزل ' مسلم النار ' الذي لم أعد متأكدًا من أنه ما زال على قيد الحياة أم خارج أسوارها.
في ذلك الزمن البعيد كان أبطال وشخوص حكايات ' مسلم النار ' يتحركون بحرية خارج المنطق ودون اعتراض أو إنكار لحقيقتهم من أحد.. وكنا وما زلنا نستوعب طبيعة الظرف الزمني و المكاني الذي وُلدت فيه ويجعل من المستمع يعيش داخلها ويبدو مشدوهًا وهو يتعقب الأحداث التي لا تقع إلا في الأساطير.
أما ونحن نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين فإننا سنحتاج إلى قوة إقناع كبيرة لتفسير من يعيش الحاضر بكافة تحولاته العلمية والمادية بمنطق الماضي وحيثياته.. سنكون بحاجة إلى جهدِ ذهني مُضنٍ لفهم بعض الممارسات التي تصدر عن أشخاص نعدهم متنورين ممن يربطون سيرورة الحياة بعالم مجهول كعالم السِحر والذي بطبيعة الحال لا يمكن إنكار حقيقته.
عندما يسعى المتعلم إلى إقناعك بأن كل المشاكل التي تزعزع الكون وتنِزع عنه هدوءه واستقراره مردها ' غضب العالم الآخر ' وأن السحرة بنفوذهم اللامحدود هم في الغالب من يقفون وراء كل منغصات البشر فإن ذلك يبعث على الحزن والألم.
عندما لا يستنكف هذا الذي نعتبره مثقفًا واعيًا أن يجوب مشارق الأرض ومغاربها للقاء ' عرّاف ' ليستفيد من تجربته ويطلع من خلاله على كل ما هو جديد في هذا الجُحر المُظلم فإن ذلك أمر يدعو للأسف والإحباط.
حينما تسافر امرأة متعلمة صرفت البلاد من أجل تدريسها مبالغ طائلة إلى بلد منكوب معرفيًا في إفريقيا أو آسيا لتكون على مقربة من تجارب القوم في ' الروحانيات ' وتجتمع هناك بـ' معالمة كبار ' لتستقي منهم الحيل والأسرار الكفيلة بعلاج مشاكل الأزواج والزوجات فإن ذلك أمر يبعث على الكآبة والحسرة.
منذ زمن ' مسلم النار ' ومن جاء قبله ومن أتى بعده لم يتمكن أي عملاق من عمالقة هذا العالم الهُلامي من منع يد الموت أن تمتد إليه أو إلى ابنه أو والدته.. لم يتمكن أحد هؤلاء الأفّاقين في زمننا الحالي من الإثراء والتربع على قائمة أغنياء العالم ويحل محل الملياردير الأمريكي إيلون ماسك بعد خسارته القياسية لثروته والتي بلغت 200 مليار دولار أمريكي خسر منها 165 مليارًا ويفوت الفرصة على الملياردير الفرنسي برنار أرنو الرئيس التنفيذي لمجموعة Louis Vuitton للسلع الفاخرة الذي خطف الأضواء من ماسك بثروة تقدر بـ210 مليارات دولار.
خدمةً للإنسانية أتمنى ممن يُهرعون خلف صانعي الأوهام هؤلاء من ' المعالمة ' والعرافين من الداخل والخارج أن يطلبوا من أحدهم ' شفقة بنا ' سحق إسرائيل من الوجود وإعادة المسجد الأقصى للعرب وتحويل رمل الصحراء إلى ريالات وإفراغ كل المستشفيات من المرضى لتوفير المال والجهد وجعل فصل الشتاء يستمر طوال أشهر العام.. أتمنى ألا ينزلقوا أكثر في هذا الوادي السحيق الذي ماله من قرار.
آخر نقطة
' سنضرب الجدران برؤوسنا ثم نعود لضربها، ستتحطم رؤوس عديدة ولكن ذات يوم ستنهار الجدران '.
نيكوس كازانتزاكيس
يلقبونه بـ' مسلم النار ' رغم أن اسمه الحقيقي ' خلفان ' وقد عُرف بسرعة البديهة ودماثة الخُلق والهدوء وبالمِزاج الرائق دائمًا أي لا يربط بين لقبه وطبعه أي رابط.
كان ' مسلم النار ' راويًا فنتازيًا للحكايات محترفًا القّص يجيد السرد رغم شطحاته التي لا يُخطئها لُب عاقل خاصة تلك التي تتعلق بالجِن و' المغايبة ' والسَحرة فعندما يُدخلك ' مُسلم ' إلى عوالمهم لا تستطيع إتيان أدنى حركة بل تظل فاغرًا فاك حتى ينتهي.. يُسمي الأشخاص المُشتهرين بالسِحر بأسمائهم - دون وجل - أولئك الذين كنا نعرفهم ونلتقيهم في الطرقات والأسواق والمناسبات.
يستعرض ' مسلم النار ' في ' هجلته ' الليلية صراعات هؤلاء الرجال الشخصية التي لا تنتهي حُبًا في السيطرة خاصة ما يقومون به من أعمالِ خارقة كالطيران بين القُرى واختطاف الناس وسجنهم في أودية وعِرة واستغلالهم في السُخرة رغم أنهم توفوا ووريت أجسادهم التراب والمزايدة على البشر وبيعهم في ' عرصات ' الأسواق وهم على غير هيئتهم الإنسانية !!.
