أفكار وآراء

أيام في الهند

ربما ينطبق المثل الإنجليزي الشهير «عندما تكون في روما فتصرف كما يتصرف الرومان» على عواصم ومدن عالمية كثيرة باستثناء مدن الهند التي يجب عليك عندما تزورها، سواء اختيارًا أو إجبارا، أن تتجنب كل ما يفعله الهنود لأنك ببساطة، ومهما كانت خلفيتك الثقافية، لن تستطيع حتى إن أردت مجاراة نمط حياتهم وأطعمتهم وطريقة تفكيرهم.

تذهب إلى مراكز التسوق فتجد المئات قد سبقوك إليها، وبعد أن تدفع حسابك لا تستلم ما اشتريته وإنما يتم تحويله إلى قسم آخر في مدخل المركز يقوم فيه أشخاص آخرون بمراجعة الفواتير ومطابقتها مع المشتريات واحدًا واحدا. وتذهب إلى المطاعم فلا تجد ما تأكله فيها سوى الأطعمة الحارة، ولا وجود تقريبًا للأجبان واللحوم والحليب الطبيعي. وقد نصحنا صديق مخلص قبل السفر بحمل بعض المأكولات معنا، نفعتنا كثيرا في وجبات الإفطار التي طلبنا من الفندق بعد يوم واحد من وصولنا إلغاءها من حجزنا. لا يمكن إذن أن تفعل ما يفعله الهنود خاصة في مدينة تشيناي التي كانت تعرف باسم «مدراس»، لأنك قد تفقد حياتك إذا عبرت الطرق المليئة بالمركبات في الاتجاهين، وقد تصاب بأمراض المعدة إذا أكلت الأطعمة الحارة والمشبعة بالزيوت مثلهم، رغم أن مدينة تشيناي كما أخبرني صاحب أحد المطاعم كانت المدينة الوحيدة من جنوب آسيا التي ورد اسمها في قائمة أفضل 10 مدن للطعام في العالم في تصنيف «ناشيونال جواغرافيك» لعام 2005.عشرة أيام استغرقتها زيارتي لمدينة تشيناي الهندية وتتبع ولاية «تاميل نادو»، أكثر ما استوقفني فيها حالة القناعة والرضا التي تغمر الغالبية العظمى من أبناء هذا الشعب المكافح، رغم الزحام الرهيب والمنغصات العديدة المحيطة بهم كالتلوث السمعي والبصري الذي يصل بك في بعض أوقات اليوم إلى حد الصمم، وإغلاق عينيك تماما حتى لا ترى ما يؤذي مشاعرك كإنسان.

التفاوت الطبقي يبدو واضحا جدا في مدينة تشيناي، سواء في البنية الأساسية أو فيما تمارسه كل طبقة من أعمال ومهن وما تحصل عليه نظير ذلك. الهند العجيبة تضم كل الأطياف والطبقات. غالبية من رأيتهم من الهنود في شوارع تشيناي التي يبلغ عدد سكانها نحو سبعة ملايين نسمة، وتُعد سادس أكثر المدن الهندية سكانا، كانوا من الفقراء الذين يفترشون الشوارع وينتظرون بالمئات في محطات مركبات النقل العام المتهالكة، ويأكلون أطعمة غريبة تصدر عنها روائح أغرب من عربات طعام، أعتقد أنها لم تغسل أو تنظف ولو مرة واحدة منذ صنعها. العجائز من النساء اللاتي يقفن على عربات يد صغيرة يبعن بعض الخضر والفواكه، والورود التي يشتريها الناس لتقديمها للآلهة، وباعة النارجيل يشعرونك بضرورة التعاطف معهم، عندما ينظرون لك نظرة امتنان إذا اشتريت منهم شيئًا ولو بسيطا.الطبقة الوسطى تستبدل مركبات الأوتو (التوكتوك) ذات العجلات الثلاث بمركبات النقل العام، ونادرا ما يستخدمون سيارات الأجرة وتطبيقات استدعائها لارتفاع أسعارها. في محلات بيع الملابس الشعبية الآباء تبدو عليهم ملامح المعاناة يشترون الملابس الجديدة لزوجاتهم وأطفالهم بينما تبدو ملابسهم رثة إلى حد كبير. لم أر من الطبقة الغنية نوعا ما سوى أطباء المستشفيات الكبيرة الذين تقف سياراتهم الحديثة أمام المشافي، خاصة تلك التي يقصدها الناس من خارج الهند لإجراء عمليات زراعة الأعضاء.

