ما الذي يحدث حقا في إسرائيل؟
الاحد / 23 / جمادى الأولى / 1444 هـ - 18:27 - الاحد 18 ديسمبر 2022 18:27
ترجمة: أحمد شافعي -
أسبوع من العمل الصحفي في إسرائيل والضفة الغربية ترك في نفسي شعورا بأن احتمال حل الدولتين قد تبدد وتلاشى. لكن أحدا لا يريد أن يعلن رسميا أنه مات ودفن، وذلك لأن استبعاده قطعيا سيفضي إلى تداعيات هائلة. لذلك يتظاهر الدبلوماسيون والساسة والمنظمات الليبرالية اليهودية أنه لا يزال حيا وإن يكن ضعيف النبض. وأنا أحذو حذوهم. ولكننا نعلم جميعا أن خيار الدولتين ليس نزيل مستشفى، وإنما هو نزيل دار إيواء، وما لإنقاذه الآن من سبيل إلا معجزة.
غير أن محض غياب مفهوم الدولتين لا يعني، للأسف، أن يصبح على الفور حل الدولتين ـ إذ تسيطر إسرائيل منفردة على الضفة الغربية والقدس وإسرائيل ما قبل 1967 إلى الأبد ـ هو الأساس اليسير. ليس الأمر كذلك مطلقا. فكلما ازداد المرء فحصا دقيقا لطريقة عيش اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين معا في ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، ازداد إدراكا لثلاثة أمور مهمة:
أولا، يدرك المرء أنه على الرغم من الانفجارات العرَضية، فإن هذه المجتمعات شديدة التنوع، كثيرة التخاصم، عميقة التضافر، بقيت في حالة توازن تقريبي منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، وذلك بفضل مزيج من القمع الأمني الإسرائيلي، وأعمال للسلطة الفلسطينية، والنمو الاقتصادي، وجملة كاملة من التنازلات البرجماتية وضبط الطرفين للنفس على أساس يومي.
لكن المرء يدرك أيضا أن جملة متنوعة من التغيرات الديموجرافية والتكنولوجية والسياسية والاجتماعية الجارية منذ وقت طويل تبلغ الآن نقاط تأثير تؤدي إلى إجهاد جميع التوازنات بين اليهود واليهود، واليهود وعرب إسرائيل، واليهود والفلسطينيين، والفلسطينيين والفلسطينيين التي حافظت على استقرار معقول في هذا المكان.
وإنني أشير من خلال ذلك إلى أفول عملية السلام واحتمالات حل الدولتين، وتوسع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وانهيار السلطة الفلسطينية، وانتشار تيكتوك وغيره من وسائل الإعلام الاجتماعي. ففي العام الماضي وحده، وفقا لمنظمة بيتسليم الإسرائيلية لحقوق الإنسان، مات قرابة عشرين إسرائيليا وأكثر من 150 فلسطينيا في حوادث عنف.
لا أحسب أن يوما مر في رحلتي تلك دون أن أقرأ أو أشاهد تيكتوك أو فيديو آخر لفلسطيني لقي مصرعه على أيدي جنود إسرائيليين أو إسرائيليين تعرضوا لاعتداء أو هجوم بالسكاكين على أيدي أفراد فلسطينيين. هذه الأفلام الإبحاية الصراعية جديدة من نوعها، وهي واسعة الانتشار، وذات فعالية هائلة في غرس الكراهية من خلال لدغات قصيرة لا تطول عن خمس عشرة ثانية تجعل الجميع في حالة خوف وغضب.
وكل ذلك سبق الانتصار الضئيل الذي حققه بنيامين نتانياهو في انتخابات إسرائيل الأخيرة، والذي أفضى إلى ما سيكون أكثر الائتلافات الحاكمة تطرفا دينيا ووطنيا في تاريخ البلد. (والقاعدة عندي هي أن أي حزب يضيف بادئة ultra [أي المتطرف أو المغالي] إلى اسمه لا يمثل بادرة خير هنا).
كل هذا يفضي إلى إدراك أن إسرائيل سوف تحتاج إلى كثير من ضبط النفس من أجل الحفاظ على الاستقرار. وجميع الأطراف كذلك، لكن إسرائيل هي الحاكمة الفعالة على كل ذلك العالم. ودونما ضبط للنفس، لن تكون النتيجة حل الدولة الواحدة المستقرة، بما فيها من فسيفساء اليهود الإسرائيليين والمواطنين الفلسطينيين الإسرائيليين وفلسطينيي الضفة الغربية المتعايشين جميعا في تناغم. ودونما ضبط للنفس، سيكون بوسع نتانياهو وشركائه الائتلافيين أن يدفنوا حل الدولتين وحل الدولة الواحدة في نفس المقبرة.
ولن يتركنا هذا إلا لحل الفوضى الكبيرة الواحدة.
وإذا ما سألتموني، فهذه هي النتيجة الراجحة ـ فوضى تامة ستترك إسرائيل وهي لم تعد أساس الاستقرار في المنطقة ولحليفها الأمريكي، وإنما ستتركها وقد أصبحت مرجلا للاضطراب ومصدر قلق للحكومة الأمريكية.
ما سبب هذا القلق؟ سببه أن شركاء نتانياهو الجدد يمثلون النقيض التام لضبط النفس. إذ أن أربعة من زعماء أحزاب الائتلاف الحكومي القادم الخمسة ـ وهم نتانياهو وأرييه درعي وبتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير ـ إما تم اعتقالهم أو اتهامهم أو إدانتهم أو حبسهم بسبب اتهامات بالفساد أو التحريض على العنصرية. وهؤلاء ليسوا بالأشخاص المعروف عنهم التوقف عند الإشارة الحمراء.
فضلا عن أنه من المتوقع أن يعلن نتانياهو تعيين بن جيفير الوطني المتطرف المعادي للعرب، وزعيم حزب (القوة اليهودية) وزيرا للأمن الوطني. وهذا المنصب لا يعطي بن جيفير الإشراف فقط على الشرطة الإسرائيلية وإنما على جهات تنفيذ القانون أيضا، ومنها شرطة الحدود شديدة النشاط في الضفة الغربية المحتلة. ليكون من السهل للغاية أن يستعمل بن جيفير هذه الجهات سلاحا ضد عرب إسرائيل والسكان الفلسطينيين.
