أعمدة

نوافذ ..التقوّل على الأموات

 
في الثالث من يناير الجاري، وبعد ساعات من رحيل الكاتب والمترجم المصري محمد عناني نشر صحفي مصري نعيا له على صفحته في فيسبوك ابتدأه بحكاية مختصرها أنه بُعَيْد نشر حوار أجراه هذا الصحفي مع عناني في عام 2005م اتصل به -أي بعناني- الدكتور سمير سرحان، الكاتب والناقد المصري المعروف ورئيس الهيئة العامة المصرية للكتاب آنذاك مبديا إعجابه بالحوار، وطالبا من عناني رقم هاتف الصحفي الذي أجراه. وحين تلقى الصحفي الاتصال من سرحان فوجئ و'اتخضّ' على حد تعبيره، قبل أن يعرف السبب وهو: 'أنا عايزك تعمل معايا حوار زي حوار الدكتور عناني'!. لا تنتهي الحكاية هنا، فقد اتفقا على أن يذهب الصحفي لإجراء هذا الحوار في مكتب سرحان في الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي. لكن، وقبل الموعد بساعتين، وبينما كان الصحفي الهُمَام يستعد للذهاب إلى هيئة الكتاب، تلقى اتصالا من منسقة مكتب سرحان تبلغه بالاعتذار عن عدم إجراء الحوار. وعندما سألها عن السبب أجابت أن سرحان قد مات!.

لستُ هنا في وارد تصديق أو تكذيب هذه القصة الأشبه بالفيلم الهندي، وهي بالمناسبة قابلة للحدوث، حتى وإن خانت الصحفي النباهة فنسي أن سرحان توفي سنة 2006م لا 2005م. لكني فقط أردت أن أتخذها مدخلا لتأمل ظاهرة مُنيتْ بها الثقافة العربية تحديدا، وهي ظاهرة 'البطولات الوهمية' التي أبطالها هم رواتُها فقط، وشهودها أموات غير قادرين على الإثبات أو النفي.

إن أول تساؤل يمكن أن يخطر ببال المرء عندما يقرأ حكاية باديا كذبها، أو على الأقل مشكوكا فيها، هو: لماذا؟ ما الذي يستفيده المدعي من ادعاء كهذا؟ ولماذا لا تظهر هذه الحكايات إلا بعد وفاة الشهود؟ هل هي سطوة الاسم المعروف المتوفي التي تجعل الجميع يتمنى أن يكون قد عرفه وصارت له معه حكايات؟ هل هي عقدة نقص في المدعي يحاول معالجتها بواسطة الخيال؟ هل لأن الناس تحب حكايات المشاهير وتقبل عليها؟.

وإذا كان سارد حكاية عناني/سرحان صحفيا غير معروف (بالنسبة لي على الأقل)، مما يجعلني أفهم سبب تلصّقه بعَلَمَيْن ثقافيَّين كهذين، إلا أن المحيّر أن هذه الحادثة لا تحدث فقط من قِبَل المغمورين أو الباحثين عن دور، بل تُقتَرَف في أحيان كثيرة من صحفيين كبار لا ينقصهم المجد، ولا تعوزهم الشهرة، كمحمد حسنين هيكل وأنيس منصور، على سبيل المثال لا الحصر.

في مقال له بعنوان 'زيارة جديدة لأنيس منصور' يفنِّد الباحث المصري عمرو صابح عددا من الحكايات التي اختلقها منصور ضد أموات، مقدما الأدلة الدامغة على كذبها، منها مثلا حكاية سردها أنيس في كتابه 'عاشوا في حياتي' الصادر عن مكتبة الأسرة سنة 2000م، عن لقاء جمعه بالمطربة أم كلثوم والشاعر كامل الشناوي ودار الحوار بينهم عن أحوال مصر بعد هزيمة 1967م. يصوّر منصور في سرده الرئيسَ جمال عبدالناصر كشخص غائب عن الوعي، وخلال النقاش الساخن تتأثر كوكب الشرق بآراء الشنّاوي ومنصور السلبية عن عبد الناصر، ويعلّق صابح على ذلك بالقول: 'كل هذا يحكيه أنيس منصور بمنتهى الأريحية، بينما يخبرنا التاريخ أن الأستاذ كامل الشناوي توفي في 30 نوفمبر 1965م، قبل النكسة بأكثر من عام ونصف'!. هذا مثال واحد فقط على تأليف منصور حكايات هو بطلها بينما شهودها أموات، وهناك أمثلة أخرى في كتابه الأشهر 'في صالون العقاد، كانت لنا أيام'، الذي يعدّ من أهم كتبه، الذي ألفه بعد نحو عشرين عامًا من وفاة عباس محمود العقاد، وروى فيه كثيرا من الحكايات التي كذّبها معاصروه من مرتادي ذلك الصالون. بل إن محمد رستم -ابن أخت العقاد- قال في فيلم تسجيلي عن خاله أذاعه التلفزيون المصري، إن هذا الكتاب 'في صالون العقاد كانت لنا أيام' الخيال فيه أكثر من الحقيقة، وإن أنيس منصور لم يكن من المداومين على حضور ندوة العقاد الأسبوعية في سنواته الأخيرة، وإن الكثير من المواقف التي ذكرها أنيس على لسان العقاد لم تحدث'.

وإذا كان لأنيس منصور محبّوه الذين يمتصون كالإسفنج كل ما يقوله دون تمحيص، فإن محبي محمد حسنين هيكل أكثر، خاصة أنه أهم في القيمة الصحفية والكتابية من الأول، بل إنه حتى لفظة 'محبي' هنا غير دقيقة، فهيكل له 'مريدوه' لا محبوه، وأشهرهم في عمان أحمد الفلاحي وزاهر المحروقي وعاصم الشيدي، وعربيا الكاتب الأردني خالد عبدالهادي. ورغم أهمية هيكل ككاتب صحفي ومحلل سياسي وقارئ حاذق للتاريخ، إلا أن كثيرين يأخذون عليه أنه يروي وقائع حدثت له مع شخصيات عامة معروفة، لكن بعد وفاتها، دون أن تكون لها فرصة إثبات أو نفي ما يقول. وهذا وحده يحتاج إلى مقال مستقل.