فدوى العبود: القصة غير مضطهدة وليس لديها وعي الضحية!
ترى أن على المثقف السوري تعلم التواضع من الحرب
السبت / 27 / جمادى الآخرة / 1444 هـ - 19:24 - السبت 21 يناير 2023 19:24
الروح الشعرية كالملح يوضع بمقادير مدروسة فلا يفسد القصة -
بطلاتي يردن التخفف من العار عبر الطيران والموت والمصارحة -
الرواية تمسك بحياة كاملة متدفقة لكن القصة تكتفي بلمحة من هذه الحياة -
أحببت الفلاسفة الذين يقفون على التخوم بين العقل والحدس والقلب -
المثقف يعيد أفكاره ويكررها كما يكرر شاعر قصيدته في كل محفل -
ترى الكاتبة السورية فدوى العبود أنها ابنة الحرب، وتنتمي إلى جيل تحرر من عبء الأيديولوجيا، جيل أبناؤه يكتبون فوق الأنقاض، لكنها ترى في الوقت نفسه أن المثقف السوري ينقصه احترام تجربة الآخر والاعتراف بمهارته، وتقدير أعماله، والتعلم منه.
فدوى العبود لديها اهتمامات نقدية كبيرة إذ حصلت على ماجستير الفلسفة والأدب من جامعة دمشق، وأصدرت كتاب «التحليل الفينومينولوجي للوعي عند سارتر وانعكاسه في أدبه»، ولها تحت الطبع «موت البطل في سرديات ما بعد الحداثة.. رواية الألفيّة الثالثة نموذجًا»، و«التجريب عند أنيس الرافعي من المنجز إلى السيرة».
فدوى حصلت على جائزة اتحاد الكتاب العرب في دمشق 1995، وجائزة منى الشافعي للقصة القصيرة 2018، وجائزة نادي تبوك للمقال الأدبي 2021، وأخيرًا جائزة أبجد للقصة القصيرة العربية، عن قصة «رجل ثلج لا يذوب» لعام 2022.
الحوار التالي ينطلق من مناقشة مجموعتها القصصية الجديدة «تلة يسكنها الأعداء» ويتطرق معها إلى مناقشة الساحة في سوريا والعالم العربي.
* لماذا اخترت أن تكون قصصك شديدة القتامة والكابوسية؟ وأن يعاني الأبطال من مشاكل يتم تضخيمها على بساطتها أحيانًا، مثل بطلة «قصاصات منتهية الصلاحية» التي تحاول رسم العلم أو كتابة موضوع عن الربيع، ولا يرضى عنها أحد؟
- لا أريد أن أفسر مرامي النص، فهذا خارج عن سلطتي الآن، إنه يخصّ القارئ، لكني أعتقد أن مشكلة السعي للكمال -وهي التيمة الرئيسية لنص «قصاصات منتهية الصلاحية» على سبيل المثال- ليست مشكلة بسيطة في الوجود البشري، إنها أشبه بوهم الخلود.
شخصيًا أميل للتفاصيل المجهرية التي تعكس نظامًا أكبر في داخلها، كما تعكس الذرة وحركتها أسرار الكون كما تعلم.
لقد حظي نص «تلة يسكنها الأعداء»، بعدد من القراءات ورأى بعض النقاد في «قصاصات منتهية الصلاحية» نقدًا للغة الإنشائية الميتة التي نتعلمها في المدرسة، وهذا أسعدني وجعلني أرى النص بمنظار جديد، وأتت قراءة جديدة لتفسر هذا الفشل هيجليًا فبحسب فلسفة هيجل (النصوص تبسيط لبداية الإخراج الهيجلي الذي قدّمه بيكيت بشكل طريف «هل فشلت؟.. حاول مجددًا، وافشل مجددًا، ولكن افشل بصورة أفضل». لا يريد النص أكثر من ذلك ولا يحلم كاتبه بأكثر من هذا.
* لماذا تكثر الإحالة إلى شخصيات وأعمال أخرى، مثل الروثيانة لدون كيشوت، و«البحث عن المطلق» لدى بلزاك، وقصص ديكنز، وكافكا، وسمكة همنجواي، وسميث بطل «1984»، و«كتاب الرمل» لبورخيس، وجوفاني دروجو بطل رواية «التتار»، وعنترة، وصنع الله إبراهيم، إلخ؟
- سأخبرك بسر، يتحدث الكتاب عن مطبخ الكتابة، وعن اشتغالاتهم، أعتقد أن هذا دقيق فيما يخص القسم الواعي، لكنْ ثمة جزء آخر ليس خاضعًا لسلطة اللغة، يجعل هذه الاشتغالات في قسمها الأعظم تنضج في مخبر اللاوعي، وهي خفية حتى عن كاتبها في كثير من الأحيان، ولو أدركها لعجز عن شرحها أو خجل من ذلك.
لقد انبثقت هذه الأعمال التي ذكرتها أثناء كتابتي للنص تلقائيًّا، فحين أرغب بالحديث عن الزمن تمتد أمامي صورة حصن بصري وصحراء شاسعة وأعرف أني أمام صحراء التتار وجيوفاني دروجو شخصيًّا، وعندما أكتب عن الوشاية ينبثق أمامي سميث بطل 1984.
لقد انبثقت هذه الأعمال تلقائيا في مخيلتي وكأن أحدًا يثرثر في رأسي، أو كأسماك تتلألأ فجأة على سطح بحيرة الوعي متقافزة هنا وهناك.
* تلك الاستدعاءات هل تفترض أن يكون قارئ مجموعتك مثقفًا؟
- لا أعتقد. إنها إشارات لا تلغي المشهد الأصلي الواقعي بل تسنده أو تدعمه، لكنها تفترض قارئًا لديه القدرة على التحديق في أنقاض مدينته ثم تخيل مشهدها قبل أن تتدمر، هي قصاصات ونصوص متجاورة ومشاهد مبتورة وعبارات تكمل بعضها بعضًا. تتطلب قارئًا بوعي غير تقليدي، يقبل التنازل عن الحكاية وعن النهايات المشوقة أو التراجيدية، قارئ يقرر أن يترجل من سيارته التي توصله للخاتمة، ويمضي معي في نزهة على القدمين، محتملًا خيوط الدماء، والريح العاصفة، والشخصيات الهذيانيّة.
* العمل يمتلئ بعبارات شديدة الشعرية مثل «والدك المشنوق بخيط يتدلى من النجوم» أو «زوجها الذي يقضي الوقت في قذف صنارة نحو الأعلى واصطياد صغار النجوم من وسط المجرات»، لماذا طغت الروح الشعرية على القصص؟
- إذا سألنا مجددًا ما هو الشعر: إحدى الإجابات التي أحبها تلك التي تراها تحديقة للوجود، الشعر ليس شأن لغويًا وإلا اعتبرنا كل ما كتب ويكتب شعرًا، إنه شأن وجودي، تحديقة خاصة، والروح الشعرية برأيي لا تفسد القص. إنها كالملح يوضع بمقادير مدروسة، إن شخصياتي أساسًا هي شخصيات شعرية وورقية وهذيانية ورؤيتها للعالم رؤيا شعرية، كالأب في سيارة بيضاء كالثلج الذي تفوق خياله على واقعه حد التهام خياله لهذا الواقع.
ربما يستطيع المجاز الشعري أن يمنح الشخصيات بُعدها الصادق، في النهاية أرى أن الشعر له قدرة على تصوير الداخل أكثر مما للوصف أو الحكاية، الشعر انسحاب للأعلى أو للوراء، لذلك نحن شعراء حين نحلم أو نتذكر.
* قصة «وجود في الزمن الخطأ» عن طفلة ترى ما لا يجب أن يُرى. هل أردت القول إن البراءة محكوم عليها بالعزلة؟
- هذا دقيق، انظر حولك، أنا مولعة بهذه اللحظة، (لحظة التواجد في مكان خاطئ).
لربيع جابر رواية مهمة عنوانها «دروز بلغراد» يتحدث عن هذا الخلل الوجودي، هذا الخطأ الفادح حين يتواجد حنا يعقوب بائع البيض على شاطئ لترحيل الأسرى إلى بلجراد، ويساق بدل شخص تمت دفع رشوة للوالي لتبرئته، أيضا دون كيخوت يتواجد في عالم تغيرت قيمه لكنه يحمل في رأسه قيم فروسية تجعله يقع في هذه المصادفات.
