أفكار وآراء

نظرة نحو المستقبل عند حافة عام يرحل وآخر يشرق

هذا هو أول أيام العام الجديد، وجرت العادة أن يحاول الناس استشراف أيامه رغبة منهم في فهم مستقبلهم، تطلعا له أو حذرا منه.. إلا أن التطلع للمستقبل بهذا المعنى لا يعدو أن يكون إمّا محاولة للتنبؤ أو محاولة لتصور الأشياء كما يجب أن تكون، وهذا أمر قد لا يوصل إلى نتيجة. لكنْ لماذا ننظر إلى المستقبل باعتباره مفصولا عن الحاضر أو حتى عن الماضي؟! كل غد هو امتداد لليوم. ومهما بَعُد المستقبل فإن إرهاصاته وإيماءاته تتشكل اليوم أمامنا، صحيح أننا قد لا نستطيع الشعور بها، لكنها تنمو بالقرب منه، ومخطئ من يعتقد أن الأشياء تقع هكذا فجأة دون إرهاصات وتراكمات، أو أنها تخرج من العدم دون سابق تشكل ودون بذور.

ولذلك فإنني لا أحاول التنبؤ وأنا أتطلع في هذا المقال للعام الجديد، رغم أن الوقوع في هذا المحظور وارد جدا، وكذلك لا أحاول ترتيب الأشياء أو الأحداث كما يجب أن تكون أو كما أحبها أن تكون، بل، أحاول، قراءة الأحداث في سياقها الزمني الذي هو في امتداد من الأمس إلى الغد. على اعتبار أن اللحظة، أي لحظة، ليست مفصولة عمّا سبقها أبدا أو معزولة عمّا بعدها.

**

لأن الزمن مربوط بما قبله وبعده فإن أحداث العام الجديد 2023 هي امتداد طبيعي جدا لأحداث عام 2022، والحديث عما حدث في عام 2022 ليس من قبيل التنبؤ أو بناء التصورات، بل هو حقيقة عاش تفاصيلها الجميع، ولذلك فإن كل قضاياه ما زالت ممتدة بحكم فعل الزمن إلى العام الحالي، وهي قضايا ثقيلة جدا وتحديات مصيرية في الجوانب السياسية والاقتصادية والشقاء البشري المستمر. ومن بين أهم القضايا التي يمكن أن نتأثر بها في سلطنة عمان سواء بشكل مباشر أو غير مباشر يمكن أن نتحدث عن:

1- عودة وباء فيروس كورونا

شعرت لأول مرة أنني تجاوزت جائحة فيروس كورونا عندما خرجت من رحلة الطيران العماني ودخلت مطار هيثرو، كانت صالة الاستقبال مزدحمة جدا، وكنت الوحيد، تقريبا، الذي يرتدي كمامة من بين الداخلين للمطار عبر مئات الرحلات القادمة من مختلف دول العالم. كان ذلك في اليوم الأخير من شهر مايو الماضي. وطوال الصيف تقريبا لم أرَ من يرتدي كمامة في مدينة كامبريدج المزدحمة بالطلاب القادمين من مختلف دول العالم عدا الطلبة الصينيين واليابانيين الذين بقوا يرتدون الكمامة ويذكروننا بالوباء، لكن حتى هؤلاء كانوا يتخلون عنها إن طال بقاؤهم لأكثر من شهر.. أمّا أنا المصاب برعب «كوفيد» بعد عدة وفيات في العائلة وبين الأصدقاء فقد رميت آخر كمامة اقتنيتها في أول سلة قابلتها بعد تجاوز موظفة الجوازات في «هيثرو»، ومن ذلك اليوم لم أرتد كمامة أبدا، وهذا ما يسميه علماء الأوبئة «تجاوز الوباء اجتماعيا». لكنّ الأخبار التي تصل عبر برقيات وكالات الأنباء وفي سياق مترابط تشير إلى أن ما حدث نهاية عام 2019 ومطلع عام 2020 وكل الأحداث التي أعقبت ذلك التاريخ تعود مرة أخرى إلى سياقها، تقريبا. فالصين تسجل مئات الآلاف من الإصابات يوميا (بعض برقيات وكالات الأنباء تشير إلى مئات الملايين)، والعدوى تنتقل من الصين إلى الدول المجاورة، بل وإلى الدول الأوروبية، ومن بينها إيطاليا أحد أكثر الدول الأوروبية التي تأثرت بالوباء في موجته العصيبة الأولى.. وأغلب الإصابات مصدرها واحد: الصين.

