أعمدة

جريدة «عمان».. الشغف الدائم

 
تُوِّج يومٌ ذهبيٌ للصحافة العمانية عمومًا، ولجريدة «عمان» خصوصًا، بمضي 50 عامًا على صدور العدد الأول منها، إذ صدر بمناسبة العيد الوطني لسلطنة عمان، يوم (السبت 18 نوفمبر 1972 الموافق 12 شوال 1392م)، في 8 صفحات، بقيمة 50 بيسة. قبل يوم التتويج بأربعة أيام جاءتني دعوة من الصديق عاصم بن سالم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان» لحضور (ندوة علمية تسلط الضوء على الإنجاز الإعلامي والثقافي لجريدة «عمان» تحت عنوان «عمان.. هذا البلد وهذه الجريدة 1972-2022») برعاية معالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي وزير الإعلام، فسعدت بالدعوة، ليس لأنها من صديق؛ شهدت الجريدة على يديه مواكبة ناجحة لعصر التحدي المفتوح، فحسب، وإنما أيضًا لأن لـ «عمان» فضلًا عليّ لن أنساه في دفعي إلى القراءة والكتابة، بل وفي تأسيسي معرفيًّا. لقد وُفق منظمو الندوة حينما أسندوا رعاية الفعالية إلى الدكتور الحراصي، فقد شهد تطور الحركة الثقافية بعمان الحديثة، وأسهم فيها وفي النشر بالجريدة، فرعايته للندوة تعبير عن رعايته لها؛ وما أحراه بذلك؛ وعمان تشهد مرحلة تجددها، في عهد مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله.

بعد حفل افتتاح الندوة.. شهدنا «معرض الاحتفال باليوبيل الذهبي»، وكان فرصة لأن يلتقي رجال الصحافة؛ لا سيما المخضرمين منهم، اقتربت من عاصم الشيدي وهنأته على مسيرة الجريدة المشرقة ونجاح الاحتفاء بها، وتفاعلًا مع الحدث همست في أذنه قائلًا: عليَّ أن أكتب مقالًا بهذه المناسبة. فرد: جميل. كان ذلك بمثابة وعد للجريدة عليّ أن أفي به، ولكن كيف؟ فالندوة.. تشتمل على بحوث رصينة تغطي تاريخ الجريدة، والأدوار التي قامت بها، ولمّا نظرت إلى ملحق «اليوبيل الذهبي» الصادر بالمناسبة، وجدته يحمل شهادات للصحفيين والموظفين الذين خدموا الجريدة، فقلت: ليكن مقالي شهادة من خارج الجريدة، ممَن امتلكت الجريدة شغاف قلبه حبًا. فقررت أن أكتب عن علاقتي الحميمة بها منذ كنت طفلًا، وليكن المقال من جنس التاريخ الاجتماعي.

بدايتي مع جريدة «عمان» لطيفة، إذ كان لقائي الأول بها في المستشفى، حينما كنت في العاشرة من عمري، وهي تدرج في ربيعها السابع. لم يكن يفصل بين بيتنا والمستشفى إلا سكة ضيقة، وكنا نحن الأطفال نحوم لعبًا في ساحته، وحينها «ختمت القرآن»؛ وانفتحت شهيتي على القراءة، لكن لم تكن بين يدي كتب لأقرأها. وبينما أتجول ذات سبت في ساحة المستشفى وجدت مجموعة أوراق وصحف، جذبتني إليها، فدلفت إلى أحد المكاتب، وسألت الموظف عن مصيرها، فقال: هل تريدها؟ فقلت فرحًا: نعم. أخذتها وكانت فيها جريدة «عمان»، فعكفت على قراءتها. لم أكن أفهم منها إلا اللمم، فقرأتها حتى أقوّي ملكتي في القراءة، وأصبحت أذهب كل سبت لآخذ جريدتي. مرةً؛ لم أجدها، فدخلت مكتب صاحبي، فسألته: أين الجريدة؟ قال: لعلهم رموها في مجمع النفايات. قلقت على مصيرها؛ ولم أملك نفسي حتى تبعتها، ولحسن حظي وجدتها.

كنت أشعر بنمو قدرتي القرائية كلما قرأت الجريدة، وكان ذلك الصيف حجر الأساس لتكويني اللغوي والمعرفي. لم تستأثر «عمان» بذلك، فقد سبقها التعليم المدرسي وقراءة القرآن، ولحقتها مواد أخرى كمجلة «ماجد»، لكن ظلت هي الرافد لتنوع معرفتي؛ بكونها شاملة. ليلتئذٍ؛ وكالعادة؛ يجتمع الجيران للقهوة والسمر «الرمسة» في أحد البيوت، بعد صلاة المغرب، دار الحديث حول حدث من أحداث العالم، فذكرت لهم ما قرأت بشأنه في «عمان» ذلك السبت، ولم يكن في حسبان آبائنا أنه بالإمكان وصولها يوم صدورها، فانبرى أحدهم -عفا الله عنه- مكذبًا لي: كيف يمكن أن تصل الجريدة من مسقط في اليوم نفسه. فأحرجني كلامه، وما هي إلا لحظات حتى وضعت الجريدة بين أيديهم، فسكت الرجل، وارتحت بأن دفعت عني التهمة، فزاد تعلقي بالجريدة، فهي لا تمنحني المعرفة فحسب، بل تمدني كذلك بالمرجع على ما أقول.

المدرسة.. مرحلتي الثانية مع جريدة «عمان»، حيث بدأتْ تصل إلى مدرستنا؛ مدرسة بلعرب بن سلطان ببَهلا. مرحلة شكلت لي نقلة نحو القراءة غير الصفية، حيث وُجِدتْ مكتبة بالمدرسة، كما كان «باص التراث» -كما كنا نسميه- يأتينا، وهو حافلة مخصصة لبيع الكتب التي تصدرها «وزارة التراث القومي والثقافة»، وتباع بسعر مخفّض. كان عليّ أن أوفر نقودًا، لأشتري منها الجريدة بخمسين بيسة، ولمّا لا يحصل لي المال أذهب إلى المكتبة لأقرأها، وكثيرًا ما أجد غيري قد سبقني إليها، وإن وُجِدَ فائض من المال ادخرته لشراء كتاب من الحافلة.

نهاية العام الدراسي.. كان لاقتناء الجريدة لذة خاصة، حيث كانت تنشر أسماء طلاب المرحلتين الإعدادية العامة والثانوية العامة، مع نتائجهم، ورغم أنها تذاع قبل ذلك عبر الإذاعة، إلا أننا نتسابق للحصول على الجريدة، نحجزها قبل يوم من المكتبة الموزِّعة، وإلا لن نجدها. وكان الطالب المجتهد يبتهج بعرض نتيجته منها على الأسرة والأصدقاء.

خلال المرحلة الثانوية.. بدأت أرصف لنفسي بعض الأسطر، ولمّا التحقت بالجامعة قررت أن أنشر في الجريدة التي علمتني. فكلمت زميلي الذي يعمل في مؤسسة الجريدة؛ سليمان بن محمد الشقصي، لكي يوصل ما أكتب إليها، فرحّب بذلك، فأعطيته مقالي الأول؛ وحرصت ألا يفوتني عدد منها حتى نزل المقال في صفحة آراء القراء، وهكذا واصلت كتابتي فيها، أنثر ما يتوارد في كنانتي من أفكار. حينها لا نعرف الكمبيوتر وكنت أكتب بالقلم، فحرصت ألا أرتكب خطأً فأضطر إلى دمغ الكلمة أو تغيير الصفحة. وكان ذلك شاقًا لي؛ نفسيًّا.. فالجريدة عندي شيء كبير، وأخشى أن يُسد باب النشر أمام قلمي إن لم يستقم المكتوب. وذهنيًّا.. كان عليّ أن أحكم العبارة فكرةً وأسلوبًا، وأضبط الكلمة إملاءً ونحوًا، حتى لا أضطر للتعديل أو البدء من جديد. لا أذكر أن مقالًا لي حُجب عن النشر، أو جرى تعديله، إلا ما لا يسلم منه القلم بالسبق.

بعد تخرجي من جامعة السلطان قابوس عام 1991؛ اشتغلت بالكتابة حول الفكر الديني، وبدأت كذلك أنشر في صحف أخرى، واستمرت هذه المرحلة حتى عام 2007م، حين التقيت بالصحفي محمد بن سليمان الحضرمي، بعد صدور كتاب «الإيمان بين الغيب والخرافة» -تأليف مشترك بيني وبين خالد بن مبارك الوهيبي- فطلب الحضرمي أن يجري معي حوارًا حول الكتاب وقضايا الفكر الإسلامي، فأجبته. ومن عادة الحضرمي -وهو الصحفي المتمكّن- أنه لا يحاور أحدًا حتى يقرأ له، وقد يسبق حواره بجلسة يستطلع فيها المزيد من اهتمامات محاوِره. جلسنا معًا، وتحدثنا حول الكتاب وأطروحته وعموم أفكاري، ثم أجرى الحوار معي ونشره في ملحق الجريدة «شرفات». ها هي الجريدة تهديني صديقًا فاضلًا، لم يكن لقائي بالحضرمي عابرًا، بل تحول إلى صداقة وفية، تزدان جمالًا بمرور الأيام.

«شرفات».. نقطة تحوّل لي في الكتابة، حيث انتقلت للطرح الفلسفي، ونشرت خلال تلك المرحلة مقالات حول الفكرة؛ منها: «المتبقي في الفكر» و«برجماتية الأفكار» و«الموسيقى والفكرة»، و«الزمن وهَمٌ لا بد منه»، فأحدثتْ تفاعلًا في الوسط الثقافي، ونالت اهتمامًا بالرد من الكتّاب العمانيين، منهم: عبدالله الحراصي وعبدالله المعمري وزكريا المحرمي وحسين العبري. بل انتقلت النقاشات حولها إلى منتديات الحوار الإلكترونية؛ كالحارة العمانية والسبلة العمانية وفرق ومنتدى العقلانيين العرب، وامتد الحوار إلى كتّاب عرب، أصبحت تربطني ببعضهم صداقة وتواصل على أرض الواقع.

رحلة شغف قديمة.. امتدت أكثر من أربعين عامًا، تتوجت بمقال أسبوعي حول التحولات التي تحصل في العالم وانعكاسها على الوطن العماني؛ في الفلسفة والدين والحضارة والثقافة والفكر والتاريخ والاجتماع، وهذا المقال أحدها.