رواية استسلام لراي لوريجا تتطرق لمسألة الشخص الذي حمل هذه النزعة للبراءة في عالم آلي وزجاجي. هذه الشخصيات تأسرني وتعذبني، لا أعتقد أني قلت كل شيء حول هذا الشكل الوجودي الفادح الثمن. لديَّ في أعماقي شخصيات وهي ليست متخيلة بل مرت في حياتي، أناس تواجدوا في مكان وزمان خاطئ والدي أحدها. الشخصيات الوحيدة القادرة على رضّ عاطفتي هي هذا النمط.
* الأشخاص حائرون في معظم القصص ولا يعرفون من هم ولا أين هم، ولا هؤلاء الأشخاص الذين يقابلونهم، وإن كانوا يعيشون حلمًا أم واقعًا مثل الراوي أو الرواية في «مرآة مسننة الحواف».. هل الكتابة عن المسافة بين المتوهم والحقيقي منحك مساحة للعب في الكتابة؟
- هذا سؤال مهم، اللعب السرديّ شكل من أشكال مراوغة الأسر، إن الحيرة لدى أبطالي هي عجزهم عن التعبير عن ذواتهم، ذوات مفرغة، فاقدة لهويتها الإنسانية، الوهم هو نمط وجودي نعيشه إذا استسلمنا، ثمن تدفعه الشخصيات. اللعب في منطقة وسطى تتيح لي القول واللاقول، (أقول لمن يقرأ بذكاء ولا أقول لمن يريد التلصص والتربص). في هذه المنطقة كانت حريتي.
* لماذا يكثر استدعاء الجنود في القصص؟
- لأنهم جزء من المشهد.
* «أنت هنا لأن رصاصة أخطأتك وأصابت غيرك». هذه الجملة التي نطقت بها بطلة قصة «اختلال وجودي» إلى أي مدى تفسر مصائر البطلات في المجموعة؟
- يعتبر البعض النجاة حدثا سعيدا، لكن لا أعتقد أن هذا يمثل شعور الناجي في أعماقه، يصرخ الأبطال في الأفلام، لقد نجوت، لكن هل حقا ننجو بعد كل محنة؟ ماذا عن الرضوض، ماذا عن الضحايا، إن بطلات تلة يسكنها الأعداء يشعرن بعار أسهمن في صنعه بطريقة أو بأخرى، وهن يردن التخفف منه عبر الطيران والموت والمصارحة.
* لماذا وضعت عنوانا شارحا مع عنوان المجموعة هو «نصوص متجاورة»؟
- نصوص متجاورة هي لعبة كل جزء فيها يكمل الآخر، كل نص يكشف وجهًا من وجوه الوجود. لا يمكن لنص أن يحيا بمفرده بدون النصوص الأخرى، مشاهد للشجرة ذاتها من عدة زوايا، قصاصات متناثرة قد تعثر في آخر نص على جملة كانت سؤالا في النص الأول. وقد تعثر في النص الثاني على مشهد وتجد تكملته في النص قبل الأخير.
* ما الذي تمنحه القصة للكاتب أكثر من الرواية أو الشعر؟ وهل القصة مظلومة عربيًا بشكل ما؟
- الرواية تلقي على عاتق الكاتب مهمة صعبة، الإمساك بحياة كاملة متدفقة، لكن القصة تكتفي بلمحة من هذه الحياة، قد تقول في بضعة أسطر ما أرادت الرواية قوله في حياة كاملة، لا أعتقد أنها مظلومة، ربما تحتل الرواية مساحة أكبر من مساحتها في الجوائز ووعي القارئ والإعلام، لكن القصة ليست مضطهدة وليس لديها وعي الضحية وبينما تبني الرواية البيت فإن القصة ترمي أحجارًا على نوافذه، القصة مشاكسة ومشاغبة. إنها طفولة الأدب.
* ما جيلك في سوريا؟ ومن الكتَّاب العرب الذين تعجبك تجاربهم؟
- كتَّاب الحرب، الجيل الذي تحرر من عبء الأيديولوجيا، الذين يكتبون فوق الأنقاض. هم جيلي، جيل يسعى جاهدًا للبحث عن هويته في الأنقاض يتمسك بذاكرة الضحايا، هناك نهضة أدبية في هذا الجيل وتجارب حقيقية أتمنى لها الاستمرار وألا تتوقف عن إمتاعنا بكل ما تقدمه.