من المتوقع أيضا أن يقوم نتانياهو بتعيين سموتريتش وزيرا للمالية ويعتزم أيضا أن يعطيه وحزبه ـ (الصهيونية الدينية) ـ مسؤولية الإدارة المدنية التي كانت دائما تابعة لوزارة الدفاع. والإدارة المدنية لها سلطة توسيع المستوطنات وتقييد الحياة اليومية الفلسطينية وتفعيل القانون بما في ذلك من هدم للمنازل.
سموتريتش وبن جيفير متطرفان دينيا يروجان الحضور اليهودي في (جبل الهيكل)، وهو أيضا موقع مقدس لدى المسلمين. والعمل الشرطي في (جبل الهيكل) تقوم به الشرطة الإسرائيلية التي يوشك أن يشرف عليها بن جيفير. فهمتم الوضع؟
وما درج نتانياهو على قوله لمسؤولين ويهود امريكيين وحلفاء من عرب إسرائيل هو بالدرجة الأساسية أنه على الرغم من تكليفه ثعالب بتولي مسؤولية بيوت الدجاج وتوزيعه الثقاب والوقود على الممسوسين بإضرام الحرائق، فإن سلطته وحنكته سوف تمكِّنانه من إرجاع الضوابط المؤسسية وإبعاد شركائه المتطرفين عن المخاطرة بوضع إسرائيل على شفا هاوية.
عموما سوف نرى. لكنني شخصيا أستبعد ذلك. في الوقت نفسه، اسمحوا لي أن أصطحبكم في جولة سريعة في الأفق السياسي وأريكم كم التوازنات الذي يجري إجهاده ولماذا تحتاج إسرائيل احتياجا ماسا إلى أكثر ما يمكنها إنتاجه من الحكومات برجماتيةً وضبطا للنفس، لكنها لا تنال إلا النقيض الصارخ.
*
كانت إحدى محطاتي الأولى في هذه الرحلة إلى الوسط اليهودي في قلب منطقة الخليل الفلسطينية، قرب مقبرة إبراهيم وإسحق ويعقوب [عليهم السلام]، وهي منطقة مقدسة لدى اليهود ولدى المسلمين. قبل أيام قليلة من زيارتي، وقعت مواجهات خلافية عديدة هناك بن جنود إسرائيليين متفقين بوضوح مع الحكومة اليمينية الجديدة، ويهود إسرائيليين يساريين سافروا إلى الخليل للتضامن مع الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي حسبما أفادت صحيفة ذي تايمز أوف إسرائيل.
في مواجهة ـ صورت بالفيديو ـ تعامل جندي مع متظاهر يهودي ولكمه في وجهه. وفي فيديو آخر يقول جندي وهو يواجه متظاهرين آخرين إن 'بن جيفير سيضبط الأمور في هذا المكان. نعم. لقد خسرتم أيها القوم... واللعبة انتهت'.
ذلك الجندي المتباهي، حسبما أضافت الصحيفة، 'كان يرتدي رقعة على ظهر صدريته العسكرية كتب عليها ’طلقة واحدة. قتلة واحدة. ولا ندم. والقرار لي’. والرقع المغايرة لشعار الوحدة العسكرية أو العلم الإسرائيلي تعد مخالفة للقواعد العسكرية'.
لكن ما حدث بعد ذلك هو موضع تعقيد القصة بين اليهود واليهود. فقد حكم الجيش الإسرائيلي على الجندي الذي سخر من المتظاهرين بالحبس عشرة أيام في سجن عسكري. وقال رئيس أركان الجيش الفريق عفيف كوتشافي إن الجنود الذين صوروا الفيديو قد تصرفوا 'بما يخالف قيم الجيش الإسرائيلي'.
دفع هذا بن جيفير إلى انتقاد الجيش لتوجيهه 'رسالة مؤذية' إلى الجنود. وقال في تغريدة 'علينا ألا نسمح للفوضويين الذين يشوهوننا بالانتصار إلى ما لا نهاية'. فأصدر كوتشافي بيانا قال فيه 'إننا لن نسمح لأي سياسي من اليمين أو اليسار بالتدخل في قرارات القيادة أو باستخدام الجيش للترويج لأجندة سياسية'.
وسط هذا كله ـ ولست أختلق هذا ـ أعاد يائير ابن نتانياهو نشر تغريدة تدعو كوتشافي إلى أن يضع 'رسالته المشينة برسميتها الزائفة على مؤخرته'. ولزم نتانياهو الأب الصمت لبضعة أيام قبل أن يصدر إعلانا يدعم فيه الجيش.
جال بي في الخليل متحدث باسم الوسط اليهودي فيها، يدعى ييشاي فليشر، بعد أيام من الواقعة. عبر عن ارتياحه بمجيء اليهود المتشددين من أمثال بن جيفير إلى السلطة، ليحلوا محل من اعتبرهم الضعفاء. أو على حد تعبيره: 'إسرائيل التي عرفناها رجعت، أي أن الدولة اليهودية الصلبة التي تحمي الأقلية العرقية اليهودية في هذه المنطقة قد رجعت'.
وليس بوسعي أن أتخيل كيف لهذه العلاقة الجديدة بين بن جيفير، والجيش الإسرائيلي، والشرطة الإسرائيلية، وكل من الناشطين اليهود والفلسطينيين أن تحقق التوازن.
بعد ذلك، فكروا في التعقيد الراهن في العلاقات بين اليهود الإسرائيليين ومواطني إسرائيل من العرب الفلسطينيين. وابدأوا بهذا: في 2019، تم تعيين العربي الإسرائيلي سامر حاج يحيى رئيسا لبنك لويمي وهو أكبر بنك إسرائيلي من حيث القيمة السوقية. نعم، ما قرأتموه صحيح. رئيس أهم بنك في إسرائيل هو من عرب إسرائيل، وحاصل على دكتوراه في الاقتصاد من معهد مساتشوستس للتكنولوجيا، وشهادات في المحاسبة والقانون من الجامعة العبرية.
يبدو لي هذا مذهلا للغاية، وهو بحق شهادة لديمقراطية إسرائيل. يمثل عرب إسرائيل 21% من سكان إسرائيل، وقرابة 20% من أطبائها، و25% من ممرضاتها وقرابة نصف صيادلتها، وفي معهد تكنيون ـ أي معهد مساتشوستس للتكنولوجيا الإسرائيلي ـ أكثر من 20% من الطلبة من عرب إسرائيل.
