أفكار وآراء

هل نفكر أم نشعر عند الاستهلاك؟

ترتبط علوم الاقتصاد والنفس والاجتماع ارتباطا وثيقا مما يجعلنا نستشعر أسباب اتخاذ الأشخاص قراراتهم اليومية خاصة الاقتصادية منها الناتجة عن سلوكيات غالبا ما نظن أنها غير عقلانية تقودها العاطفة في كثير من الأحيان، ورغم وجود حالة من الجدال المستمر بين الاقتصاديين التقليدين غير المقتنعين بأثر الاقتصاد السلوكي، وأهميته الذي يربط فهم السلوك البشري وعلوم النفس والاجتماع بالحالة الاقتصادية للأشخاص، إلا أننا بدأنا نلحظ كثيرا انتشاره وتأثيره على الحياة الاجتماعية اليومية، بل أصبح توجها جديدا تنتهجه الكثير من المؤسسات بمختلف تخصصاتها وأهدافها بغرض فهم التأثيرات النفسية المرتبطة باتخاذ القرارات خاصة بعد أن نال هريتشارد تيلر جائزة نوبل في الاقتصاد عن كتابه الاقتصاد السلوكي عام 2017م، فالاقتصاد السلوكي يركز على المتغيرات النفسية عند اتخاذ القرارات، لكن في الوقت ذاته أوجد نوعا من السلوك غير العقلاني عند الاستهلاك عبر اتخاذ قرارات غير مدروسة وغير صائبة في ظروف نفسية واجتماعية مختلفة، أما في الاقتصاد التقليدي فإن هناك نظرية الخيار العقلاني التي تنص على أنه عندما يتاح أمام الأشخاص عدة خيارات يمكنها تعظيم استفادتهم منها، فإن الخيار الأكثر جدوى وإرضاءً هو الذي سيتم اختياره من بين الخيارات الأخرى وإن كانت مرتبطة بأبعاد نفسية، وهو خيار يتميّز بالعقلانية وفقا لعدة عوامل أبرزها حجم النقود التي يمتلكها الشخص، إضافة إلى وجود القيمة المضافة من ذلك الخيار.

