نوافذ ..هيكل بين المُريدين والكارهين
السبت / 27 / جمادى الآخرة / 1444 هـ - 18:50 - السبت 21 يناير 2023 18:50
في الثالث من أكتوبر 1979م نشر محمد حسنين هيكل مقالًا بجريدة 'الوطن' الكويتية عنوانه 'ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين' يتحدث فيه عن توجيهه عتابًا للرئيس جمال عبد الناصر على اعتقال شخصية من الشخصيات المرتبطة بصحيفة 'الأهرام' المصرية التي كان هيكل يرأس تحريرها، ثم يقول: 'لا أسمح لنفسي أن أقص عليك ما قلته لعبد الناصر، ولو كان حيًّا واقتضت الظروف أن أروي الحديث كله لرويته، ولكنه لم يعد بيننا، ولهذا لا أستبيح لنفسي أن أدعي الشجاعة على غائب، ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين، الفئران كلها تعربد في غياب القطط، ولم يكن جمال عبد الناصر قطًّا، وإنما كان أسدًا مهيبًا وشامخًا'. ما أجمل هذا المنطق الذي يتحدث عن أخلاقيات الكتابة، رغم أنني –شخصيّا- لا أوافق عليه، فعبد الناصر وغيره من الشخصيات العامة لا يعفيهم الموت من الحديث عن أعمالهم التي كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على كثير من الناس.
لكن الكاتب والصحفيّ العربي الكبير نشر بعد سنوات قليلة من هذا المقال كتابه الشهير 'خريف الغضب' الذي فجّر غضبًا كبيرًا عليه من محبي الرئيس المصري الراحل أنور السادات معتبرين إياه 'تصفية حساب' مع الرئيس الذي حبس هيكل مدة قصيرة في سبتمبر 1981م. أثناء ذلك الغضب على 'خريف الغضب' بعث توفيق الحكيم، الأديب المصري الكبير، برسالة لهيكل يقول فيها: 'إن حالتي تشبه حالتك، فأنت كتبتَ كتابًا هو 'خريف الغضب' اعتُبِر هجومًا ضد السادات بعد موته، وأنا كتبتُ كتابًا هو 'عودة الوعي' اعتُبِر هجومًا على عبدالناصر بعد موته'، لكن هيكل رفض في ردّه على رسالة الحكيم المقارنة بين الكتابين: 'لم أكتب بعد موت أحد. كتبتُ في حياته رأيي، وكتبتُ بعد موته نتائج دراستي لما حدث'. إذن فهي 'دراسة' لما حدث، وليست مجرد كتابة عن حاكم ميت، وقد شملت هذه الدراسة حتى أم السادات التي ورث عنها الرئيس كل تقاطيعها 'الزنجية'، وسببتْ له هذه التقاطيع 'تعقيدات دفينة في أعماق وجدانه'!
أود أن أسجّل هنا أن كتاب 'خريف الغضب' هو من الكتب المهمة في التاريخ السياسي العربي، وكشف كثيرًا من المخبأ في السياسة العربية والدولية بفضل الوثائق المهمة التي امتلكها هيكل، وعلاقاته المتشعبة التي أتاحت له الاطلاع على كثير من المعلومات من مصادرها الأساسية، وأن أسجّل أيضًا أنني لستُ من مؤيدي السادات ولا المدافعين عنه ولا عن خياراته السياسية التي أدت إلى ما نحن عليه اليوم من هوان عربي، لكن استشهادي بالحديث عن أمه بهذا الشكل كان لتوضيح أن هيكل ليس منزّها عن الخطأ، ولا 'تصفية الحسابات' حتى وهو يؤلف كتابًا مدعمّا بأهم سلاح امتلكه عبر مسيرته في الكتابة: الوثائق.