كل هذه أخبار طيبة. لكن إليكم مكمن المشكلة. مع التحاق المزيد من عرب إسرائيل بالطبقتين الوسطى والعليا اقتصاديا، ينتقل المزيد منهم من بلداتهم وأحيائهم العربية التقليدية إلى الأماكن الخاضعة للسيطرة اليهودية مثل تل أبيب وهرزليا، ذات المستوى الأفضل كثيرا في المدارس والطرق والإسكان. ولكن هذا أيضا مصدر توتر جديد، إذ يلتقي المجتمعان بوتيرة أكبر في سياقات أكثر.
فمثلا، يشيع الآن بين اليهود سماع الحديث بالعربية في صيدليات أحيائهم أو متاجرها. وقبل أسبوعين اقترحت إحدى نجمات الإنترت اليهود [ممن يعرفون بالمؤثرين أو الإنفلونسرز] على متابعيها أن يخرجوا من أي متجر في إسرائيل إذا وجدوا عماله يكلمون بعضهم بعضا بالعربية بدلا من العبرية.
مواطنو إسرائيل الفلسطينيون 'يزادادون اندماجا، وعملا، وإسهاما ومطالبة' حسبما أوضح لي ثابت أبو راس المدير التنفيذي لمنظمة 'الاتفاقات الأبراهيمية' غير الربحية الداعمة للتفاهم اليهودي العربي ومقرها اللد. قال إن عرب إسرائيل 'في كل مكان الآن... ثمة عشرات الآلاف من نقاط الالتقاء' بين اليهود الإسرائيليين والعرب 'ويمكن أن تصبح نقاط انفجار أو تنوع'.
في مايو 2021 ـ خلال مصادمة عسكرية أخرى بين إسرائيل وغزة الخاضعة لسيطرة حماس اندلعت عقب مظاهرات يهودية وعربية في القدس واستيلاء الشرطة الإسرائيلية على (جبل الهيكل) ـ تفجرت هذه التوترات. قام السكان العرب في مدن مختلطة بين اليهود والعرب، مثل اللد وعكا، بمهاجمة اليهود وحرق ممتلكات يهودية، منها معابد ليهودية.
ردا على ذلك، قاتل متطرفون يمينيون يهود كلا من السكان العرب والشرطة الإسرائيلية. وفي ضاحية بيت يم بتل أبيب، اجتذبت جماعة من المتطرفين اليهود اليمينيين سائقا عربيا من سيارته وأوسعوه ضربا مبرحا.
من المؤكد أن هذا العنف، وبخاصة إحراق المعابد في دولة يهودية، قد دفع عددا غير قليل من يهود إسرائيل من يمين الوسط إلى اليمين الوطني المتطرف، بما أعطى لبن جيفير السلطة التي هو فيها الآن.
ومع ذلك حينما التقيت بالعديد من زملاء أبي راس من عرب إسرائيل، أوضحوا جميعا ـ على حد تعبيره ـ أن 'ازدواج الهوية يتحول إلى وضع طبيعي ـ ’أنا فلسطيني أعيش في إسرائيل. هذه دولتي ووطني أيضا. عندي إحساس بالانتماء والملكية’'.
بعبارة أخرى، هذا الاندماج السريع لعرب إسرائيل ـ وليس مظاهراتهم العنيفة المتواترة فقط ـ يدفع أيضا إلى صعود اليمين الشوفيني في إسرائيل. وذلك هو السبب في أن دعايات حملة بن جيفير كانت شديدة الفعالية في حشد مؤيديه الوطنيين المتطرفين ومثبطة للغاية لعرب إسرائيل. ولم تحمل تلك الدعايات غير صورته وسؤال: 'من مُلاك الأرض هنا؟'
يزداد ذلك السؤال حدة من يوم ليوم. ولو نظرتم إلى إسرائيل والضفة الغربية وغزة معا، لرأيتم أن 'الشعب اليهوي يشكل أقل من 47% من كل المقيمين في غرب نهر الأردن'، وقد ذكرت تايمز أوف إسرائيل في أغسطس ـ نقلا عن عالم سكاني إسرائيلي مرموق ـ بحسب وصف الصحيفة 'أن ذلك خطر ديمقراطي ينزلق إليه البلد وهو أن يتحول إلى أقلية حاكمة في المنطقة'.
لذلك، سيصبح بقاء يهود إسرائيل (ملاكا للأرض) أمرا يزداد صعوبة. ولأن الأحزاب الوطنية المتطرفة في إسرائيل ترفض اقتسام السلطة مع عرب إسرائيل أو فلسطينيي الضفة الغربية فإنني أزداد إيمانا بأن البديل لحل الدولتين لن يكون حل الدولة الواحدة المستقرة، وإنما هو حل الفوضى الكبيرة الواحدة.
لكن ثمة عائق مؤسسي كبير لنوايا بن جيفير وسموتريتش من التحول إلى ملاك الأرض الوحيدين. ذلك هو المحكمة العليا الإسرائيلية ونواب العموم المستقلون الذين طالما حازوا مكانة واحتراما كبيرين في العالم كله، بقدرتهم على الحد من تجاوزات الحكومة. في سياق سعيهم إلى فرض الأجندات السياسية اليهودية الوطنية المتطرفة والأجندات الدينية اليهودية الأرثوذكسية المتشددة على المجتمعات العربية واليهودية العلمانية الأخرى، يحتاج أولئك الوطنيون المتطرفون إلى تقليص سلطة المحاكم. وهنا تتلاقى مصالحهم ومصالح نتانياهو الذي يريد أن يوقف محاكمته الجارية في اتهامات بالفساد.
ذلك هو السبب في توقع أن تصوت الحكومة القادمة على قانون جديد يسمح للأغلبية من 120 عضوا في البرمان بتجاوز أحكام القضاء، بما يعطي جناح الحكم التنفيذي يدا عليا على القضاء.
أدى هذا الاحتمال إلى إعلان النائب العام الإسرائيلي جالي بهاراف ميارا يوم الخميس قائلا إنه 'دونما إشراف قضائي ومشورة قضائية مستقلة، لن يبقى غير مبدأ حكم الأغلبية، ولا شيء عداه. أي ديمقراطية بالاسم دون الجوهر'.