صحيح أن الوباء لم يكن قد تلاشى كما اعتقد الكثيرون، ولكن حدته تراجعت كثيرا، وكان الناس في جميع قارات العالم يريدون تصديق فكرة أن الوباء قد انتهى وأصبح شيئا من التاريخ.

ورغم أن سلطنة عمان من بين الدول التي قطعت شوطا مهما جدا في عملية التطعيم ضد الوباء إلا أن فرصة ظهور متحورات جديدة قادرة على الهرب من المناعة ما زالت قائمة. وقد توقف زخم التطعيمات منذ منتصف العام الماضي، ومن كان دون الثانية عشرة من العمر لم يحصل على أي جرعة من جرعات اللقاح، وهذه قد تكون أبرز الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الفيروس في موجته الجديدة إذا ما عاد إلى التحور والتفشي مرة ثانية. ثم إن الإشاعات ونظرية المؤامرة عادت مرة أخرى لتسيطر على عقول الناس فيما يخص اللقاحات، ولن تكون العودة إلى برامج التطعيم سهلة مرة أخرى. وإزاء كل هذا نحتاج إلى أن تكون الاستجابة ضد أي جديد سريعة جدا، ومدروسة بعناية.

2- أهي حرب أم نظام عالمي جديد؟

خطر الحرب الروسية الأوكرانية ليس تنبؤا أبدا، إنه حقيقة واقعة، وهو أحد أهم الأخطار التي تهدد العالم أجمع. صحيح أن البعض يرى في هذه الحرب مسارات إيجابية تصحيحية قادرة على إخراج العالم من هيمنة القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب لا يكون فيه الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد الذي يسيطر على العالم، لكنّ الحقيقة أيضا أن تشكل نظام عالمي جديد ليس بالسهولة التي نعتقدها، ستسيل دماء كثيرة على جانبي هذه الطريق؛ فالغرب، وفي الحقيقة الولايات المتحدة وإلا فإن أوروبا في أضعف أوقاتها، أقول الغرب لن يتخلى عن نظامه الذي اعتقد أنه آخر ما يمكن للعقل البشري الوصول إليه وأن التاريخ من بعده قد انتهى تماما.. ثم إن الغرب لن يتخلى عن هيمنته بسهولة وذلك يبذل كل جهده في دعم أوكرانيا، ليس حبا في أوكرانيا على الإطلاق، ولكن دفعا عن النظام الغربي نفسه. وفي مقابل ذلك فإن بوتين لن يستسلم أبدا، فلا مجال للخسارة في قاموسه وهو يملك أقوى ترسانة نووية في العالم، ويعرف الغرب أنه قد يستعملها إذا وصل إلى لحظة اليأس الأخيرة.

وتعول روسيا في خطة حربها على قسوة الشتاء في ظل مشكلة الطاقة التي تعاني منها أوروبا. أما الغرب فإنه يعول على إنهاك روسيا ومحاصرتها اقتصاديا، متأملين أن يأتي التغيير في روسيا من الداخل أمام ضغط العقوبات وفقدان الامتيازات. لكن أوروبا نفسها أصبحت منهكة جدا، وأصبح المواطن الأوروبي يعيش أسوأ أيامه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا الإنهاك الاقتصادي والرعب من أي حرب نووية إضافة إلى ما يشكله ضغط اللاجئين، سواء كانوا بعيون سوداء أو زرقاء، يساهم في تحول الأوروبيين إلى التطرف اليميني، وإلى اجترار التاريخ بأحزابه وتوجهاته وحكوماته وخاصة المتشددة منها. هذا الواقع يؤثر على جميع دول العالم، فروسيا وأوكرانيا يؤمنان النسبة الأكبر من الأمن الغذائي في العالم، وحربهما تسببت في ارتفاع التضخم في العالم إلى أرقام قياسية، تجاوزت في بريطانيا حاجز الـ 10%. ورغم أن سلطنة عمان استطاعت حتى الآن الحفاظ على التضخم في حدود 3% إلا أن الحفاظ على هذا المستوى مرهون بالأحداث العالمية التي لا تستطيع عُمان التحكم فيها.

3- باحثون عن عمل وأمل

تنعكس مشكلة وباء كورونا وما أثرت به في أسواق العالم واقتصاداته وما يمكن أن تحدثه فيما لو عادت موجات الوباء من جديد، وكذلك الحرب الأوكرانية على العالم سلبا، وكذلك على الاقتصاد العماني والوضع المالي المحلي. وإذا كنا قد تجاوزنا الأزمة المالية بفضل الإصلاحات الاقتصادية والمالية وبفضل قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، للأزمة المالية التي مرت بها سلطنة عمان، فإن التحولات العالمية تنعكس سلبا على المشهد الاقتصادي والمالي المحلي، فعودة قيود كورونا، لا قدر الله، مرة أخرى تعني تأثر الاقتصاد العماني مرة أخرى، وتسريح المزيد من الموظفين في القطاع الخاص وتوقف أعمال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وربما المؤسسات الكبرى أيضا، ما يعني أنها قد تفاقم مشكلة الباحثين عن عمل مرة أخرى.

