فن الترجمة
الثلاثاء / 2 / جمادى الآخرة / 1444 هـ - 20:12 - الثلاثاء 27 ديسمبر 2022 20:12
يمتهن بعض الكتَّاب فن الترجمة، ظانين أن الترجمة حرفة وليست فنًّا قائمًا بذاته. وبطبيعة الحال، فإن المقصود هنا لا يعني أن الترجمة فن من الفنون الجميلة، وإنما يعني أن الترجمة ليست حرفة كغيرها من الحرف، بل هي عمل إبداعي؛ وبذلك فإنها تشارك الفنون الجميلة شيئًا من إبداعيتها، وبوسعنا القول أيضًا أنها تشارك الفنون شيئًا من جمالياتها. ولهذا فقد أصبحت الترجمة فنًا خاصًا له أدبياته ونظرياته العديدة. وعلى هذا، يمكننا هنا النظر في الشروط العامة المؤهلة للإبداع في هذا الفن بمنأى عن امتهانه، أعني: بمنأى عن اتخاذه حِرفة يمكن أن يمتهنها بعض الناس.
الشرط اللغوي
من الواضح بطبيعة الحال أن 'الشرط اللغوي' هو أول هذه الشروط وأهمها. وهذا الشرط يعني إتقان اللغة المنقول عنها الكلام أو النص المُراد ترجمته. ولكن هذا الشرط يُعد إشكاليًّا؛ لأن إتقان اللغة المراد ترجمتها لا يعد شرطًا كافيًّا وحده؛ إذ لا بد من إتقان اللغة التي يُراد الانتقال إليها. وتلك هي المشكلة الأولى والأساسية التي تتبدى في ضعف ترجمات مَنْ يمتهنون الترجمة؛ إذ يظن هؤلاء أن معرفتهم باللغة المنقول عنها يعد كافيًّا لكي ينقلوها إلى لغتهم الأم، من دون أن يدروا أن انتقال لغة ما إلى لغة أخرى هو نوع من التأويل، وليس ترجمة لمترادفات في اللغة: لأن المعنى في لغة ما قد يقتضي أحيانًا استخدام كلمات مغايرة في اللغة التي يُرَاد الانتقال إليها. لا يفهم هؤلاء أن ترجمة المعاني ليست ترجمة مُعجمية للكلمات، ولا يفهمون أن معاني الكلمات في المعاجم والقواميس قد تفيد كثيرًا في مجال اللغة الإخبارية المتداولة في الحياة والعلم، ولكنها لا تفيد على الإطلاق في مجال النصوص الأدبية والفلسفية على سبيل المثال. ولا يفهم هؤلاء أن الكلمة ليس لها معنى واحد بذاتها؛ لأن معناها- كما أطلعنا على ذلك بالتفصيل الفيلسوف الفرنسي الكبير ميرلوبونتي Merleau-Ponty- لا ينفصل عن السياق الذي جاءت فيه؛ ولهذا فإن المعنى عندئذ يتطلب أحيانًا تأويلًا عندما يُرَاد له أن يدخل في سياق لغة أخرى. ومن شاء مثالًا على ذلك، فلينظر- على سبيل المثال- في ترجمة الأمثال الشعبية الشائعة في لغة ما، وفيما يناظرها في لغة أخرى تعبر عنها بكلمات مختلفة. فالترجمة الحرفية للأمثال من دون تأويل ستكون مُخزية إلى حد يثير السخرية والضحك.
الشرط المعرفي
وإذا كانت الترجمة هي تأويل لمعنى الكلام في اللغة المنقول عنها إلى معناه في لغة أخرى؛ فإن هذا يفترض شرطًا أوليًّا أسبق من المعرفة باللغة، وهو الشرط المتعلق بالمعرفة الوثيقة بطبيعة الموضوع الذي يُرَاد استيعابه وفهمه في لغة أخرى؛ فمن دون ذلك لا يمكن فهم المعنى المراد من خلال اللغة المنقول عنها، وسوف يتوه المترجم ويفتقد المعنى الدقيق المقصود الذي غالبًا ما يكون اصطلاحيًّا عند المتخصصين، بل إنه قد يفتقد مجمل المعنى المراد في سياق الجملة أو الفقرة! ولذلك فإننا نندهش من حال المتنطعين على الترجمة في عالمنا العربي: أولئك الذين يمتهنونها ويتخذونها حرفة للارتزاق، وأولئك الذين يظنون أنهم امتلكوا ناصية المعرفة بمجرد امتلاكهم لناصية اللغة التي ينقلون عنها.
الشرط الجمالي
أما الشرط الجمالي فهو أخَّص شروط الترجمة، وهو المعيار الحاسم في قياس جودتها؛ لأن المترجم إذا كان يملك ناصية اللغة بالإضافة إلى المعرفة بطبيعة الموضوع الذي يُراد ترجمته؛ فإن هذا أيضًا لا يكفي لكي يُنتِج لنا ترجمة نعتد بها. وهذا الأمر يتبدى بوجه خاص فيما يتعلق بترجمة النصوص الفلسفية، وبوجه أخص فيما يتعلق بترجمة النصوص الأدبية: فالمترجم في مثل هذه الحالات ينبغي أن يُبدع نصًا موازيًّا. حقًا إنه لا يبدع نصًا آخرَ مغايرًا للنص الأصلي، ولكنه يبدع نصًا يمكن أن يتخلى فيه عن كثير من قواعد النحو والصرف والمفرد والجمع، والتقديم والتأخير، وما إلى ذلك مما يتعلق بكلمات النص الأصلي؛ بل إنه قد يحذف كلمات ويضيف أخرى، ليخلق معادلًا للدلالة الجمالية للنص الأصلي. ويمكن أن أضرب هنا المثال التالي حتى لا يكون كلامي كله نظريًّا. حينما ترد عبارة في نص 'روميو وﭼوليت' لشكسبير على النحو التالي:
But, soft, what light through yonder window breaks?
It is the east, and Juliet is the sun. Arise, faire sun,
and kill the envious moon,
ترجم محمد عناني هذا المقطع الشعري على النحو التالي:
ما ذلك النور الذي ينساب عبر النافذة؟
قل إنه المشرق لاحْ
قل إنها جُوليت أو شمس الصباحْ
هيا اسطعي شمسي الجميلة وامحقي البدر الحسود
هذه ترجمة بديعة، رغم أنها لم تلتزم بنقل المفردات واحدة بواحدة، بل استغنت عن بعض منها من أجل كلمات أخرى تفي بالمعنى من خلال سياق مغاير من الألفاظ والحروف!
غير أن الشرط الجمالي يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهو يمتد إلى نقل الشحنات العاطفية والوجدانية التي تكمن وراء الكلمات، وذلك من قبيل: التوكيد، والاستنكار المضمر، والتهكم والسخرية المضمرة من خلال التساؤل الاستنكاري، والتشبيه والتمثيل، والتصوير والمجاز، وما إلى ذلك. وتلك مسألة لا يقوى عليها إلا قلة قليلة من المترجمين. هذه الحالة لا تعد مشكلة على الإطلاق بالنسبة إلى مَنْ يترجمون أخبارًا أو تقاريرَ علمية، ولكنه يصبح مشكلة حقيقية بالنسبة إلى من يتجرؤون على ترجمة نص أدبي أو نص فلسفي تأمُّلي. أما إن كان الأمر يتعلق بترجمة الشعر تحديدًا، فالنصيحة المخلصة في هذا الصدد أن يتخلى المترجمون عن التجرؤ على هذا النوع من النصوص تحديدًا، ما لم يكونوا على معرفة بلغة الشعر، وما لم يكونوا على قدر كبير من الذائقة الجمالية عمومًا.
الشرط اللغوي
من الواضح بطبيعة الحال أن 'الشرط اللغوي' هو أول هذه الشروط وأهمها. وهذا الشرط يعني إتقان اللغة المنقول عنها الكلام أو النص المُراد ترجمته. ولكن هذا الشرط يُعد إشكاليًّا؛ لأن إتقان اللغة المراد ترجمتها لا يعد شرطًا كافيًّا وحده؛ إذ لا بد من إتقان اللغة التي يُراد الانتقال إليها. وتلك هي المشكلة الأولى والأساسية التي تتبدى في ضعف ترجمات مَنْ يمتهنون الترجمة؛ إذ يظن هؤلاء أن معرفتهم باللغة المنقول عنها يعد كافيًّا لكي ينقلوها إلى لغتهم الأم، من دون أن يدروا أن انتقال لغة ما إلى لغة أخرى هو نوع من التأويل، وليس ترجمة لمترادفات في اللغة: لأن المعنى في لغة ما قد يقتضي أحيانًا استخدام كلمات مغايرة في اللغة التي يُرَاد الانتقال إليها. لا يفهم هؤلاء أن ترجمة المعاني ليست ترجمة مُعجمية للكلمات، ولا يفهمون أن معاني الكلمات في المعاجم والقواميس قد تفيد كثيرًا في مجال اللغة الإخبارية المتداولة في الحياة والعلم، ولكنها لا تفيد على الإطلاق في مجال النصوص الأدبية والفلسفية على سبيل المثال. ولا يفهم هؤلاء أن الكلمة ليس لها معنى واحد بذاتها؛ لأن معناها- كما أطلعنا على ذلك بالتفصيل الفيلسوف الفرنسي الكبير ميرلوبونتي Merleau-Ponty- لا ينفصل عن السياق الذي جاءت فيه؛ ولهذا فإن المعنى عندئذ يتطلب أحيانًا تأويلًا عندما يُرَاد له أن يدخل في سياق لغة أخرى. ومن شاء مثالًا على ذلك، فلينظر- على سبيل المثال- في ترجمة الأمثال الشعبية الشائعة في لغة ما، وفيما يناظرها في لغة أخرى تعبر عنها بكلمات مختلفة. فالترجمة الحرفية للأمثال من دون تأويل ستكون مُخزية إلى حد يثير السخرية والضحك.
الشرط المعرفي
وإذا كانت الترجمة هي تأويل لمعنى الكلام في اللغة المنقول عنها إلى معناه في لغة أخرى؛ فإن هذا يفترض شرطًا أوليًّا أسبق من المعرفة باللغة، وهو الشرط المتعلق بالمعرفة الوثيقة بطبيعة الموضوع الذي يُرَاد استيعابه وفهمه في لغة أخرى؛ فمن دون ذلك لا يمكن فهم المعنى المراد من خلال اللغة المنقول عنها، وسوف يتوه المترجم ويفتقد المعنى الدقيق المقصود الذي غالبًا ما يكون اصطلاحيًّا عند المتخصصين، بل إنه قد يفتقد مجمل المعنى المراد في سياق الجملة أو الفقرة! ولذلك فإننا نندهش من حال المتنطعين على الترجمة في عالمنا العربي: أولئك الذين يمتهنونها ويتخذونها حرفة للارتزاق، وأولئك الذين يظنون أنهم امتلكوا ناصية المعرفة بمجرد امتلاكهم لناصية اللغة التي ينقلون عنها.
الشرط الجمالي
أما الشرط الجمالي فهو أخَّص شروط الترجمة، وهو المعيار الحاسم في قياس جودتها؛ لأن المترجم إذا كان يملك ناصية اللغة بالإضافة إلى المعرفة بطبيعة الموضوع الذي يُراد ترجمته؛ فإن هذا أيضًا لا يكفي لكي يُنتِج لنا ترجمة نعتد بها. وهذا الأمر يتبدى بوجه خاص فيما يتعلق بترجمة النصوص الفلسفية، وبوجه أخص فيما يتعلق بترجمة النصوص الأدبية: فالمترجم في مثل هذه الحالات ينبغي أن يُبدع نصًا موازيًّا. حقًا إنه لا يبدع نصًا آخرَ مغايرًا للنص الأصلي، ولكنه يبدع نصًا يمكن أن يتخلى فيه عن كثير من قواعد النحو والصرف والمفرد والجمع، والتقديم والتأخير، وما إلى ذلك مما يتعلق بكلمات النص الأصلي؛ بل إنه قد يحذف كلمات ويضيف أخرى، ليخلق معادلًا للدلالة الجمالية للنص الأصلي. ويمكن أن أضرب هنا المثال التالي حتى لا يكون كلامي كله نظريًّا. حينما ترد عبارة في نص 'روميو وﭼوليت' لشكسبير على النحو التالي:
But, soft, what light through yonder window breaks?
It is the east, and Juliet is the sun. Arise, faire sun,
and kill the envious moon,
ترجم محمد عناني هذا المقطع الشعري على النحو التالي:
ما ذلك النور الذي ينساب عبر النافذة؟
قل إنه المشرق لاحْ
قل إنها جُوليت أو شمس الصباحْ
هيا اسطعي شمسي الجميلة وامحقي البدر الحسود
هذه ترجمة بديعة، رغم أنها لم تلتزم بنقل المفردات واحدة بواحدة، بل استغنت عن بعض منها من أجل كلمات أخرى تفي بالمعنى من خلال سياق مغاير من الألفاظ والحروف!
غير أن الشرط الجمالي يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهو يمتد إلى نقل الشحنات العاطفية والوجدانية التي تكمن وراء الكلمات، وذلك من قبيل: التوكيد، والاستنكار المضمر، والتهكم والسخرية المضمرة من خلال التساؤل الاستنكاري، والتشبيه والتمثيل، والتصوير والمجاز، وما إلى ذلك. وتلك مسألة لا يقوى عليها إلا قلة قليلة من المترجمين. هذه الحالة لا تعد مشكلة على الإطلاق بالنسبة إلى مَنْ يترجمون أخبارًا أو تقاريرَ علمية، ولكنه يصبح مشكلة حقيقية بالنسبة إلى من يتجرؤون على ترجمة نص أدبي أو نص فلسفي تأمُّلي. أما إن كان الأمر يتعلق بترجمة الشعر تحديدًا، فالنصيحة المخلصة في هذا الصدد أن يتخلى المترجمون عن التجرؤ على هذا النوع من النصوص تحديدًا، ما لم يكونوا على معرفة بلغة الشعر، وما لم يكونوا على قدر كبير من الذائقة الجمالية عمومًا.