وقد أدى هذا الاحتمال بأحد أهم زعماء اليهود في أمريكا، وهو آبي فوكسمان المدير السابق لعصبة مكافحة التشويه، إلى أن يقول لصحيفة جيروزاليم بوست 'لو لم تعد إسرائيل ديمقراطية منفتحة، لن يكون بوسعي أن أدعمها' مضيفا قوله 'إذا أصبحت إسرائيل دولة دينية أصولية، دولة قومية ثيوقراطية، ستقطع ما بين إسرائيل و70% من يهود العالم'.
يضاف إلى كل هذا التعقيد حقيقة مؤسفة هي أنه في مقابل كل عربي إسرائيلي ناجح في إسرائيل الحديثة، ثمة عربي إسرائيلي منبوذ. ويصدق هذا بصفة خاصة على المجتمعات البدوية في الجنوب التي عانت البنية الأساسية والمدارس العامة فيها من إهمال قديم.
على مدار سنين كثيرة للغاية، عجزت الحكومة عن تطوير وتقسيم مناطق عرب إسرائيل، فلم تنشأ مدينة عربية جديدة، بالمقارنة مع عشرات المجتمعات اليهودية الجديدة. ولذلك، فالبناء غير المشروع سائد في كل مكان. أضف إلى ذلك أن الحكومة تبنت في ما يبدو الرأي القائل بأن قتل العرب للعرب في بلداتهم ـ بسبب قضايا الشرف أو أي نزاعات أخرى ـ هو مسألة داخلية، فبقيت المجتمعات العربية بحضور شرطي ضئيل للغاية.
نتيجة لذلك، في الجنوب، حيث بعض أفقر المجتمعات القبلية العربية البدوية، يتم تهريب السلاح من الأردن ويتاح بسهولة وتدير العصابات الإجرامية خطط حماية لابتزاز المزارعين الإسرائيليين، وتتعرض البنات اليهوديات الإسرائيليات للتحرش في المراكز التجارية. واغتيال المواطنين العرب على أيدي المجرمين العرب وحالات إطلاق النار أخبار شبه أسبوعية.
لكن عرب إسرائيل أولئك لديهم صحبة في قاع السلم التعليمي هنا. ذلك أن عددا ضخما من اليهود الأورثوذكس المتطرفين فقراء أيضا وعاجزون عن الإسهام في اقتصاد إسرائيل المتقدم، لأن حاخاماتهم يرفضون السماح لهم بتلقي التعليم المناسب في الرياضيات والعلوم والإنجليزية، ولا يسمحون بغير دراسة التوراة.
ولذلك، حسب تفسير دان بن ديفيد ـ أستاذ الاقتصاد بجامعة تل أبيب ورئيس معهد شوريش للبحوث الاجتماعية الاقتصادية ـ فإن نصف سكان إسرائيل ـ وأغلبهم من اليهود الأورثوذكس المتطرفين والعرب ـ فقراء وقليلو الإنتاج بما يعجزهم عن دفع الضرائب.
يقول بن ديفيد في موقعه على الإنترنت 'في عام 2020، كان 22% من طلاب الصف الأول من الإسرائيليين العرب. لم تكن أحدث نتائج الاختبارات الدولية لهذه المجموعة في الرياضيات والعلوم والقراءة (PISA 2018) منخفضة وحسب: بل لقد أحرز الإسرائيليون العرب أقل من تسع من الدول العشر ذات الأغلبية الإسلامية التي شاركت في الامتحان'.
في الوقت نفسه، 21% من طلبة الصف الأول في إسرائيل هم من اليهود الأورثوذكس المتطرفين، وتنشأ الأغلبية الساحقة منهم دون تلقي تعليم كاف. ونسبة الأورثوذكس المتطرفين من سكان البلد 'تضاعفت تقريبا من جيل إلى جيل'.
قرابة 90% من إجمالي ضريبة الدخل التي حصلتها الحكومة الإسرائيلية في 2017 جاءت من 20% من السكان، وهم في الغالب علمانيون تلقوا تعليما علمانيا. وهذا أيضا هو الوسط الذي يحمل كثيرا من عبء الخدمة العسكرية.
برغم كل هذه الأخطار، فمن أجل الفوز بدعم الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة لحكومته، وافق نتانياهو على دعم كبير للتمويل العام للمؤسسات الأرثوذكسية المتطرفة التي لا تدرِّس المواد العلمانية الأساسية مثل الرياضيات والإنجليزية وتقليل جميع مبادرات المساواة في عبء الخدمة العسكرية.
باختصار، في ضوء تنامي سلطة الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة في حكومة نتانياهو، فإن بعض أقسام المجتمع الإسرائيلي الأقل إنتاجية اقتصادية ستكون هي التي تفرض على الأقسام الأكثر إنتاجية طريقة الحياة في كثير وكثير من الأوساط.
وفي حال مضي هذا إلى أقاصيه، كما يقول بن ديفيد 'فستجدون أن نسبة متزايدة من المتعلمين المهرة ـ الذين نحتاج إليهم بشدة ـ تقرر عدم البقاء هنا'.
وأخيرا، هناك قضية فلسطينيي الضفة الغربية في قاع السلطة وعلاقاتهم ببعضهم بعضا وباليهود الإسرائيليين. وهذا أيضا يجري تغييره.
من الأسباب التي مكَّنت كثيرا من الإسرائيليين من تجاهل الضفة الغربية وإن يكن فيها قرابة ثلاثة ملايين فلسطيني مقيمين في ظل الاحتلال أن السلطة الفلسطينية في ظل حكم محمود عباس هناك تتلقى التمويل من مانحين خارجيين ومن عائدات الضرائب الفلسطينية، ولأن الجهات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تتعاون مع جهات الأمن الإسرائيلية لمنع الهجمات الفلسطينية عن المستوطنين الإسرائيليين وداخل إسرائيل.
وذلك كله ينهار. عباس طاعن في السن، احتفل أخيرا بعيد ميلاده السابع والثمانين. والجهات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تتآكل، وأخيرا خلع بعض أفرادها الزي الموحد وانضموا إلى جماعات المقاومة لإسرائيل. ونتيجة لذلك تتناقص قدرة إسرائيل على حفظ السيطرة الأمنية في الضفة الغربية بتكلفة زهيدة نسبيا. وتضطر وحدات عسكرية الآن كل ليلة تقريبا إلى إطلاق الرصاص لتشق طريقها للدخول والخروج إلى ومن بلدات مثل جنين ونابلس للقبض على فلسطينيين أو لقتل من تزعم إسرائيل أنهم متورطون في التخطيط لهجمات على يهود أو تنفيذها.