إن مشكلة الباحثين عن عمل هي المشكلة الأكبر التي تعاني منها سلطنة عمان، وهي تحتاج إلى حل جذري، وأهم حل من حلولها هو التوسع في «تعمين الوظائف»، فلا يمكن أن نتحدث عن مشكلة الباحثين عن عمل في ظل وجود أكثر من مليوني وافد أغلبهم يعملون في القطاع الخاص بوظائف يمكن أن يعمل فيها العماني! هناك كوادر بشرية تعلمت في أرقى الجامعات العالمية تكمل الآن في بيوتها منذ أن أنهت التعليم أكثر من 5 سنوات، وهناك المئات من الذين تجاوزت أعمارهم الـ 35 عاما ما زالوا بلا أعمال، من أعمال خاصة أم وظائف تتناسب مع تخصصاتهم. وقد أكد سلطان البلاد المفدى في الكثير من المناسبات اهتمام الحكومة بهذا الملف. وفي اجتماع مجلس الوزراء في نوفمبر الماضي تم الحديث عن قانون العمل الجديد الذي وصل أخيرا إلى مجلس الشورى ضمن دورته التشريعية قبل أن يصدر قانونا جديدا خلال الربع الأول من العام الجديد كما يتوقع الكثيرون. والطموح الكبير أن يحمل هذا القانون مسارات للخروج من مشكلة الباحثين عن عمل. ولا شك أن حصول العدد الكبير من الباحثين عن عمل على أعمال هو أحد مسارات تنشيط الاقتصاد وبث الحياة فيه.

4- التغيرات المناخية

من بين القضايا التي باتت تؤرق العالم أجمع قضية التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، فلم يعد الأمر مجرد ترف علمي، إنه حقيقة واقعة يعيشها الجميع.

قبل عقد من الزمن لم يكن الحديث عن التغيرات المناخية يشغل أحدا عدا العلماء، وبعض الساسة المتنورين، لكنه اليوم يشغل عامة الناس. وما حدث في الصيف الماضي من وصول درجات الحرارة إلى مستويات قياسية في أوروبا، وحدوث أمطار فيضانية في دول الخليج العربي ومن بينها عُمان يجعل مؤشر الخطر يرتفع عاليا.

ويرتفع حجم الخطر في سلطنة عمان باعتبارها الدولة العربية الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية من حيث الفيضانات. فجميع سواحلها تقريبا تقع على المحيط الهندي، بحر العواصف والأنواء كما تسميه الكتب العربية. وزادت وتيرة الأعاصير خلال السنوات القليلة الماضية التي تمر سنويا على البلاد. وليس أمامنا إلا أن نعمل على حماية البنية الأساسية في الدولة عبر مشاريع ضخمة ومبنية وفق معطيات العلم الحديث. من المهم أن نتحول إلى مشاريع الطاقة الخضراء، لكنها لن توقف التحولات التي يشهدها المناخ في عقد أو عقدين من الزمن. ولذلك صار مهما أن تكون لدينا استراتيجية وطنية للحماية من أخطار التحولات المناخية. ويتوقع العلماء أن تشهد الأعوام القادمة، بما في ذلك العام الجاري، تطرفا مناخيا غير مسبوق قياسا بالتحولات التي تحدث كل عام.

**

هل هذه كل القضايا التي يمكن أن تؤثر علينا محليا خلال العام الجاري؟ بطبيعة الحال لا. هناك الكثير من القضايا المنظورة وغير المنظورة. وإضافة إلى كل ذلك هناك آمال وتطلعات من العام الجديد، تطلعات أن يتحول الوعي المجتمعي إلى وعي قادر على مواكبة كل هذه التحولات، وأن تكون هناك أدوار حقيقية لنخب المجتمع العماني في بناء هذا الوعي، وهناك آمال أن تشهد القطاعات الأساسية في الدولة مثل قطاع التعليم وقطاع الصحة وقطاع الخدمات الاجتماعية تحولات كبرى تستطيع مواكبة ما يحدث في العالم.

وأخيرا فإن الفيلسوف هيجل يقول: «إن العالم لا يتغير بذاته.. وإنما الوعي هو الذي يغير العالم».

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان».