أعمدة

عن ميسي مجددا

 
قبل انطلاق هذه الدورة من بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر، كنتُ قد نشرتُ هنا مراجعة انطباعية عن كتاب 'ميسي: تمارين على الأسلوب' لجوردي بونتي. الآن أستطيع فهم ذلك الكتاب على نحو أفضل. كل تلك المحاولات لصنع مجاز يتطابق مع ميسي، هو سؤال مفتوح بلا شك مع اللغة. وانتصاره الأخير مع فريق الأرجنتين ليلة الأحد الماضية، هو مثال على إمكانية أن لا يصل متوسطو الأداء وحدهم لتحقيق الإنجازات في عالم تحكمه شروط مادية بحتة. الكاتب السعودي عزيز محمد عبَّر عن فرحته بالفوز الذي اعتبره بمثابة 'مراجعة' لنوع من 'التشاؤم الكلبي' الذي يجعلنا نحس طوال الوقت بأن الحياة لا يمكن أن تكون عادلة. وهذا بالضبط ما أقصده في تجسيد ميسي للسحر.

عمومًا، بعد فوز الأرجنتين انهالت المقالات والقصائد والنصوص في هذا اللاعب الأسطوري، وقرأتها بحرص مريد الاقتراب من سؤال اللغة ذاك. تُرى هل تستطيع الكلمات الإمساك بذلك الأداء المهيب للاعب لن ينسى أبدًا؟ هل نستطيع أن نتحدث عن ميسي، دون 'كيتش' الاستقطاب بينه وكريستيانو رونالدو؟

وجدتُ أثناء بحثي عما كُتب عن ميسي، مقالة نشرت قبل المباراة النهائية عبر نيويوركر لجودي رويزن وعنوانها 'العبقري ميسي: يتمشى فحسب' هنالك مصطلح معروف في الأدبيات التي تدرس المدينة وهو 'flaneur' وهو الذي يمشي في المدينة ويتطلع إليها ويتقاطع معها دون وجهة وهدف محدد، أحب استخدام هذه الكلمة كما هي في الألمانية، لكن إن كنتُ سأعتمد لها ترجمة ما، فسأنحاز لمن يترجمها بـ'المتسكع'. كتب عنه فالتر بنيامين بينما جسّده آخرون عبر كتابتهم مثل الكاتب السويسري روبرت فالزر الذي لم يكرّس كتابته عن مشيه فحسب بل مات وهو يتسكع. لم أكن أتخيل أن أحدًا سيصف ميسي بهذا الوصف حتى قرأتُ مقالة رويزن هذه، فيقول: 'يمكن أن تحدث في هذه المباراة أشياء كثيرة، لكنك ستعثر بلا شك على مشاهدة الحركات المتعرجة لليونيل ميسي الذي سيقضي تسعين دقيقة وهو يتجول ببساطة -ينجرف هنا وهناك ويتجول مثل الحالم بلا هدف، بدافع نفسي جغرافي'.

بحسب رويزن فإن ميسي هو لاعب كرة القدم الرائع، وإبقاء العين مثبتة عليه طوال المباراة هو أمر ساحر ومميت في الوقت نفسه. إنه درس في فن وعلم مشاهدة مباراة كرة القدم. فإذا سألت أي مدرب أو لاعب متمرس أو خبير في اللعبة سينصحك بإبعاد عينيك عن الكرة. الأمر يشبه ذلك المبدأ الألماني في الفلسفة وتاريخ الفن أو الفيزياء، الفكرة هي أنك لتفهم الاتجاه الرئيسي للسردية، ينبغي أن تلف ذهنك حول ما يحدث، يجب أن تحول تركيزك مما هو ظاهر إلى ما يقف رابضًا في الخلفية. وهذا المبدأ يمكن تطبيقه على كرة القدم، ينبغي أن يكون هنالك قدر من تكريس الاهتمام بما يحدث بعيدًا عن الكرة نفسها. عندها تبدأ في تحديد الأنماط والاتجاهات ويمكنك حينها اتخاذ المواقف المناسبة. وإذا كنت تشاهد ليو ميسي فستلاحظ أنه كثيرًا ما يُعثر عليه بعيدًا عن الكرة. يتمشى ويتأرجح ويبدو غير مبال بطريقة ما. يكتب رويزن: قد يبدو أن ميسي من أولئك اللاعبين الأنانيين الذين لا يبذلون جهدًا ولا يحاربون إلا عندما تظهر فرصة للتسجيل. لكن ولعه بالمشي ليس من أعراض التراخي والاستحقاق، إنها ممارسة تكشف ذكاءه والتزامه إنفاق طاقته بكفاءة -إنها ببساطة خدعة، أعظم خدعة في تاريخ اللعبة. أحد المدربين وصف ميسي ومشيه في الملعب: بأنه شكل من أشكال رسم الخرائط، تمرين على المسح واتخاذ إجراءات الدفاع، ملاحظة أين تكمن نقاط الضعف وحساب متى يمكن اغتنام الفرص يقول: 'بعد خمس أو عشر دقائق ستكون لديه خريطة في عينيه، سوف يعرف بالضبط ما هي المساحة وما هي بانوراما اللعبة' المشي بالنسبة لميسي هو التفكير.

خلص تحليل أجرته 'Athletic' أن ميسي هو أكثر لاعب سار في الملعب في هذه النسخة من كأس العالم بمتوسط ثلاثة أميال لكل مباراة.

ألا يفسر لنا هذا على نحو ما، تلك التمريرات التي نقف عاجزين أمام تصور كيف اندفع ميسي لصناعتها؟ كيف رأى تمامًا أين عليه أن يسدد الآن؟ بكل نعومة ممكنة، دون أن يبدو مجهدًا حتى أو محظوظًا. إذ تبدو تلك التمريرات مدروسة جيدًا وتعرف طريقها.

كانت ليلة استثنائية، لم أشاهد فيها ضربات الترجيح، لأنني خفتُ على ميسي من التفريط في ضربة الجزاء، إنه نوعي من 'التشاؤم الكلبي' أن الأشياء لا تنتهي في العادة كما يجب عليها أن تكون. صديقاتي يصرخن ضاعت واحدة ثم ضاعت الأخرى، وما زلتُ مختبئة أريد لذلك اللاعب القصير أن يختم مسيرته بما يستحقه، وأن يغني الأرجنتينيون أغنيتهم التي يحرسهم فيها مارادونا من السماء، بينما لديهم ميسي على الأرض. وهذا ما حدث بالضبط. فلتسمحوا لي أن أقتبس نصًا صغيرًا أحبه للغاية قرأته أول مرة عام 2011 للكاتب السعودي منصور العتيق في مجموعته 'إيقاظ الموتى' الصادرة عام 2009 وعنوانها: ليونيل ميسي. يقول فيها:

'كل ما هنالك أن الولد المصاب بتأخر النمو لم يكن مستعجلًا. إذ تسنى له في وقت مبكر مراقبة العالم الصاخب من الصخرة التي يجلس عليها طويلًا على الساحل. كانت بوينس آيرس خلفه، والحياة بأكملها أمامه.

ورغم أن الصيادين والسائحين الأشقياء، والفتيات الجريئات. أكدن له مرارًا أنه يحلم، وأن برشلونة بعيدة جدًا عن بوينس آيرس. بعيدة إلى درجة أن الزجاجات المحشوة برسائل الحب والانتحار، والنوارس التي تغني أغاني اللوعة والوداع للصيادين المهاجرين لم تأت يومًا من هناك. إلا أن الولد المريض وجد طريقته الخاصة ليصحو غدًا في برشلونة. قد تكون الصخرة التي يجلس عليها قد طارت به إلى هناك. أو حملته النوارس على جناح أغنية وداع، أو في حلم هجرة مثلًا. وأثبتت له بشكل قاطع وعملي، أن برشلونة لا تحتاج سوى حلم لبلوغها.

في برشلونة، عندما سيلعب الولد لاحقًا كرة القدم أمام ثمانين ألف متحمس ومهووس. بمجد تاريخي بائد لمقاطعة كاتالونيا. سيعرف الولد أخيرًا أن تأخر النمو لم يكن مرضًا، إنما الضريبة الخفيفة التي يدفعها مسافر بين مدينتين مختلفتي التوقيت. أو الفسحة البسيطة، مثل حلم، للخروج من الحياة وتأملها عن كثب. ثم العودة إليها قديسًا أو عازفًا، أو لاعب كرة قدم'.