في الوقت نفسه، تنتشر في كل مكان البنادق المهربة من الأردن أو مصر أو لبنان أو المباعة في الأسواق السوداء للفلسطينيين بعد سرقتها من قواعد الجيش الإسرائيلي. وعلى غداء في رام الله قال لي رجل أعمال فلسطيني إن 'بوسعي أن أشتري لك بندقية الآن وذلك أسهل من استجلاب سباك لإصلاح شيء ما'.
ومثلما أوضح لي خبير استطلاعات الرأي الفلسطيني خليل شيكاكي فإن هناك 'تغيرا كبيرا في المجتمع الفلسطيني خلال السنوات الخمس الأخيرة بين البالغين من العمر ما بين 15 و25 عاما ـ تطرف لم نر له مثيلا من قبل. هم مختلفون تمام الاختلاف عن آبائهم وأجدادهم. لم تعد لديهم الثقة في السلطة الفلسطينية. يرونهم متواطئين، ويؤمنون أن اللغة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل هي لغة القوة'.
هذا الجيل الشاب، غير المتدين، يعيش على وسائل الإعلام الاجتماعي وبخاصة تيكتوك. ينشرون الفيديوهات للقوات الإسرائيلية في ممارساتها القاسية أو في قتلها أحيانا للفلسطينيين، فيغضبون في خمس عشرة ثانية، ثم يخرجون أفرادا أو جماعات صغيرة لمهاجمة إسرائيليّ. وهم كثيرا ما يرتبون مسبقا لتسجيل قيامهم بذلك بالفيديو. فيموت بهذه الطريقة فلسطينيان أو ثلاثة عدة مرات في الشهر، لتتضخم مكتبة الإنترنت بمزيد من الفيديوهات الباعثة على الغضب.
في الوقت نفسه، يظهر بين الفلسطينيين اتجاه مضاد مذهل. إذ يعمل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الآن في إسرائيل كل يوم، وكثير من أنشطتهم الاقتصادية تعتمد على الاتصال بالأسواق الإسرائيلية. ويتردد أن من الغزاويين عددا أكبر من ذي قبل يدرسون العبرية في فصول تقام في غزة.
وصف لي استشاري الأعمال المقيم في رام الله سام بهور الأمر على النحو التالي: 'كل يوم يرى المزيد والمزيد من الفلسطينيين، المزيد والمزيد من العدوان الإسرائيلي، والمزيد والمزيد من المستوطنات، ويقولون لأنفسهم: ربما حان الوقت لأن يقول جيلنا للإسرائيليين ’مبارك عليكم، لقد انتصرتم. حصلتم على القدس الشرقية وعلى الماء كله، وعلى الأرض كلها، وهل تعرفون علام أيضا حصلتم؟ علينا. والآن أخبروني من أين أحصل على بطاقة تأميني الصحي الإسرائيلية؟’ وهذا أمر بوسعنا تماما أن نفعله'.
باختصار، أنا لم أزر إسرائيل منذ سنة 2019، وقد أذهلني انفجار ناطحات السحاب التي رأيتها في تل أبيب، وقد أقيمت جميعا بإبداع بشري في العلوم والطب والزراعة والتكنولوجيا، لا في الوقود الحفري. فلدى إسرائيل مفاخر كثيرة ينبغي أن تحافظ عليها.
لكن الحفاظ على ازدهارها واستقرارها، وهي تنحرف سياسيا إلى أقصى اليمين، سيكون أصعب وأصعب. لأن هذا يقتضي حكمة واعتدالا لا ينشدان إثبات 'من هم ملاك الأرض' وإنما ينشدان إتاحة هذا المجتمع المتعدد للجميع.
ولإسرائيل مثال في سياسي إسرائيلي يعرفه نتانياهو جيدا. فمن جميع الحوارات التي أجريتها خلال هذه الرحلة فإن الحوار الأبقى معي هو حواري مع منصور عباس الذي يمثل الحزب الإسلامي العربي الإسرائيلي الذي أصبح أول حزب عربي إسرائيل يشارك شراكة كاملة في ائتلاف حاكم ذي قيادة يهودية إسرائيلية، أي حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في يونيو 2021 برئاسة يائير لابيد ونفتالي بينيت، والتي أطاح بها نتانياهو للتو.
أعلن منصور عباس صراحة قوله 'إن دولة إسرائيل ولدت دولة يهودية وسوف تبقى كذلك'.
قبل أن يشكل لابيد وبينيت حكومتهما، حاول نتانياهو أن يحصل على دعم عباس لائتلافه، لكن شركاءه الوطنيين المتطرفين قالوا إنهم لم يعملوا مع مسلم من عرب إسرائيل في مجلس وزاري واحد. فاتخذ نتانياهو في الانتخابات الأخيرة مسارا معاكسا واستعمل حضور عباس في حكومة بينيت-لابيد لتأجيج مشاعر اليهود الإسرائيليين المعادية للعرب، فساعده ذلك على الفوز في صناديق الاقتراع.
قال لي عباس 'لقد سألت بيبي ’لماذا تتهمني بأنني من الإخوان المسلمين وإرهابي؟’ وقال إن نتانياهو أخبره بأن هذه هي السياسة، وأنه بحاجة إلى أصوات'.
عباس مراقب دءوب للمشهد في إسرائيل. وقد أوضح لي أنه نشأ منتميا إلى الأقلية المسلمة في قرية عربية أغلبيتها من الدروز المسيحيين فعرف مبكرا أن في إسرائيل 'تنوعا لا بين العرب واليهود فقط، بل وداخل القطاع العربي والقطاع اليهودي أيضا'.
ونتيجة ذلك كما قال أنه بات يؤمن أن 'لدينا جميعا الكثير من الهويات، الدينية والوطنية. ويمكننا العيش معا بهوياتنا إذا ما حاولنا. وهذا ما أسميه ’النهج المدني’ القائم على القيم...لقد درست العلوم السياسية في جامعة حيفا. وتعلمت مصطلح ’كيفية إدارة الصراع’. لكن هناك مصطلح آخر هو ’كيفية إدارة الشراكة’. وأنا أفضل الصراع من داخل الشراكة عليه من الخارج'.
