لا أحد يعرف مصير الطلقة الحادية والعشرين
أنساغ
الاحد / 14 / جمادى الآخرة / 1444 هـ - 16:53 - الاحد 8 يناير 2023 16:53
عبدالله حبيب
فلأبدأن، إذا ما أنتم سمحتم لي، بالتذكير بحقيقة بسيطة ومهمة أخال أن بعضنا ينساها من غير سهو في مسألة التاريخ والسينما. أما الإشكال الذي قد يكون أكبر من سابقه في الذِكر، في سياقي التالي، هو أنه لا يوجد حتى الآن على حد علمي -وأرجو أن تصححوني إن كنت مخطئا- في كامل الوطن العربي 'من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر' برنامج بكالوريوس واحد، واحد فقط، يقدِم درجة علمية في مجال الدراسات النقدية السينمائية (هذا ناهيكم عن درجات علمية أعلى في الحقل ذاته).
وإشكال عربي آخر، في هذا السياق أيضا، هو أن المعهد العالي للسينما في مصر كان أول معهد من نوعه لتدريس التخصصات السينمائية المختلفة في الشرق الأوسط وأفريقيا (وقد كان ذلك إنجازا طليعيا وكبيرا بالطبع)، وقد افتتح المعهد في 1957، وذلك في خضم التحولات الكبيرة التي حدثت في فترة جمال عبدالناصر. لكن فلنلاحظ للمفارقة، وبقلق كبير، أن ذلك المعهد كان 'تقنيا' فقط، فهو لم يهتم بمجال النظرية السينمائية أو النقد السينمائي (والنظام الناصري في هذا قد لا يكون مختلفا كثيرا عن بقية المنظومات والأنظمة العربية التي رفعت شعار 'التعليم' بدرجات متباينة النجاح في التطبيق، ولكنها لم ترفع راية 'التفكير النقدي' في ذلك 'التعليم' خاصة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وذلك لأسباب هي أوضح من أن تُذكر في مجال إبقاء المفاهيم المعرفية المحافظة والبنية السلطوية الراسخة كما هما).
تذكيري الثاني هنا هو أن السينما قد ولدت في نهاية القرن التاسع عشر، أي في أوج تفوق الغرب، وغطرسته، وجبروته؛ ولذلك فإنه إذا كانت 'الرواية هي ملحمة البورجوازية' (على رأي جورج لوكاتش) فإن السينما هي بالتأكيد ملحمة الكولونيالية والإمبريالية في العصر المتأخر للرأسمالية.
والحقيقة هي أن 'الآلة السينمائية' (بمعنى: apparatus) كانت متورطة منذ بدايتها في خطاب 'الغيرية' (“otherness”)، فالسينما هي الابنة الشرعية لبرهة الأوج الغربي الكاسح (وإلا لماذا كان على أحد أفلام الأخوين لوميير التأسيسية أن يدور في فيتنام المستعمرة فرنسيا، مثلا)؟
ولإيضاح أكبر دعوني أضرب هذا المثال: الخصائص الحمضية والكيميائية للأفلام السينمائية الخام، ومنذ بداية السينما ('كوداك' وغيرها)، كانت مُصممة من الناحية المعْملية لتعكس 'تمثيليا' بمعنى “representation” بشرة الرجل الأبيض في ضوء إيجابي؛ وهذا تلقائيا يعني العكس في حالة 'تمثيل' بشرات أفراد الشعوب السمراء، والصفراء، والسوداء، إلخ (أي، اختصارا: الأناس المستعمرون والمؤمبرلون)، فأولئك يظهرون دوما بصورة داكنة وغير مريحة بصريا ونفسيا بسبب الخواص الكيميائية للفيلم السينمائي الخام الذي قاعدته ومعياره القاعدي هو انعكاس لون الرجل الأبيض في 'الآلة السينمائية' (حرفيا ومجازا، وبمعنى apparatus مرة أخرى).