غير أن هذا السلاح ذو حدين كما يخبرنا المفكر فؤاد زكريا في كتابه 'كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي'، وأنه إذا كان هيكل أبرع من أتقن استخدام 'سلاح الأرشيف'، فإن هذا السلاح يمكن أن 'يسدد إلى عنق صاحبه' بسهولة. ولضيق المساحة سأضرب مثالين صغيرين؛ الأول حين روى هيكل في كتابه 'الانفجار 1967' عن أنه خلال القمة العربية الثانية في الإسكندرية في سبتمبر 1964م وصل إلى عبدالناصر نصّ حوار دار في حديقة قصر المنتزه –مقرّ القمة- بين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والأمير فيصل بن عبدالعزيز (ولي عهد السعودية آنذاك) والذي قال فيه الأخير: 'إذا لم ينسحب الجيش المصري من اليمن فنحن على استعداد لأن نجعل منها مقبرة كبيرة له'. أورد هيكل هذا النص في كتابه دون أن ينتبه أن وثائق قمة الإسكندرية تقول إن الرئيس بورقيبة لم يكن حاضرًا فيها، وإن رئيس الوفد التونسي كان رئيس الوزراء الباهي الأدغم وليس بورقيبة!.
أما المثال الآخر فهو أن هيكل يروي في كتابه 'سقوط نظام' الصادرة طبعته الأولى عن دار 'الشروق' المصرية عام 2003م أن لقاءه الأول بجمال عبدالناصر كان في فلسطين سنة 1948م، وروى فيه كيف أن 'الصاغ' [الرائد] جمال عبدالناصر بدا له 'نافد الصبر'، وعزا ذلك إلى 'الجهد الذي بذله في معركة لم ينم فيها ليلة الأمس' كما قيل له. ويبدو أن هيكل نسِي أنه نشر مقالًا في مجلة 'آخر ساعة' في عددها الصادر في أغسطس 1952م يقول فيه: 'ثم التقيت به لأول، وكان اللقاء في بيت محمد نجيب قبل أربعة أيام فقط من حركة القوات المسلحة' يقصد ثورة يوليو 1952م، وهو ما أكده أيضًا محمد نجيب في كتابه 'كنتُ رئيسًا لمصر'، فمن أين جاءت حكاية الصاغ نافد الصبر هذه!
خلاصة القول إن محمد حسنين هيكل ظل –وسيظل ربما - مثار جدل كبير بين نوعين من قرائه: 'المريدين' الذين يَعُدُّونه شاهدًا على عصر عربي مهم، فاضحًا ألاعيب ساسته بأدلة ووثائق لا يمكن إنكارها، و'الكارهين' الذين يعتبرونه كاذبًا ومفتريًا وناشرًا للأباطيل. وفي الحقيقة أنه لا يمكن اختزال قامة كتابية وصحفية كبيرة كهيكل في هذين الرأيين فقط، على وجاهة ما يسوقه أصحابهما من أدلة عليهما. بل إن الأقرب إلى الصواب في التعاطي مع 'الأستاذ' من وجهة نظري هو رأي فؤاد زكريّا في كتابه الذي أشرتُ إليه، وهو أن الاختيار بين تصديق هيكل وتكذيبه 'لا بد للعقل الواعي أن يتجاوزه'، وأنه 'في وسع المرء أن يصدق الكثير جدًّا مما قاله هيكل، دون أن يكون مع ذلك مؤيَّدًا' له.
لكن الكاتب والصحفيّ العربي الكبير نشر بعد سنوات قليلة من هذا المقال كتابه الشهير 'خريف الغضب' الذي فجّر غضبًا كبيرًا عليه من محبي الرئيس المصري الراحل أنور السادات معتبرين إياه 'تصفية حساب' مع الرئيس الذي حبس هيكل مدة قصيرة في سبتمبر 1981م. أثناء ذلك الغضب على 'خريف الغضب' بعث توفيق الحكيم، الأديب المصري الكبير، برسالة لهيكل يقول فيها: 'إن حالتي تشبه حالتك، فأنت كتبتَ كتابًا هو 'خريف الغضب' اعتُبِر هجومًا ضد السادات بعد موته، وأنا كتبتُ كتابًا هو 'عودة الوعي' اعتُبِر هجومًا على عبدالناصر بعد موته'، لكن هيكل رفض في ردّه على رسالة الحكيم المقارنة بين الكتابين: 'لم أكتب بعد موت أحد. كتبتُ في حياته رأيي، وكتبتُ بعد موته نتائج دراستي لما حدث'. إذن فهي 'دراسة' لما حدث، وليست مجرد كتابة عن حاكم ميت، وقد شملت هذه الدراسة حتى أم السادات التي ورث عنها الرئيس كل تقاطيعها 'الزنجية'، وسببتْ له هذه التقاطيع 'تعقيدات دفينة في أعماق وجدانه'!