وأضاف 'لذلك أمارس الشراكة، راجيا أن يحدث تغيير'.
لا تخطر لي طريقة أفضل لإنهاء مقالة عن التعقيد الحقيقي في الوضع بإسرائيل من الاستشهاد بإسلامي فلسطيني إسرائيلي يكلم اليهود الإسرائيليين عن روح الشراكة اللازمة للحفاظ على إسرائيل وطنا يهوديا وديمقراطيا لجميع المواطنين، سواء أكان دولتين أم دولة واحدة.
• توماس فريدمان كاتب مقال رأي في الشأن الخارجي في نيويورك تايمز ومؤلف كتاب 'الطريق من بيروت إلى القدس'.
** خدمة نيويورك تايمز ترجمة خاصة بجريدة عمان.
أسبوع من العمل الصحفي في إسرائيل والضفة الغربية ترك في نفسي شعورا بأن احتمال حل الدولتين قد تبدد وتلاشى. لكن أحدا لا يريد أن يعلن رسميا أنه مات ودفن، وذلك لأن استبعاده قطعيا سيفضي إلى تداعيات هائلة. لذلك يتظاهر الدبلوماسيون والساسة والمنظمات الليبرالية اليهودية أنه لا يزال حيا وإن يكن ضعيف النبض. وأنا أحذو حذوهم. ولكننا نعلم جميعا أن خيار الدولتين ليس نزيل مستشفى، وإنما هو نزيل دار إيواء، وما لإنقاذه الآن من سبيل إلا معجزة.
غير أن محض غياب مفهوم الدولتين لا يعني، للأسف، أن يصبح على الفور حل الدولتين ـ إذ تسيطر إسرائيل منفردة على الضفة الغربية والقدس وإسرائيل ما قبل 1967 إلى الأبد ـ هو الأساس اليسير. ليس الأمر كذلك مطلقا. فكلما ازداد المرء فحصا دقيقا لطريقة عيش اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين معا في ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، ازداد إدراكا لثلاثة أمور مهمة:
أولا، يدرك المرء أنه على الرغم من الانفجارات العرَضية، فإن هذه المجتمعات شديدة التنوع، كثيرة التخاصم، عميقة التضافر، بقيت في حالة توازن تقريبي منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، وذلك بفضل مزيج من القمع الأمني الإسرائيلي، وأعمال للسلطة الفلسطينية، والنمو الاقتصادي، وجملة كاملة من التنازلات البرجماتية وضبط الطرفين للنفس على أساس يومي.
لكن المرء يدرك أيضا أن جملة متنوعة من التغيرات الديموجرافية والتكنولوجية والسياسية والاجتماعية الجارية منذ وقت طويل تبلغ الآن نقاط تأثير تؤدي إلى إجهاد جميع التوازنات بين اليهود واليهود، واليهود وعرب إسرائيل، واليهود والفلسطينيين، والفلسطينيين والفلسطينيين التي حافظت على استقرار معقول في هذا المكان.
وإنني أشير من خلال ذلك إلى أفول عملية السلام واحتمالات حل الدولتين، وتوسع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وانهيار السلطة الفلسطينية، وانتشار تيكتوك وغيره من وسائل الإعلام الاجتماعي. ففي العام الماضي وحده، وفقا لمنظمة بيتسليم الإسرائيلية لحقوق الإنسان، مات قرابة عشرين إسرائيليا وأكثر من 150 فلسطينيا في حوادث عنف.
لا أحسب أن يوما مر في رحلتي تلك دون أن أقرأ أو أشاهد تيكتوك أو فيديو آخر لفلسطيني لقي مصرعه على أيدي جنود إسرائيليين أو إسرائيليين تعرضوا لاعتداء أو هجوم بالسكاكين على أيدي أفراد فلسطينيين. هذه الأفلام الإبحاية الصراعية جديدة من نوعها، وهي واسعة الانتشار، وذات فعالية هائلة في غرس الكراهية من خلال لدغات قصيرة لا تطول عن خمس عشرة ثانية تجعل الجميع في حالة خوف وغضب.
وكل ذلك سبق الانتصار الضئيل الذي حققه بنيامين نتانياهو في انتخابات إسرائيل الأخيرة، والذي أفضى إلى ما سيكون أكثر الائتلافات الحاكمة تطرفا دينيا ووطنيا في تاريخ البلد. (والقاعدة عندي هي أن أي حزب يضيف بادئة ultra [أي المتطرف أو المغالي] إلى اسمه لا يمثل بادرة خير هنا).
كل هذا يفضي إلى إدراك أن إسرائيل سوف تحتاج إلى كثير من ضبط النفس من أجل الحفاظ على الاستقرار. وجميع الأطراف كذلك، لكن إسرائيل هي الحاكمة الفعالة على كل ذلك العالم. ودونما ضبط للنفس، لن تكون النتيجة حل الدولة الواحدة المستقرة، بما فيها من فسيفساء اليهود الإسرائيليين والمواطنين الفلسطينيين الإسرائيليين وفلسطينيي الضفة الغربية المتعايشين جميعا في تناغم. ودونما ضبط للنفس، سيكون بوسع نتانياهو وشركائه الائتلافيين أن يدفنوا حل الدولتين وحل الدولة الواحدة في نفس المقبرة.
ولن يتركنا هذا إلا لحل الفوضى الكبيرة الواحدة.
وإذا ما سألتموني، فهذه هي النتيجة الراجحة ـ فوضى تامة ستترك إسرائيل وهي لم تعد أساس الاستقرار في المنطقة ولحليفها الأمريكي، وإنما ستتركها وقد أصبحت مرجلا للاضطراب ومصدر قلق للحكومة الأمريكية.
ما سبب هذا القلق؟ سببه أن شركاء نتانياهو الجدد يمثلون النقيض التام لضبط النفس. إذ أن أربعة من زعماء أحزاب الائتلاف الحكومي القادم الخمسة ـ وهم نتانياهو وأرييه درعي وبتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير ـ إما تم اعتقالهم أو اتهامهم أو إدانتهم أو حبسهم بسبب اتهامات بالفساد أو التحريض على العنصرية. وهؤلاء ليسوا بالأشخاص المعروف عنهم التوقف عند الإشارة الحمراء.