وقد دأبت السينما الأمريكية (خاصة) على اللجوء إلى 'المرشح الأصفر' في تصوير الأفلام التي تدور أحداثها في بيئات وأناس البلدان 'المتخلفة'، 'البدائية'، 'العالمثالثية'، 'الفقيرة'، 'غير المتحضرة'، 'الإرهابية'، 'البغيضة' إلخ كي يبدو كل شيء باهتا، وموحشا، وكئيبا، وغير مريح للعين الناظرة. ليس هذا فقط، بل إنه في كثير من الأفلام التي تدور أحداثها، قل في الولايات المتحدة وإيران وأفغانستان مثلا، سنلاحظ أن المشاهد التي تدور في الولايات المتحدة مصورة باستخدام 'المرشح الأزرق' الذي يعكس حالة من الصفاء والطمأنينة، بينما المشاهد التي تدور في إيران ملتقطة باستعمال 'المرشح الأصفر' الذي يترجم حالة القفر الإنساني وشُح الطبيعة.
لكن هذا لا يكفي، فأحيانا في مشهد مدته حوالي دقيقة ونصف فقط يتغير المزاج اللوني بتغيُر الحمولات الأيديولوجية/ الجمالية/ السياسية/ الحضارية. ومن أمثلتي الأثيرة على ذلك مشهد معين من فيلم 'ليس من غير ابنتي' (من إخراج براين غلبرت، الولايات المتحدة الأمريكية، 1991)؛ ففي بدء المشهد الأخير من الفيلم الذي يدور في العاصمة الأفغانية، كابول، يسعفنا 'المرشح الأصفر' في تكثيف الغبار، والقفر، والفقر، والتخلف، والكآبة في 'قراءة المكان الأفغاني'. لكن بمجرد وصول البطلة الأمريكية وطفلتها إلى محيط السفارة الأمريكية (في كابول 'الكئيبة' و'المغبرة' ذاتها) إذا بأمر إخراجي سينمائي (إلهي تقريبا) يصدر بتعطيل 'المرشح الأصفر' واستخدام تقنية 'التركيز البؤري الناعم' حيث 'إننا في الوطن يا صغيرتي' كما تقول البطلة!
ولا تسأل عن الماهية، بل اسأل عن الكيفية.
(2)
لم أعد أستطيع تصور نفسي خارج الكتابة، فقد أخفقت ذريعا كل محاولاتي الأخرى من أجل النأي بالنفس عن هذه الشريرة (وللأمانة، هذا تعبير ادعاء مبالغ فيه بعض الشيء؛ فما أسميه 'النأي بالنفس عن الكتابة' كان، في الحقيقة، ولبعض الوقت، 'العجز عن الكتابة').
بيد أن هذا كلام يمكن أن يقوله حتى شخص من قبيل نزار قباني، مثلا.
ولكن دعهم لا يعلمون في ما لن يعلموا، واترك السيرك للمهرجين، ودع السِر للسِر، واستودع الماء في البئر، وأنت أدرى أنك لن تتمكن من إنقاذ (بطريقة الحد الأدنى) ما تبقى من العمر بغير الكتابة.
'هذا قدري، وعلي أن أحب قدري' (نيتشه).
(3)
ادعى ضابط الاستخبارات الحربية البريطانية العتيد الكولونيل تي إي لورنس (المعروف أكثر بلقب 'لورنس العرب') أنه كان بريئا بالكامل من اتفاقية 'سايكس بيكو'.
الحمد لله أنه لم يعد بحاجة إلى ادعاء كذلك في اتفاقيات 'سايكس بيكو' الجديدة (يوميا، تقريبا).
والحقيقة أن 'لورنس العرب' لم يعد شخصا، بل صار فكرة. أما العرب فإنهم لم يعودوا 'وجودا'، ولا ينظرون إلى أنفسهم ولا ينظر الآخرون إليهم 'وجوديا'، ولا 'فكرة'، بل باتوا شهوة في نيران الخرائط.