أود أن أسجّل هنا أن كتاب 'خريف الغضب' هو من الكتب المهمة في التاريخ السياسي العربي، وكشف كثيرًا من المخبأ في السياسة العربية والدولية بفضل الوثائق المهمة التي امتلكها هيكل، وعلاقاته المتشعبة التي أتاحت له الاطلاع على كثير من المعلومات من مصادرها الأساسية، وأن أسجّل أيضًا أنني لستُ من مؤيدي السادات ولا المدافعين عنه ولا عن خياراته السياسية التي أدت إلى ما نحن عليه اليوم من هوان عربي، لكن استشهادي بالحديث عن أمه بهذا الشكل كان لتوضيح أن هيكل ليس منزّها عن الخطأ، ولا 'تصفية الحسابات' حتى وهو يؤلف كتابًا مدعمّا بأهم سلاح امتلكه عبر مسيرته في الكتابة: الوثائق.
غير أن هذا السلاح ذو حدين كما يخبرنا المفكر فؤاد زكريا في كتابه 'كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربي'، وأنه إذا كان هيكل أبرع من أتقن استخدام 'سلاح الأرشيف'، فإن هذا السلاح يمكن أن 'يسدد إلى عنق صاحبه' بسهولة. ولضيق المساحة سأضرب مثالين صغيرين؛ الأول حين روى هيكل في كتابه 'الانفجار 1967' عن أنه خلال القمة العربية الثانية في الإسكندرية في سبتمبر 1964م وصل إلى عبدالناصر نصّ حوار دار في حديقة قصر المنتزه –مقرّ القمة- بين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والأمير فيصل بن عبدالعزيز (ولي عهد السعودية آنذاك) والذي قال فيه الأخير: 'إذا لم ينسحب الجيش المصري من اليمن فنحن على استعداد لأن نجعل منها مقبرة كبيرة له'. أورد هيكل هذا النص في كتابه دون أن ينتبه أن وثائق قمة الإسكندرية تقول إن الرئيس بورقيبة لم يكن حاضرًا فيها، وإن رئيس الوفد التونسي كان رئيس الوزراء الباهي الأدغم وليس بورقيبة!.
أما المثال الآخر فهو أن هيكل يروي في كتابه 'سقوط نظام' الصادرة طبعته الأولى عن دار 'الشروق' المصرية عام 2003م أن لقاءه الأول بجمال عبدالناصر كان في فلسطين سنة 1948م، وروى فيه كيف أن 'الصاغ' [الرائد] جمال عبدالناصر بدا له 'نافد الصبر'، وعزا ذلك إلى 'الجهد الذي بذله في معركة لم ينم فيها ليلة الأمس' كما قيل له. ويبدو أن هيكل نسِي أنه نشر مقالًا في مجلة 'آخر ساعة' في عددها الصادر في أغسطس 1952م يقول فيه: 'ثم التقيت به لأول، وكان اللقاء في بيت محمد نجيب قبل أربعة أيام فقط من حركة القوات المسلحة' يقصد ثورة يوليو 1952م، وهو ما أكده أيضًا محمد نجيب في كتابه 'كنتُ رئيسًا لمصر'، فمن أين جاءت حكاية الصاغ نافد الصبر هذه!
خلاصة القول إن محمد حسنين هيكل ظل –وسيظل ربما - مثار جدل كبير بين نوعين من قرائه: 'المريدين' الذين يَعُدُّونه شاهدًا على عصر عربي مهم، فاضحًا ألاعيب ساسته بأدلة ووثائق لا يمكن إنكارها، و'الكارهين' الذين يعتبرونه كاذبًا ومفتريًا وناشرًا للأباطيل. وفي الحقيقة أنه لا يمكن اختزال قامة كتابية وصحفية كبيرة كهيكل في هذين الرأيين فقط، على وجاهة ما يسوقه أصحابهما من أدلة عليهما. بل إن الأقرب إلى الصواب في التعاطي مع 'الأستاذ' من وجهة نظري هو رأي فؤاد زكريّا في كتابه الذي أشرتُ إليه، وهو أن الاختيار بين تصديق هيكل وتكذيبه 'لا بد للعقل الواعي أن يتجاوزه'، وأنه 'في وسع المرء أن يصدق الكثير جدًّا مما قاله هيكل، دون أن يكون مع ذلك مؤيَّدًا' له.