تعجبني تجارب كثيرة، صنع الله إبراهيم، مجيد طوبيا، شريف صالح، أنيس الرافعي، فاطمة المرنيسي، ربيع جابر. عزت القمحاوي. إبراهيم صموئيل، عبدالله ناصر. حزامة حبايب.
* ومن هم أساتذتك في الكتابة؟
- علاقتي بمن سآتي على ذكرهم لم تكن انبهارًا بقدر ما كانت مساعدة على اكتشاف أثمن ما لديَّ، المعلم الحقيقي ذلك الذي يساعدك على اكتشاف أفضل ما فيك، إن قراءته تلهمك.
كونديرا من التجارب المهمة التي تعلمت منها الكثير، على صعيد الكتابة والقراءة، إنه يعيد تشكيل قارئه ويطلب إليه أن ينخرط كله في النص، كتابته تخاطب الوعي الذكي، ورغم تصنيفه كأحد أساتذة العدميّة لكنه دائمًا استطاع أن يفتح لقارئه وعيًا متجددًا بالحياة.
لديَّ ولع خاص بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء جاستون باشلار، حين دخلت الجامعة في قسم الدراسات الفلسفية وبينما يحفظ أصدقائي المعادلات المنطقية والعبارات اللاتينية والقواعد العقلية كنت أقرأ بروح الشاعر، أدهش لعبارة هنا وجملة هناك، أحببت من الفلاسفة أولئك الذين يقفون على التخوم بين العقل والحدس والقلب. في هذه الكتابة تشعر أن الحدود تتماهى في الكتابة وأن الحدس هو الذي يقود الكتابة برمتها.
* لماذا قلتِ سابقًا إن المثقف قد مات؟ وما الذي يلزمه ليستيقظ ويصبح صاحب أدوار ورسالة في المجتمع؟
- سأخبرك بأمر، في طفولتي كان ينظر للمثقف كظاهرة غريبة، وكان المثقفون يجتمعون في باحة المركز الثقافي، يقرأون لبعضهم نصوصًا جميلة، ثم ينتهي الأمر، بحفلة عشاء أو تحلية.
كان البؤس هو هو، والجهل يزداد، واقعيًّا كانوا ظاهرة جميلة، سيرك متنقل، نبتة غريبة، حين كبرت أكثر، وجدت أن السيرك ذاته، حفلات، نقرأ لبعضنا، المثقف يعيد أفكاره ويكررها تماما كما يكرر شاعر قصيدته في كل محفل، ثم ماذا؟
لننظر حولنا يوتيوبر بمحتوى هزيل يمكن له أن يؤثر في أكبر قضية، ومعه ملايين المتابعين والفانز. منذ عمر السادسة أسمع الحوارات نفسها، وكأننا في طاحون دائري، إن بول سارتر وسيمون دي بوفوار عاشا حريتهما قبل أن ينظرّا لها، لقد جربا أقسى حدودها المتطرفة وكتبا.
المثقف العربي، لا يريد أن يتبلل بماء التجربة، يعتقد أن عليه أن يكون بطلًا (وهذه عقلية سياسية أبوية) إنه ينادي بقيم ثم يفعل العكس.
* ما ملاحظاتك على الساحة الثقافية في سوريا؟
- المثقف السوري يشعر بالعزلة والظلم، لكن عليه أن يتعلم من الحرب، التواضع والتواصل ضروري للنمو والثراء. احترام تجربة الآخر والاعتراف بمهارته، تقدير أعماله، والتعلم منه هو ما ينقص المثقف السوري، عليه أن يحرر وعيه من رواسب المديح والمجاملة. أن نستمع لبعضنا بعضًا، عليه أن يتخلص من التحيزات والقبلية نحن لسنا قبائل من الكتاب، نحن أفراد وتجارب مختلفة ومن حيث يتوقف أحدنا يبدأ الآخر.
* وأخيرًاً ما طموحك للكتابة؟
- هذا سؤال مفاجئ لي صراحة، في كل عمل يوجد مستقبل، الكتابة مستقبلها كامن في ذاتها، إنها كالحياة ولا أحد يقول طموحي الحياة، لكن ثمة أمرا، في أعماقي يوجد أشياء كثيرة ما زالت لغتي قاصرة عن بلوغ ذراها أو هاويتها إذا شئت، لا أطمح لتغيير العالم. يمكن للاعب رياضي فعل ذلك، يمكن للموت أن يفعل أيضا، فقط أريد أن أعثر على اللغة التي يمكنني بها تقديم ذلك العالم الذي يمور في أعماقي. أن أقطع الحبل السريّ معه وألقيه في العراء.