فضلا عن أنه من المتوقع أن يعلن نتانياهو تعيين بن جيفير الوطني المتطرف المعادي للعرب، وزعيم حزب (القوة اليهودية) وزيرا للأمن الوطني. وهذا المنصب لا يعطي بن جيفير الإشراف فقط على الشرطة الإسرائيلية وإنما على جهات تنفيذ القانون أيضا، ومنها شرطة الحدود شديدة النشاط في الضفة الغربية المحتلة. ليكون من السهل للغاية أن يستعمل بن جيفير هذه الجهات سلاحا ضد عرب إسرائيل والسكان الفلسطينيين.
من المتوقع أيضا أن يقوم نتانياهو بتعيين سموتريتش وزيرا للمالية ويعتزم أيضا أن يعطيه وحزبه ـ (الصهيونية الدينية) ـ مسؤولية الإدارة المدنية التي كانت دائما تابعة لوزارة الدفاع. والإدارة المدنية لها سلطة توسيع المستوطنات وتقييد الحياة اليومية الفلسطينية وتفعيل القانون بما في ذلك من هدم للمنازل.
سموتريتش وبن جيفير متطرفان دينيا يروجان الحضور اليهودي في (جبل الهيكل)، وهو أيضا موقع مقدس لدى المسلمين. والعمل الشرطي في (جبل الهيكل) تقوم به الشرطة الإسرائيلية التي يوشك أن يشرف عليها بن جيفير. فهمتم الوضع؟
وما درج نتانياهو على قوله لمسؤولين ويهود امريكيين وحلفاء من عرب إسرائيل هو بالدرجة الأساسية أنه على الرغم من تكليفه ثعالب بتولي مسؤولية بيوت الدجاج وتوزيعه الثقاب والوقود على الممسوسين بإضرام الحرائق، فإن سلطته وحنكته سوف تمكِّنانه من إرجاع الضوابط المؤسسية وإبعاد شركائه المتطرفين عن المخاطرة بوضع إسرائيل على شفا هاوية.
عموما سوف نرى. لكنني شخصيا أستبعد ذلك. في الوقت نفسه، اسمحوا لي أن أصطحبكم في جولة سريعة في الأفق السياسي وأريكم كم التوازنات الذي يجري إجهاده ولماذا تحتاج إسرائيل احتياجا ماسا إلى أكثر ما يمكنها إنتاجه من الحكومات برجماتيةً وضبطا للنفس، لكنها لا تنال إلا النقيض الصارخ.
*
كانت إحدى محطاتي الأولى في هذه الرحلة إلى الوسط اليهودي في قلب منطقة الخليل الفلسطينية، قرب مقبرة إبراهيم وإسحق ويعقوب [عليهم السلام]، وهي منطقة مقدسة لدى اليهود ولدى المسلمين. قبل أيام قليلة من زيارتي، وقعت مواجهات خلافية عديدة هناك بن جنود إسرائيليين متفقين بوضوح مع الحكومة اليمينية الجديدة، ويهود إسرائيليين يساريين سافروا إلى الخليل للتضامن مع الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي حسبما أفادت صحيفة ذي تايمز أوف إسرائيل.
في مواجهة ـ صورت بالفيديو ـ تعامل جندي مع متظاهر يهودي ولكمه في وجهه. وفي فيديو آخر يقول جندي وهو يواجه متظاهرين آخرين إن 'بن جيفير سيضبط الأمور في هذا المكان. نعم. لقد خسرتم أيها القوم... واللعبة انتهت'.
ذلك الجندي المتباهي، حسبما أضافت الصحيفة، 'كان يرتدي رقعة على ظهر صدريته العسكرية كتب عليها ’طلقة واحدة. قتلة واحدة. ولا ندم. والقرار لي’. والرقع المغايرة لشعار الوحدة العسكرية أو العلم الإسرائيلي تعد مخالفة للقواعد العسكرية'.
لكن ما حدث بعد ذلك هو موضع تعقيد القصة بين اليهود واليهود. فقد حكم الجيش الإسرائيلي على الجندي الذي سخر من المتظاهرين بالحبس عشرة أيام في سجن عسكري. وقال رئيس أركان الجيش الفريق عفيف كوتشافي إن الجنود الذين صوروا الفيديو قد تصرفوا 'بما يخالف قيم الجيش الإسرائيلي'.
دفع هذا بن جيفير إلى انتقاد الجيش لتوجيهه 'رسالة مؤذية' إلى الجنود. وقال في تغريدة 'علينا ألا نسمح للفوضويين الذين يشوهوننا بالانتصار إلى ما لا نهاية'. فأصدر كوتشافي بيانا قال فيه 'إننا لن نسمح لأي سياسي من اليمين أو اليسار بالتدخل في قرارات القيادة أو باستخدام الجيش للترويج لأجندة سياسية'.
وسط هذا كله ـ ولست أختلق هذا ـ أعاد يائير ابن نتانياهو نشر تغريدة تدعو كوتشافي إلى أن يضع 'رسالته المشينة برسميتها الزائفة على مؤخرته'. ولزم نتانياهو الأب الصمت لبضعة أيام قبل أن يصدر إعلانا يدعم فيه الجيش.
جال بي في الخليل متحدث باسم الوسط اليهودي فيها، يدعى ييشاي فليشر، بعد أيام من الواقعة. عبر عن ارتياحه بمجيء اليهود المتشددين من أمثال بن جيفير إلى السلطة، ليحلوا محل من اعتبرهم الضعفاء. أو على حد تعبيره: 'إسرائيل التي عرفناها رجعت، أي أن الدولة اليهودية الصلبة التي تحمي الأقلية العرقية اليهودية في هذه المنطقة قد رجعت'.
وليس بوسعي أن أتخيل كيف لهذه العلاقة الجديدة بين بن جيفير، والجيش الإسرائيلي، والشرطة الإسرائيلية، وكل من الناشطين اليهود والفلسطينيين أن تحقق التوازن.
بعد ذلك، فكروا في التعقيد الراهن في العلاقات بين اليهود الإسرائيليين ومواطني إسرائيل من العرب الفلسطينيين. وابدأوا بهذا: في 2019، تم تعيين العربي الإسرائيلي سامر حاج يحيى رئيسا لبنك لويمي وهو أكبر بنك إسرائيلي من حيث القيمة السوقية. نعم، ما قرأتموه صحيح. رئيس أهم بنك في إسرائيل هو من عرب إسرائيل، وحاصل على دكتوراه في الاقتصاد من معهد مساتشوستس للتكنولوجيا، وشهادات في المحاسبة والقانون من الجامعة العبرية.