ذات ليلة بعد صلاة ' العتيم ' و' مسلم النار ' مقرفص أمام منزله الطين على ' رُفصة الدُرجة ' يتلو حكايته أمام عدد من كبار السن والأولاد الذين كانوا في أعمار متفاوتة ظهر من الظلام فجأة قط أسود بدأ يموء ويُخرج أصواتًا غريبة ومخيفة بعدها قام أحد الأولاد باقتلاع حجر من الأرض بنِيةِ رمي القط لإسكاته وإبعاده لما سبّبه للحاضرين من إزعاج وقطعٍ للحكاية التي كادت أن تصل إلى ذروتها.
في ذلك الموقف - كأنه يحدث أمام عيني الآن - قفز ' مُسلم النار' من مكانه وقد استشاط غضبًا وقال: ' آها وتعقه بحصاه أو تقوله شي.. مو دراك هذا سنور ولا شي ثاني.. ما عارف الليل حال حد والنهار حال حد ؟!! '.
مرت على هذه الحكاية سنوات وسنوات لكن المشهد نفسه يعود إلى ذاكرتي كلما زُرت الحارة القديمة التي ما زال بعض بيوتها المهجورة يقاوم الموت.. وكلما مررت بمنزل ' مسلم النار ' الذي لم أعد متأكدًا من أنه ما زال على قيد الحياة أم خارج أسوارها.
في ذلك الزمن البعيد كان أبطال وشخوص حكايات ' مسلم النار ' يتحركون بحرية خارج المنطق ودون اعتراض أو إنكار لحقيقتهم من أحد.. وكنا وما زلنا نستوعب طبيعة الظرف الزمني و المكاني الذي وُلدت فيه ويجعل من المستمع يعيش داخلها ويبدو مشدوهًا وهو يتعقب الأحداث التي لا تقع إلا في الأساطير.
أما ونحن نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين فإننا سنحتاج إلى قوة إقناع كبيرة لتفسير من يعيش الحاضر بكافة تحولاته العلمية والمادية بمنطق الماضي وحيثياته.. سنكون بحاجة إلى جهدِ ذهني مُضنٍ لفهم بعض الممارسات التي تصدر عن أشخاص نعدهم متنورين ممن يربطون سيرورة الحياة بعالم مجهول كعالم السِحر والذي بطبيعة الحال لا يمكن إنكار حقيقته.
عندما يسعى المتعلم إلى إقناعك بأن كل المشاكل التي تزعزع الكون وتنِزع عنه هدوءه واستقراره مردها ' غضب العالم الآخر ' وأن السحرة بنفوذهم اللامحدود هم في الغالب من يقفون وراء كل منغصات البشر فإن ذلك يبعث على الحزن والألم.
عندما لا يستنكف هذا الذي نعتبره مثقفًا واعيًا أن يجوب مشارق الأرض ومغاربها للقاء ' عرّاف ' ليستفيد من تجربته ويطلع من خلاله على كل ما هو جديد في هذا الجُحر المُظلم فإن ذلك أمر يدعو للأسف والإحباط.
حينما تسافر امرأة متعلمة صرفت البلاد من أجل تدريسها مبالغ طائلة إلى بلد منكوب معرفيًا في إفريقيا أو آسيا لتكون على مقربة من تجارب القوم في ' الروحانيات ' وتجتمع هناك بـ' معالمة كبار ' لتستقي منهم الحيل والأسرار الكفيلة بعلاج مشاكل الأزواج والزوجات فإن ذلك أمر يبعث على الكآبة والحسرة.
منذ زمن ' مسلم النار ' ومن جاء قبله ومن أتى بعده لم يتمكن أي عملاق من عمالقة هذا العالم الهُلامي من منع يد الموت أن تمتد إليه أو إلى ابنه أو والدته.. لم يتمكن أحد هؤلاء الأفّاقين في زمننا الحالي من الإثراء والتربع على قائمة أغنياء العالم ويحل محل الملياردير الأمريكي إيلون ماسك بعد خسارته القياسية لثروته والتي بلغت 200 مليار دولار أمريكي خسر منها 165 مليارًا ويفوت الفرصة على الملياردير الفرنسي برنار أرنو الرئيس التنفيذي لمجموعة Louis Vuitton للسلع الفاخرة الذي خطف الأضواء من ماسك بثروة تقدر بـ210 مليارات دولار.
خدمةً للإنسانية أتمنى ممن يُهرعون خلف صانعي الأوهام هؤلاء من ' المعالمة ' والعرافين من الداخل والخارج أن يطلبوا من أحدهم ' شفقة بنا ' سحق إسرائيل من الوجود وإعادة المسجد الأقصى للعرب وتحويل رمل الصحراء إلى ريالات وإفراغ كل المستشفيات من المرضى لتوفير المال والجهد وجعل فصل الشتاء يستمر طوال أشهر العام.. أتمنى ألا ينزلقوا أكثر في هذا الوادي السحيق الذي ماله من قرار.
آخر نقطة
' سنضرب الجدران برؤوسنا ثم نعود لضربها، ستتحطم رؤوس عديدة ولكن ذات يوم ستنهار الجدران '.
نيكوس كازانتزاكيس