بطلاتي يردن التخفف من العار عبر الطيران والموت والمصارحة -
الرواية تمسك بحياة كاملة متدفقة لكن القصة تكتفي بلمحة من هذه الحياة -
أحببت الفلاسفة الذين يقفون على التخوم بين العقل والحدس والقلب -
المثقف يعيد أفكاره ويكررها كما يكرر شاعر قصيدته في كل محفل -
ترى الكاتبة السورية فدوى العبود أنها ابنة الحرب، وتنتمي إلى جيل تحرر من عبء الأيديولوجيا، جيل أبناؤه يكتبون فوق الأنقاض، لكنها ترى في الوقت نفسه أن المثقف السوري ينقصه احترام تجربة الآخر والاعتراف بمهارته، وتقدير أعماله، والتعلم منه.
فدوى العبود لديها اهتمامات نقدية كبيرة إذ حصلت على ماجستير الفلسفة والأدب من جامعة دمشق، وأصدرت كتاب «التحليل الفينومينولوجي للوعي عند سارتر وانعكاسه في أدبه»، ولها تحت الطبع «موت البطل في سرديات ما بعد الحداثة.. رواية الألفيّة الثالثة نموذجًا»، و«التجريب عند أنيس الرافعي من المنجز إلى السيرة».
فدوى حصلت على جائزة اتحاد الكتاب العرب في دمشق 1995، وجائزة منى الشافعي للقصة القصيرة 2018، وجائزة نادي تبوك للمقال الأدبي 2021، وأخيرًا جائزة أبجد للقصة القصيرة العربية، عن قصة «رجل ثلج لا يذوب» لعام 2022.
الحوار التالي ينطلق من مناقشة مجموعتها القصصية الجديدة «تلة يسكنها الأعداء» ويتطرق معها إلى مناقشة الساحة في سوريا والعالم العربي.
* لماذا اخترت أن تكون قصصك شديدة القتامة والكابوسية؟ وأن يعاني الأبطال من مشاكل يتم تضخيمها على بساطتها أحيانًا، مثل بطلة «قصاصات منتهية الصلاحية» التي تحاول رسم العلم أو كتابة موضوع عن الربيع، ولا يرضى عنها أحد؟
- لا أريد أن أفسر مرامي النص، فهذا خارج عن سلطتي الآن، إنه يخصّ القارئ، لكني أعتقد أن مشكلة السعي للكمال -وهي التيمة الرئيسية لنص «قصاصات منتهية الصلاحية» على سبيل المثال- ليست مشكلة بسيطة في الوجود البشري، إنها أشبه بوهم الخلود.
شخصيًا أميل للتفاصيل المجهرية التي تعكس نظامًا أكبر في داخلها، كما تعكس الذرة وحركتها أسرار الكون كما تعلم.
لقد حظي نص «تلة يسكنها الأعداء»، بعدد من القراءات ورأى بعض النقاد في «قصاصات منتهية الصلاحية» نقدًا للغة الإنشائية الميتة التي نتعلمها في المدرسة، وهذا أسعدني وجعلني أرى النص بمنظار جديد، وأتت قراءة جديدة لتفسر هذا الفشل هيجليًا فبحسب فلسفة هيجل (النصوص تبسيط لبداية الإخراج الهيجلي الذي قدّمه بيكيت بشكل طريف «هل فشلت؟.. حاول مجددًا، وافشل مجددًا، ولكن افشل بصورة أفضل». لا يريد النص أكثر من ذلك ولا يحلم كاتبه بأكثر من هذا.
* لماذا تكثر الإحالة إلى شخصيات وأعمال أخرى، مثل الروثيانة لدون كيشوت، و«البحث عن المطلق» لدى بلزاك، وقصص ديكنز، وكافكا، وسمكة همنجواي، وسميث بطل «1984»، و«كتاب الرمل» لبورخيس، وجوفاني دروجو بطل رواية «التتار»، وعنترة، وصنع الله إبراهيم، إلخ؟
- سأخبرك بسر، يتحدث الكتاب عن مطبخ الكتابة، وعن اشتغالاتهم، أعتقد أن هذا دقيق فيما يخص القسم الواعي، لكنْ ثمة جزء آخر ليس خاضعًا لسلطة اللغة، يجعل هذه الاشتغالات في قسمها الأعظم تنضج في مخبر اللاوعي، وهي خفية حتى عن كاتبها في كثير من الأحيان، ولو أدركها لعجز عن شرحها أو خجل من ذلك.
لقد انبثقت هذه الأعمال التي ذكرتها أثناء كتابتي للنص تلقائيًّا، فحين أرغب بالحديث عن الزمن تمتد أمامي صورة حصن بصري وصحراء شاسعة وأعرف أني أمام صحراء التتار وجيوفاني دروجو شخصيًّا، وعندما أكتب عن الوشاية ينبثق أمامي سميث بطل 1984.
لقد انبثقت هذه الأعمال تلقائيا في مخيلتي وكأن أحدًا يثرثر في رأسي، أو كأسماك تتلألأ فجأة على سطح بحيرة الوعي متقافزة هنا وهناك.
* تلك الاستدعاءات هل تفترض أن يكون قارئ مجموعتك مثقفًا؟
- لا أعتقد. إنها إشارات لا تلغي المشهد الأصلي الواقعي بل تسنده أو تدعمه، لكنها تفترض قارئًا لديه القدرة على التحديق في أنقاض مدينته ثم تخيل مشهدها قبل أن تتدمر، هي قصاصات ونصوص متجاورة ومشاهد مبتورة وعبارات تكمل بعضها بعضًا. تتطلب قارئًا بوعي غير تقليدي، يقبل التنازل عن الحكاية وعن النهايات المشوقة أو التراجيدية، قارئ يقرر أن يترجل من سيارته التي توصله للخاتمة، ويمضي معي في نزهة على القدمين، محتملًا خيوط الدماء، والريح العاصفة، والشخصيات الهذيانيّة.
* العمل يمتلئ بعبارات شديدة الشعرية مثل «والدك المشنوق بخيط يتدلى من النجوم» أو «زوجها الذي يقضي الوقت في قذف صنارة نحو الأعلى واصطياد صغار النجوم من وسط المجرات»، لماذا طغت الروح الشعرية على القصص؟
- إذا سألنا مجددًا ما هو الشعر: إحدى الإجابات التي أحبها تلك التي تراها تحديقة للوجود، الشعر ليس شأن لغويًا وإلا اعتبرنا كل ما كتب ويكتب شعرًا، إنه شأن وجودي، تحديقة خاصة، والروح الشعرية برأيي لا تفسد القص. إنها كالملح يوضع بمقادير مدروسة، إن شخصياتي أساسًا هي شخصيات شعرية وورقية وهذيانية ورؤيتها للعالم رؤيا شعرية، كالأب في سيارة بيضاء كالثلج الذي تفوق خياله على واقعه حد التهام خياله لهذا الواقع.
ربما يستطيع المجاز الشعري أن يمنح الشخصيات بُعدها الصادق، في النهاية أرى أن الشعر له قدرة على تصوير الداخل أكثر مما للوصف أو الحكاية، الشعر انسحاب للأعلى أو للوراء، لذلك نحن شعراء حين نحلم أو نتذكر.
* قصة «وجود في الزمن الخطأ» عن طفلة ترى ما لا يجب أن يُرى. هل أردت القول إن البراءة محكوم عليها بالعزلة؟
- هذا دقيق، انظر حولك، أنا مولعة بهذه اللحظة، (لحظة التواجد في مكان خاطئ).
لربيع جابر رواية مهمة عنوانها «دروز بلغراد» يتحدث عن هذا الخلل الوجودي، هذا الخطأ الفادح حين يتواجد حنا يعقوب بائع البيض على شاطئ لترحيل الأسرى إلى بلجراد، ويساق بدل شخص تمت دفع رشوة للوالي لتبرئته، أيضا دون كيخوت يتواجد في عالم تغيرت قيمه لكنه يحمل في رأسه قيم فروسية تجعله يقع في هذه المصادفات.
رواية استسلام لراي لوريجا تتطرق لمسألة الشخص الذي حمل هذه النزعة للبراءة في عالم آلي وزجاجي. هذه الشخصيات تأسرني وتعذبني، لا أعتقد أني قلت كل شيء حول هذا الشكل الوجودي الفادح الثمن. لديَّ في أعماقي شخصيات وهي ليست متخيلة بل مرت في حياتي، أناس تواجدوا في مكان وزمان خاطئ والدي أحدها. الشخصيات الوحيدة القادرة على رضّ عاطفتي هي هذا النمط.
* الأشخاص حائرون في معظم القصص ولا يعرفون من هم ولا أين هم، ولا هؤلاء الأشخاص الذين يقابلونهم، وإن كانوا يعيشون حلمًا أم واقعًا مثل الراوي أو الرواية في «مرآة مسننة الحواف».. هل الكتابة عن المسافة بين المتوهم والحقيقي منحك مساحة للعب في الكتابة؟
- هذا سؤال مهم، اللعب السرديّ شكل من أشكال مراوغة الأسر، إن الحيرة لدى أبطالي هي عجزهم عن التعبير عن ذواتهم، ذوات مفرغة، فاقدة لهويتها الإنسانية، الوهم هو نمط وجودي نعيشه إذا استسلمنا، ثمن تدفعه الشخصيات. اللعب في منطقة وسطى تتيح لي القول واللاقول، (أقول لمن يقرأ بذكاء ولا أقول لمن يريد التلصص والتربص). في هذه المنطقة كانت حريتي.
* لماذا يكثر استدعاء الجنود في القصص؟
- لأنهم جزء من المشهد.
* «أنت هنا لأن رصاصة أخطأتك وأصابت غيرك». هذه الجملة التي نطقت بها بطلة قصة «اختلال وجودي» إلى أي مدى تفسر مصائر البطلات في المجموعة؟
- يعتبر البعض النجاة حدثا سعيدا، لكن لا أعتقد أن هذا يمثل شعور الناجي في أعماقه، يصرخ الأبطال في الأفلام، لقد نجوت، لكن هل حقا ننجو بعد كل محنة؟ ماذا عن الرضوض، ماذا عن الضحايا، إن بطلات تلة يسكنها الأعداء يشعرن بعار أسهمن في صنعه بطريقة أو بأخرى، وهن يردن التخفف منه عبر الطيران والموت والمصارحة.
* لماذا وضعت عنوانا شارحا مع عنوان المجموعة هو «نصوص متجاورة»؟
- نصوص متجاورة هي لعبة كل جزء فيها يكمل الآخر، كل نص يكشف وجهًا من وجوه الوجود. لا يمكن لنص أن يحيا بمفرده بدون النصوص الأخرى، مشاهد للشجرة ذاتها من عدة زوايا، قصاصات متناثرة قد تعثر في آخر نص على جملة كانت سؤالا في النص الأول. وقد تعثر في النص الثاني على مشهد وتجد تكملته في النص قبل الأخير.
* ما الذي تمنحه القصة للكاتب أكثر من الرواية أو الشعر؟ وهل القصة مظلومة عربيًا بشكل ما؟
- الرواية تلقي على عاتق الكاتب مهمة صعبة، الإمساك بحياة كاملة متدفقة، لكن القصة تكتفي بلمحة من هذه الحياة، قد تقول في بضعة أسطر ما أرادت الرواية قوله في حياة كاملة، لا أعتقد أنها مظلومة، ربما تحتل الرواية مساحة أكبر من مساحتها في الجوائز ووعي القارئ والإعلام، لكن القصة ليست مضطهدة وليس لديها وعي الضحية وبينما تبني الرواية البيت فإن القصة ترمي أحجارًا على نوافذه، القصة مشاكسة ومشاغبة. إنها طفولة الأدب.
* ما جيلك في سوريا؟ ومن الكتَّاب العرب الذين تعجبك تجاربهم؟
- كتَّاب الحرب، الجيل الذي تحرر من عبء الأيديولوجيا، الذين يكتبون فوق الأنقاض. هم جيلي، جيل يسعى جاهدًا للبحث عن هويته في الأنقاض يتمسك بذاكرة الضحايا، هناك نهضة أدبية في هذا الجيل وتجارب حقيقية أتمنى لها الاستمرار وألا تتوقف عن إمتاعنا بكل ما تقدمه.
تعجبني تجارب كثيرة، صنع الله إبراهيم، مجيد طوبيا، شريف صالح، أنيس الرافعي، فاطمة المرنيسي، ربيع جابر. عزت القمحاوي. إبراهيم صموئيل، عبدالله ناصر. حزامة حبايب.