(4)
قالوا إن الملك غضب على أحد ضباطه من دون سبب معلوم وواضح، فصفعه.
وقالوا إن الضابط خر باكيا وقبل قدمي الملك.
وقالوا إن الجنود أطلقوا عشرين طلقة.
وقالوا إنه لا أحد يعرف مصير الطلقة الحادية والعشرين.
وإشكال عربي آخر، في هذا السياق أيضا، هو أن المعهد العالي للسينما في مصر كان أول معهد من نوعه لتدريس التخصصات السينمائية المختلفة في الشرق الأوسط وأفريقيا (وقد كان ذلك إنجازا طليعيا وكبيرا بالطبع)، وقد افتتح المعهد في 1957، وذلك في خضم التحولات الكبيرة التي حدثت في فترة جمال عبدالناصر. لكن فلنلاحظ للمفارقة، وبقلق كبير، أن ذلك المعهد كان 'تقنيا' فقط، فهو لم يهتم بمجال النظرية السينمائية أو النقد السينمائي (والنظام الناصري في هذا قد لا يكون مختلفا كثيرا عن بقية المنظومات والأنظمة العربية التي رفعت شعار 'التعليم' بدرجات متباينة النجاح في التطبيق، ولكنها لم ترفع راية 'التفكير النقدي' في ذلك 'التعليم' خاصة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وذلك لأسباب هي أوضح من أن تُذكر في مجال إبقاء المفاهيم المعرفية المحافظة والبنية السلطوية الراسخة كما هما).
تذكيري الثاني هنا هو أن السينما قد ولدت في نهاية القرن التاسع عشر، أي في أوج تفوق الغرب، وغطرسته، وجبروته؛ ولذلك فإنه إذا كانت 'الرواية هي ملحمة البورجوازية' (على رأي جورج لوكاتش) فإن السينما هي بالتأكيد ملحمة الكولونيالية والإمبريالية في العصر المتأخر للرأسمالية.
والحقيقة هي أن 'الآلة السينمائية' (بمعنى: apparatus) كانت متورطة منذ بدايتها في خطاب 'الغيرية' (“otherness”)، فالسينما هي الابنة الشرعية لبرهة الأوج الغربي الكاسح (وإلا لماذا كان على أحد أفلام الأخوين لوميير التأسيسية أن يدور في فيتنام المستعمرة فرنسيا، مثلا)؟
ولإيضاح أكبر دعوني أضرب هذا المثال: الخصائص الحمضية والكيميائية للأفلام السينمائية الخام، ومنذ بداية السينما ('كوداك' وغيرها)، كانت مُصممة من الناحية المعْملية لتعكس 'تمثيليا' بمعنى “representation” بشرة الرجل الأبيض في ضوء إيجابي؛ وهذا تلقائيا يعني العكس في حالة 'تمثيل' بشرات أفراد الشعوب السمراء، والصفراء، والسوداء، إلخ (أي، اختصارا: الأناس المستعمرون والمؤمبرلون)، فأولئك يظهرون دوما بصورة داكنة وغير مريحة بصريا ونفسيا بسبب الخواص الكيميائية للفيلم السينمائي الخام الذي قاعدته ومعياره القاعدي هو انعكاس لون الرجل الأبيض في 'الآلة السينمائية' (حرفيا ومجازا، وبمعنى apparatus مرة أخرى).
