أعمدة

"يوم ما الدور.. الدايرة "

 
الحدث كان قبل سنوات بعيدة مضت أما المكان فكان المساحة الفارغة التي تتوسط بيوت الطين في القرية حيث تتجمع النساء عصرا لتناول القهوة وتداوُل الأخبار ما صدق منها وما كذب فلا إغراء لحضور هذه المجالس أقوى من 'العُلُوم' ولا مُحفز أفضل من الجديد والطازج منها.

في المشهد يظهر الأطفال وهم يقتحمون على النسوة جلستهن بينما هُن غارقات في تفسيرات ليست بالبريئة لحلم إحداهن.. جاؤوا يلهثون وهم يحملون للأم التي كانت تترأس لمة ' المتقهويات ' خبر رسوب ابنها في المدرسة.. الولد الذي سحبه جيرانه الأطفال سحبا وهو يبكي لأنه ' سقط ' في أغلب المواد ولأن شهادته تعج بالدوائر الحمراء وأنه تعرض لحملة سخرية قاسية من قبل زملائه في الصف.

دفنت الأُم رأس ابنها في حضنها وهو ينشجُ بينما أمرت البقية أن يذهبوا.. ناولته صحن ' الدنجو ' الذي ما يزال يتصاعد منه البُخار فيما بعضهن يوجه عبارات المواساة المغلفة بالتهكم البريء والتمنيات للولد أن تكون سنوات الدراسة القادمات من عُمر الولد المتعثر كلها نجاحات وتوفيق.

طبطبت الأُم على ظهر ابنها الذي عاوده الهدوء بعد أن أكل من كل ' التقاديم' الموجودة دون أن يرف له جفن 'الخايب' وهي تقول له بكل لامبالاة: 'ما عليه حبيبي، ما عليه يوم ما الدور.. الدايرة'

وكأنها بهذه العبارة حلّت القضية واقتلعت المشكلة من جذورها وكأن شيئا لم يكن.

كُنت أسمعهم يرددون هذه المقولة كثيرًا في البلدة لأنها كانت متداولة ورائجة لكنني في وقت متأخر دققت في مفهومها السلبيّ فالدور يقصد 'العام الدراسي' الذي يفشل فيه الشخص أما 'الدايرة' فهي السنوات القادمة بلا تحديد لعددها وهي مقولة تفيد 'جهلًا ' عدم الاكتراث ' ' لمسألة النجاح من عدمه وتعكس الفهم القاصر لأهمية العِلم الذي ساعد كثيرًا على عدم إكمال مجموعة كبيرة من الشباب والشابات لتعليمهم وهو ما يُفسر سبب الهُوة المادية الواسعة وعلى مستوى التعليم بين أبناء هذه الأسر وأبناء الأُسر التي كانت تدرك قيمة العلم ودوره الحاسم في الانتقال من حالة الفقر إلى الاكتفاء وتحسين مستوى المعيشة وربما الغِنى.

لم يكن من هم يعني' بعض ' الأسر خلال تلك الفترة أكبر من هَم إنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء ' الذكور ' إذ يعولُ عليهم في إعانة الأسر على متاعب الحياة فهم من سيعتني بالمزارع بداية من غرس ' الصرمة ' أو الشتلة مرورًا بالسقي والحراثة والتسميد و' خراف ' النخيل.. علاوة على مهام أُخرى لا تنتهي ولهذا كُله لم يكن العلم ليُشكل لدى البعض أكثر من تقليد لفعل يقوم به آخرون حد أن الوالد كان لا يعرف في أي صف أو مرحلة تعليمية يدرس ابنه أو ابنته.

كانت الفكرة السائدة حينها أن البنت هي ساعد أمها الأيمن فتقع على عاتقها مسؤوليات الأم نفسها من غسيل ملابس وطبخ وكنس

وأُضيفت لها مهمة تربية أخوانها أما أن تتفرغ للدراسة والعلم فلم يكن ذلك بأولوية من باب 'باكر أيجيها زوج وتتزوج'.

اليوم لم يعد لهذا التصور مكان في ذهن أي ولي أمر أو أُم بل أصبح هاجسهم أن يكون ابنهم أو ابنتهم من المتفوقين وإن لم يحظ الولد أو البنت بفرصة للتعليم المجاني الذي تموله الحكومة لا يستنكف الوالد أن يتوجه للبنك للحصول على قرض لتعليم ابنه أو ابنته على السواء نتيجة إدراكه أن النجاح والزواج والحياة المستقرة مقترن بالمنجز العلمي والوظيفي.

الأُمهات اليوم المتعلمات منهن يتابعن مستويات أولادهن وبناتهن بدِقة فيما تعمد البعض إلى مناقشة هموم التعليم وأحوال أبنائهن عبر ' المجموعات ' خاصة ما يخص أساليب التدريس والواجبات المنزلية والمشاريع والامتحانات سعيًا إلى تحقيقهم نتائج أفضل إدراكًا لقيمة العلم والتعلم.

الجميع الآن يدرك أن التفوق والتميز وليس النجاح فقط هما الضامن الوحيد لحياة نوعية.. لزواج متكافئ ومستقر ولهذا اختفت ظاهرة ' تفريق البارد' على الأهل والجيران إذا حقق الطالب النجاح لتحل محلها ظاهرة التنافس الشرس على الفرص المتاحة خارجيًا وداخليًا فكسرت النسب المُحققة في الصف الثاني عشر حاجز الـ99.8 بالمائة.

لقد طوى النسيان مقولة ' إذا ما نجح الدور.. الدايرة' لأنها مقولة 'ما تأكل عيش' ولأن الحصول على وظيفة وإن متدنية يحتاج إلى مؤهل علمي وكلما زادت المؤهلات كلما زادت جودة الوظيفة وارتفع سقف الطموح فحلم الشاب تجاوز الحصول على أي راتب وتعدى حلم الشابة القبض على وظيفة لتحلم بأن تكون مسؤولة وقائدة رأي ومؤثرة.

يقينا أنه من أراد أن يركن للراحة ولا يحفر في الصخر ستُدير لها الحياة ظهرها وقد يخرج منها بلا تأثير ولا مكانة تحفظ له كرامته ولا إنجازات تُحسب له ولا يحزنون.

آخر نقطة

شئنا أم أبينا، تنحو الحياة يومًا بعد يومِ لأن تكون مادية صِرفة لا يصمد في وجه ريحها العاتية إلا القوي الذي يمتلك رؤية تحدد ماذا يريد، الذين يعرفون ماذا يريدون وحدهم من حجزوا لأنفسهم أمكنة آمنة لهم بين النجوم.