رغم التفاوت الطبقي الواضح تبقى الهند رغم ما يحدث في بعض مقاطعاتها من اضطهاد وتفرقة خاصة للمسلمين مثالًا للتسامح الديني والتعايش المذهبي السلمي. ورغم عدد السكان الكبير فيها تستقطب تشيناي باحثين عن عمل من ولايات الهند الأخرى الأفقر، ومن دول أخرى مجاورة مثل النيبال وبنجلاديش. في تشيناي لا يسألك أحد عن دينك وعليك أيضًا ألا تسألهم. ويبدون احتراما واضحًا لكل الأديان وعليك أيضًا أن تفعل نفس الشيء مع الآلهة التي يصعب عدها ولكل منهم عيد مثل عيدي الفطر والأضحى لدينا يحتفلون به بالملابس الجديدة والأكلات المحددة والتجمع العائلي. وقد حضرنا ثلاثة أيام من احتفالاتهم بعيد (بونغال) المخصص لإله الشمس، والاعتدال الشمسي بعد حصاد المحاصيل مثل الأرز وقصب السكر والكركم، والذي يحتفل به التاميل في الهند وسريلانكا التي استمرت حتى أمس الثلاثاء وعطل فيها العمل في الحكومة والمؤسسات التعليمية.

الهند من الداخل مختلفة تماما عن الصورة النمطية التي يحتفظ بها العقل العربي عن الهند التي في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية. ورغم جهود التنمية الواضحة خاصة في التعليم، ورغم القدرات والموارد البشرية والمادية التي تتمتع بها بما في ذلك عدد السكان الذي يقترب من المليار ونصف المليار، تستطيع أن تقول عنها إنها دولة فقيرة مثلها مثل باقي دول العالم الثالث، يسكنها شعب فقير، بل إن نسب ومظاهر الفقر الحقيقية فيها تتجاوز بكثير تلك النسب والمظاهر في أفقر الدول العربية.

الجميل في الشعب الهندي هو الأدب الزائد الذي يعاملونك به والإخلاص الشديد في العمل المطلوب أن يؤديه، وكذلك الأمانة وعدم الطمع بما في أيدي الآخرين. إذا استطعت أن تسير على قدميك في الشارع مع السيارات والتكوتوك والدراجات النارية والعادية والكم الكبير من البشر لن تجد من يضايقك بكلمة أو إشارة ولا من يحاول سرقتك أو التحرش بك. حالة من الأمان التام في الشوارع رغم ندرة الوجود الشرطي سوى في بعض الأماكن التي يسكنها الأغنياء. ورغم الصعوبات الخاصة باللغة التي كنا نتغلب عليها بمترجم «جوجل» المقروء والمسموع، فإن رغبة بعض الهنود مثل موظفي وعمال الفنادق والمطاعم وسائقي سيارات الأجرة، في مساعدة الآخرين تتجاوز حواجز اللغة بالتعامل بالإشارات وكلمات قليلة من اللغة الإنجليزية.

إن أهم ما يمكن أن تخرج به من زيارة الهند هو استرداد ثقتك في الدولة العربية الحديثة التي نجحت إلى درجة كبيرة في تنمية المدن والاهتمام بالإنسان. طوال وجودنا في تشيناي ونحن نحمد الله أننا ولدنا وعشنا وما زلنا نعيش في مجتمعات إنسانية متحضرة تدين غالبيتها بدين الإسلام، ولا نعاني ما تعانيه غيرنا من الشعوب التي تعيش عصر جاهلية فعلية يُعبد فيه البقر والشجر والتماثيل والأصنام. أثناء الرحلة إلى تشيناي كان الحديث في بهو الفندق بيننا كمجموعة من مختلف الدول العربية، من بينهم عدد من المواطنين العمانيين، هو ضرورة أن نحمد الله أننا لا نعيش في هذا المكان، وأهمية أن توفر دولنا العربية الخدمات الصحية الكبيرة مثل عمليات زرع الأعضاء. وأثناء رحلة العودة إلى مسقط كنا أيضا نحمد الله على عودتنا إلى حياتنا الطبيعية التي يحكمها النظام والنظافة والهدوء والسلام النفسي، وندعوه أن لا يجعلنا نعيش كما يعيش الهنود.