أعمدة

أيتها التقنية: إلى أين؟

 
في الماضي القريب، أي قبل عدة سنوات فقط، كان يمكن لطالب جامعي بليد أن يذهب إلى أحد بائعي البحوث ليشتري منه بحثًا بمواصفات معينة، فيقدم له البائع ما يريد، وبعدها سيقدم الطالب بحثه لأستاذه أو مشرفه الأكاديمي، لكنه سيظل ربما خائفًا يتلفت خلفه خشية كشفه في أية لحظة، وربما يظل ضميره يخِزه لعدة سنوات بعد ذلك، حتى وإن لم يُكشَف تصرفُه، لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه سارق وأنه لم يبذل أي جهد في هذا البحث. كان ذلك في الماضي القريب. أما اليوم فيمكن لهذا الطالب نفسه أن يكرر الطلب ذاته إلى برنامج الدردشة (Chat GPT) ويحصل منه بمجرد وضعه للمواصفات التي يريدها على بحث أفضل بكثير من ذلك الذي اشتراه من بائع البحوث، وفي دقائق معدودة، دون أن يخاف، أو يخزه ضميره، ببساطة لأن البرنامج مرخّص ومتاح للجميع!. فإلى أين أنتِ ذاهبة بنا أيتها التقنية!.

أَطلقت النسخة التجريبية الأولى من هذا البرنامج المدهش منظمةُ الأبحاث الأمريكية (Open A I) في أواخر نوفمبر الماضي كروبوت محادثة جديد يعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث يُغذّى بقاعدة بيانات ضخمة مليئة ليس فقط بالمعلومات، بل بطريقة عرضها أيضا، ما يجعله يشبه إنسانا حقيقيا يتحدث أو يكتب، وهذا ما يفسّر أنه نجح بعد خمسة أيام فقط من إطلاقه في استقطاب مليون مستخدم، وهو رقم ضخم إذا ما علمنا أن فيسبوك بجلال قدره احتاج في بداياته عشرة شهور للوصول إلى المليون مستخدم، فيما استغرقت نتفلكس ثلاث سنوات لبلوغ العدد نفسه من المستخدمين!.

إن 'تشات جي بي تي' مدهش بذكائه الخارق، فهو يتحدث في أي موضوع يمكن أن يُطرح عليه، ويُجيد النقاش والإجابة على أي سؤال يعنّ لمستخدمه، وكذلك يجيد الكتابة، كما أشرنا، بل والترجمة، وإعداد التقارير، وإذا ما طلبتَ منه تأليف شعر فلن يتردد، سواء كان قديمًا أو حديثًا، موزونًا أو منثورا. حتى النكات سيرويها لك إن أردتَ. بل ويمكن أن يرفض في بعض الأحيان 'بلباقة' الأسئلة أو الطلبات غير اللائقة، شارحًا أسباب هذا الرفض، الأمر الذي لا نكون مبالِغين إذا ما اعتبرناه ثورة حقيقية في عالم التقنية والذكاء الاصطناعي.

في معرِض تغطيتها لإطلاق هذا البرنامج تناقلت وسائل إعلام تصريح أحد مستخدميه ويدعى توبياس زوينغمان بأنه يستعين بالبرنامج في كتابة محاضراته التي يعطيها للطلاب، قائلًا إن موضوع تقنية التعلم الآلي المعروفة باسم “دي بي سكان' الذي كان يستغرق فيه يومًا كاملًا للتحضير له كمحاضرة استغرق فقط ثلاثين دقيقة لدى برنامج 'شات جي بي تي' بمجرد أن طلب منه شرح آليات عمل هذه التقنية. هذه الاستفادة المشروعة تحيلنا إلى الاستفادات الأخرى المتوقعة من أفراد أو مؤسسات من هذا البرنامج الموفِّر للجهد والوقت، سواء في إعداد المحاضرات أو التقارير أو البرامج، أو التصورات، لكنها في الوقت ذاته تفجّر أسئلة أخلاقة هامة عمّا يمكن أن أسميه 'الأضرار الجانبية' لهذا البرنامج عظيم الفوائد: ماذا لو طلب أكاديمي كسول وبليد ومنعدم الضمير من هذا البرنامج أن يعدّ له بحثًا لينال به ترقية فاستجاب له هذا في دقيقة، ثم بعد ذلك نال الترقية التي يريد؟. وماذا لو طلب كاتب أو صحفي منه كتابة عمود أو مقال عن موضوع معين فجهزه له في ثوان، ثم نشره هذا في الصحيفة وأخذ منها مكافأة المقال الذي لم يُعمِل فيه فكرًا، ولم يبذل أي جهد سوى النقر بأصابعه؟. وفي ظل قدرات 'تشات جي بي تي' الاستثنائية هذه، ألن يؤثر مستقبلًا على العاملين في مجال المعلومات كلما ازداد تطوّرًا وشاع استخدامه؟ وهذه النقطة الأخير تحيلنا إلى ما كتبتْه مؤخرًا مجلة 'فوربس' أن أبحاثًا أجرتها مصادر وصفتها بـ'الموثوق بها' تتنبأ بأن الذكاء الاصطناعي قد يستولي على وظائف مليار شخص على مستوى العالم خلال السنوات العشر المقبلة، ويؤدي إلى انتفاء الحاجة إلى نجو 375 مليون وظيفة!.

إن أسئلة كهذه تعكّر دائمًا فرحتنا بأي ثورة علمية جديدة، وتجعلنا نتساءل بتوجّس: إلى أين تسيرين بنا أيتها التقنية؟.