* ومن هم أساتذتك في الكتابة؟
- علاقتي بمن سآتي على ذكرهم لم تكن انبهارًا بقدر ما كانت مساعدة على اكتشاف أثمن ما لديَّ، المعلم الحقيقي ذلك الذي يساعدك على اكتشاف أفضل ما فيك، إن قراءته تلهمك.
كونديرا من التجارب المهمة التي تعلمت منها الكثير، على صعيد الكتابة والقراءة، إنه يعيد تشكيل قارئه ويطلب إليه أن ينخرط كله في النص، كتابته تخاطب الوعي الذكي، ورغم تصنيفه كأحد أساتذة العدميّة لكنه دائمًا استطاع أن يفتح لقارئه وعيًا متجددًا بالحياة.
لديَّ ولع خاص بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء جاستون باشلار، حين دخلت الجامعة في قسم الدراسات الفلسفية وبينما يحفظ أصدقائي المعادلات المنطقية والعبارات اللاتينية والقواعد العقلية كنت أقرأ بروح الشاعر، أدهش لعبارة هنا وجملة هناك، أحببت من الفلاسفة أولئك الذين يقفون على التخوم بين العقل والحدس والقلب. في هذه الكتابة تشعر أن الحدود تتماهى في الكتابة وأن الحدس هو الذي يقود الكتابة برمتها.
* لماذا قلتِ سابقًا إن المثقف قد مات؟ وما الذي يلزمه ليستيقظ ويصبح صاحب أدوار ورسالة في المجتمع؟
- سأخبرك بأمر، في طفولتي كان ينظر للمثقف كظاهرة غريبة، وكان المثقفون يجتمعون في باحة المركز الثقافي، يقرأون لبعضهم نصوصًا جميلة، ثم ينتهي الأمر، بحفلة عشاء أو تحلية.
كان البؤس هو هو، والجهل يزداد، واقعيًّا كانوا ظاهرة جميلة، سيرك متنقل، نبتة غريبة، حين كبرت أكثر، وجدت أن السيرك ذاته، حفلات، نقرأ لبعضنا، المثقف يعيد أفكاره ويكررها تماما كما يكرر شاعر قصيدته في كل محفل، ثم ماذا؟
لننظر حولنا يوتيوبر بمحتوى هزيل يمكن له أن يؤثر في أكبر قضية، ومعه ملايين المتابعين والفانز. منذ عمر السادسة أسمع الحوارات نفسها، وكأننا في طاحون دائري، إن بول سارتر وسيمون دي بوفوار عاشا حريتهما قبل أن ينظرّا لها، لقد جربا أقسى حدودها المتطرفة وكتبا.
المثقف العربي، لا يريد أن يتبلل بماء التجربة، يعتقد أن عليه أن يكون بطلًا (وهذه عقلية سياسية أبوية) إنه ينادي بقيم ثم يفعل العكس.
* ما ملاحظاتك على الساحة الثقافية في سوريا؟
- المثقف السوري يشعر بالعزلة والظلم، لكن عليه أن يتعلم من الحرب، التواضع والتواصل ضروري للنمو والثراء. احترام تجربة الآخر والاعتراف بمهارته، تقدير أعماله، والتعلم منه هو ما ينقص المثقف السوري، عليه أن يحرر وعيه من رواسب المديح والمجاملة. أن نستمع لبعضنا بعضًا، عليه أن يتخلص من التحيزات والقبلية نحن لسنا قبائل من الكتاب، نحن أفراد وتجارب مختلفة ومن حيث يتوقف أحدنا يبدأ الآخر.
* وأخيرًاً ما طموحك للكتابة؟
- هذا سؤال مفاجئ لي صراحة، في كل عمل يوجد مستقبل، الكتابة مستقبلها كامن في ذاتها، إنها كالحياة ولا أحد يقول طموحي الحياة، لكن ثمة أمرا، في أعماقي يوجد أشياء كثيرة ما زالت لغتي قاصرة عن بلوغ ذراها أو هاويتها إذا شئت، لا أطمح لتغيير العالم. يمكن للاعب رياضي فعل ذلك، يمكن للموت أن يفعل أيضا، فقط أريد أن أعثر على اللغة التي يمكنني بها تقديم ذلك العالم الذي يمور في أعماقي. أن أقطع الحبل السريّ معه وألقيه في العراء.