وقد دأبت السينما الأمريكية (خاصة) على اللجوء إلى 'المرشح الأصفر' في تصوير الأفلام التي تدور أحداثها في بيئات وأناس البلدان 'المتخلفة'، 'البدائية'، 'العالمثالثية'، 'الفقيرة'، 'غير المتحضرة'، 'الإرهابية'، 'البغيضة' إلخ كي يبدو كل شيء باهتا، وموحشا، وكئيبا، وغير مريح للعين الناظرة. ليس هذا فقط، بل إنه في كثير من الأفلام التي تدور أحداثها، قل في الولايات المتحدة وإيران وأفغانستان مثلا، سنلاحظ أن المشاهد التي تدور في الولايات المتحدة مصورة باستخدام 'المرشح الأزرق' الذي يعكس حالة من الصفاء والطمأنينة، بينما المشاهد التي تدور في إيران ملتقطة باستعمال 'المرشح الأصفر' الذي يترجم حالة القفر الإنساني وشُح الطبيعة.
لكن هذا لا يكفي، فأحيانا في مشهد مدته حوالي دقيقة ونصف فقط يتغير المزاج اللوني بتغيُر الحمولات الأيديولوجية/ الجمالية/ السياسية/ الحضارية. ومن أمثلتي الأثيرة على ذلك مشهد معين من فيلم 'ليس من غير ابنتي' (من إخراج براين غلبرت، الولايات المتحدة الأمريكية، 1991)؛ ففي بدء المشهد الأخير من الفيلم الذي يدور في العاصمة الأفغانية، كابول، يسعفنا 'المرشح الأصفر' في تكثيف الغبار، والقفر، والفقر، والتخلف، والكآبة في 'قراءة المكان الأفغاني'. لكن بمجرد وصول البطلة الأمريكية وطفلتها إلى محيط السفارة الأمريكية (في كابول 'الكئيبة' و'المغبرة' ذاتها) إذا بأمر إخراجي سينمائي (إلهي تقريبا) يصدر بتعطيل 'المرشح الأصفر' واستخدام تقنية 'التركيز البؤري الناعم' حيث 'إننا في الوطن يا صغيرتي' كما تقول البطلة!
ولا تسأل عن الماهية، بل اسأل عن الكيفية.
(2)
لم أعد أستطيع تصور نفسي خارج الكتابة، فقد أخفقت ذريعا كل محاولاتي الأخرى من أجل النأي بالنفس عن هذه الشريرة (وللأمانة، هذا تعبير ادعاء مبالغ فيه بعض الشيء؛ فما أسميه 'النأي بالنفس عن الكتابة' كان، في الحقيقة، ولبعض الوقت، 'العجز عن الكتابة').
بيد أن هذا كلام يمكن أن يقوله حتى شخص من قبيل نزار قباني، مثلا.
ولكن دعهم لا يعلمون في ما لن يعلموا، واترك السيرك للمهرجين، ودع السِر للسِر، واستودع الماء في البئر، وأنت أدرى أنك لن تتمكن من إنقاذ (بطريقة الحد الأدنى) ما تبقى من العمر بغير الكتابة.
'هذا قدري، وعلي أن أحب قدري' (نيتشه).
(3)
ادعى ضابط الاستخبارات الحربية البريطانية العتيد الكولونيل تي إي لورنس (المعروف أكثر بلقب 'لورنس العرب') أنه كان بريئا بالكامل من اتفاقية 'سايكس بيكو'.
الحمد لله أنه لم يعد بحاجة إلى ادعاء كذلك في اتفاقيات 'سايكس بيكو' الجديدة (يوميا، تقريبا).
والحقيقة أن 'لورنس العرب' لم يعد شخصا، بل صار فكرة. أما العرب فإنهم لم يعودوا 'وجودا'، ولا ينظرون إلى أنفسهم ولا ينظر الآخرون إليهم 'وجوديا'، ولا 'فكرة'، بل باتوا شهوة في نيران الخرائط.
(4)
قالوا إن الملك غضب على أحد ضباطه من دون سبب معلوم وواضح، فصفعه.
وقالوا إن الضابط خر باكيا وقبل قدمي الملك.
وقالوا إن الجنود أطلقوا عشرين طلقة.
وقالوا إنه لا أحد يعرف مصير الطلقة الحادية والعشرين.