بالرغم من عدم رواج الاقتصاد السلوكي على نطاق واسع في كثير من المجتمعات، إضافة إلى عدم اقتناع الأشخاص بدوره في تغيير القناعات والقرارات، إلا أنه أثبت في كثير من الأحيان نجاعته ودوره في تصحيح بعض السلوكيات والقرارات الخاطئة؛ فمثلا نلاحظ إقبالا على الشراء عند ارتفاع الأسعار؛ وذلك ظنًّا من الأشخاص بأن عليهم الشراء قبل نفاذ الكمية؛ الأمر الذي يترتب عليه اتخاذ قرار مبني على توقّع خاطئ، وهو الاستعجال في الشراء، ولفهم أكبر وأوسع حول أسباب اتخاذ قرار الشراء ودوافعه يتطلب تعزيز الاطلاع على تطبيقات الاقتصاد السلوكي وفهمها جيدا، ومدى تأثر الأشخاص بما يدور حولهم؛ لكي يوسّع الإنسان مداركه فيما يخص اتخاذ قراراته المرتبطة بالشراء، وعدم الخنوع لرغبات النفس في كل أمر، ومن الأمثلة على ذلك ما يحدث في الأسواق من تسوّق بشراهة دون الأخذ في الحسبان العوامل الاقتصادية المختلفة، بل يكون المحرك الرئيس هو العاطفة وعدم العقلانية، والمستغرب أنه بالرغم من وعي الأشخاص بسيطرة العواطف والمشاعر على قراراتهم، إلا أن الملاحظ أن استمرار اتخاذ مثل هذه القرارات بالرغم من إدراك ضرورة تركها وعدم استمراريتها، وهنا نستطيع القول إن اتخاذ القرارات الخاطئة ربما لا يبرر قبول اللامعقول الذي يظنه الإنسان معقولا إلى المعقول الذي يظنه غير معقول؛ إذ لا يمكن إيجاد الأعذار للقرارات الخاطئة بسبب اتخاذها وفقا لتطبيقات الاقتصاد السلوكي، وتفنيد عقلانيتها، ومع المتغيرات السيكولوجية والتحولات الكثيرة التي تؤثر على اتخاذ القرارات أصبح دورها مهما لتساعدنا على فهم أنفسنا جيدا عبر إدراكنا لمدى ابتعادنا عن المثالية والمنطقية كما ورد في خلاصة 'قبول اللامعقول'. ونُشر على صحيفة شعاع في يوليو 2008م بأن 'إدراكنا واعترافنا بمحدودية عقلانيتنا يعد عاملا حيويا في توجيه طاقاتنا وتطويع البيئة المحيطة بنا لنتخذ قرارات أفضل ننتقيها من بين الخيارات المتاحة لنا'، ولنكن صرحاء لو أدرك كل فرد منا ذلك لكانت قراراتنا أكثر حكمة واتزانا وأقل ضررا، فما يعاني منه البعض هو مشكلة النسبية التي تنظر للأمور من ناحية الجزئيات لا الكليات أو العموميات ليبدؤوا بمقارنة كل منها بالجزء الآخر فتجدهم لا يستطيعوا تحديد أي منهما أفضل لاختياره وأيهما أسوء لتجاهله وإهماله، إضافة إلى عدم وجود معيار واضح لدى الأشخاص في القياس، والأخطر من ذلك أن النسبية تساعد على تضليلنا وتغييبنا عن كثير من الحقائق بالرغم مما تقدمه النسبية من حلول لمشكلات كثيرة في حياتنا اليومية، وهنا يأتي التحدي الأكبر في الاقتصاد السلوكي الذي يجعل الإنسان دائما في حيرة من أمره، ويقارن ويفاضل باستمرار قبل اتخاذ أي قرار سواء عند اختيار منتج أو الرغبة في الاستفادة من خدمة معينة وحتى في تحديد مشاعره وتوجهاته يصطدم البعض بتأطير النسق الاجتماعي بحجة عدم الخروج عن المألوف، ويصبح مجبرا على اتباعه، وربما يؤدي إلى ما يعرف بثقافة القطيع، وهي أن يكون الشخص تابعا لتوجهات أشخاص آخرين، وداعما لها ليتحول الإنسان من قيادي إلى انقيادي بسبب تحول العقل الجمعي أو ثقافة القطيع 'يفترض صحة حكم الآخرين على موقف ما، وسواء أكان هذا الحكم صائبا أم خاطئا فنحن ننساق خلفه في جميع الأحوال' إلى غريزة تتحول إلى سلوك ثم إلى ممارسة دائمة، وهنا نتساءل، هل أصبحت مشاعرنا هي من تحدد خياراتنا وتدفع باتخاذنا لبعض القرارات؟ الإجابة يبدو نعم وللتعامل مع الأمر بحكمة واستدامة علينا أن نبحث عن نماذج مبتكرة لدمج تطبيقات الاقتصاد التقليدي مع الاقتصاد السلوكي لتحكيم العقل والمشاعر عند اتخاذ القرارات وبنائها بما يتوافق مع ظروفنا الاقتصادية ومتغيرات الحياة اليومية، ولبناء سلوك متزّن مبني على توظيف العقل لإدارة المشاعر وضبطها عند اتخاذ مختلف القرارات وعند تحديد الأولويات.

خلاصة ما تطرقنا إليه أعلاه، فإن سلوك الإنسان ليس عقلانيا عموما في مختلف القضايا كون أن العقل ليس الموجه الوحيد لسلوك الإنسان؛ لأن المشاعر تشارك في توجيه السلوك، فالعقل لا يستسلم للإغراءات؛ لأنه يبحث فيما ورائها، ولكن المشاعر تتعرض للإغراءات عبر حملات التسويق للمنتجات والخدمات -على سبيل المثال لا الحصر- من قبل مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا استطاعت مشاعرنا النفور من هذه الحملات لعدم اقتناعها بالعروض والإغراءات فإن صمود العقل والمشاعر مجتمعة تكوّن لنا سلوك منضبط للإنسان مبني على قرارات عقلانية في الجوانب المادية والإنسانية، ولكن علينا أن نعترف أن سلوكنا عموما يظل متأرجحا بين العقل والمشاعر.