يبدو لي هذا مذهلا للغاية، وهو بحق شهادة لديمقراطية إسرائيل. يمثل عرب إسرائيل 21% من سكان إسرائيل، وقرابة 20% من أطبائها، و25% من ممرضاتها وقرابة نصف صيادلتها، وفي معهد تكنيون ـ أي معهد مساتشوستس للتكنولوجيا الإسرائيلي ـ أكثر من 20% من الطلبة من عرب إسرائيل.
كل هذه أخبار طيبة. لكن إليكم مكمن المشكلة. مع التحاق المزيد من عرب إسرائيل بالطبقتين الوسطى والعليا اقتصاديا، ينتقل المزيد منهم من بلداتهم وأحيائهم العربية التقليدية إلى الأماكن الخاضعة للسيطرة اليهودية مثل تل أبيب وهرزليا، ذات المستوى الأفضل كثيرا في المدارس والطرق والإسكان. ولكن هذا أيضا مصدر توتر جديد، إذ يلتقي المجتمعان بوتيرة أكبر في سياقات أكثر.
فمثلا، يشيع الآن بين اليهود سماع الحديث بالعربية في صيدليات أحيائهم أو متاجرها. وقبل أسبوعين اقترحت إحدى نجمات الإنترت اليهود [ممن يعرفون بالمؤثرين أو الإنفلونسرز] على متابعيها أن يخرجوا من أي متجر في إسرائيل إذا وجدوا عماله يكلمون بعضهم بعضا بالعربية بدلا من العبرية.
مواطنو إسرائيل الفلسطينيون 'يزادادون اندماجا، وعملا، وإسهاما ومطالبة' حسبما أوضح لي ثابت أبو راس المدير التنفيذي لمنظمة 'الاتفاقات الأبراهيمية' غير الربحية الداعمة للتفاهم اليهودي العربي ومقرها اللد. قال إن عرب إسرائيل 'في كل مكان الآن... ثمة عشرات الآلاف من نقاط الالتقاء' بين اليهود الإسرائيليين والعرب 'ويمكن أن تصبح نقاط انفجار أو تنوع'.
في مايو 2021 ـ خلال مصادمة عسكرية أخرى بين إسرائيل وغزة الخاضعة لسيطرة حماس اندلعت عقب مظاهرات يهودية وعربية في القدس واستيلاء الشرطة الإسرائيلية على (جبل الهيكل) ـ تفجرت هذه التوترات. قام السكان العرب في مدن مختلطة بين اليهود والعرب، مثل اللد وعكا، بمهاجمة اليهود وحرق ممتلكات يهودية، منها معابد ليهودية.
ردا على ذلك، قاتل متطرفون يمينيون يهود كلا من السكان العرب والشرطة الإسرائيلية. وفي ضاحية بيت يم بتل أبيب، اجتذبت جماعة من المتطرفين اليهود اليمينيين سائقا عربيا من سيارته وأوسعوه ضربا مبرحا.
من المؤكد أن هذا العنف، وبخاصة إحراق المعابد في دولة يهودية، قد دفع عددا غير قليل من يهود إسرائيل من يمين الوسط إلى اليمين الوطني المتطرف، بما أعطى لبن جيفير السلطة التي هو فيها الآن.
ومع ذلك حينما التقيت بالعديد من زملاء أبي راس من عرب إسرائيل، أوضحوا جميعا ـ على حد تعبيره ـ أن 'ازدواج الهوية يتحول إلى وضع طبيعي ـ ’أنا فلسطيني أعيش في إسرائيل. هذه دولتي ووطني أيضا. عندي إحساس بالانتماء والملكية’'.
بعبارة أخرى، هذا الاندماج السريع لعرب إسرائيل ـ وليس مظاهراتهم العنيفة المتواترة فقط ـ يدفع أيضا إلى صعود اليمين الشوفيني في إسرائيل. وذلك هو السبب في أن دعايات حملة بن جيفير كانت شديدة الفعالية في حشد مؤيديه الوطنيين المتطرفين ومثبطة للغاية لعرب إسرائيل. ولم تحمل تلك الدعايات غير صورته وسؤال: 'من مُلاك الأرض هنا؟'
يزداد ذلك السؤال حدة من يوم ليوم. ولو نظرتم إلى إسرائيل والضفة الغربية وغزة معا، لرأيتم أن 'الشعب اليهوي يشكل أقل من 47% من كل المقيمين في غرب نهر الأردن'، وقد ذكرت تايمز أوف إسرائيل في أغسطس ـ نقلا عن عالم سكاني إسرائيلي مرموق ـ بحسب وصف الصحيفة 'أن ذلك خطر ديمقراطي ينزلق إليه البلد وهو أن يتحول إلى أقلية حاكمة في المنطقة'.
لذلك، سيصبح بقاء يهود إسرائيل (ملاكا للأرض) أمرا يزداد صعوبة. ولأن الأحزاب الوطنية المتطرفة في إسرائيل ترفض اقتسام السلطة مع عرب إسرائيل أو فلسطينيي الضفة الغربية فإنني أزداد إيمانا بأن البديل لحل الدولتين لن يكون حل الدولة الواحدة المستقرة، وإنما هو حل الفوضى الكبيرة الواحدة.
لكن ثمة عائق مؤسسي كبير لنوايا بن جيفير وسموتريتش من التحول إلى ملاك الأرض الوحيدين. ذلك هو المحكمة العليا الإسرائيلية ونواب العموم المستقلون الذين طالما حازوا مكانة واحتراما كبيرين في العالم كله، بقدرتهم على الحد من تجاوزات الحكومة. في سياق سعيهم إلى فرض الأجندات السياسية اليهودية الوطنية المتطرفة والأجندات الدينية اليهودية الأرثوذكسية المتشددة على المجتمعات العربية واليهودية العلمانية الأخرى، يحتاج أولئك الوطنيون المتطرفون إلى تقليص سلطة المحاكم. وهنا تتلاقى مصالحهم ومصالح نتانياهو الذي يريد أن يوقف محاكمته الجارية في اتهامات بالفساد.
ذلك هو السبب في توقع أن تصوت الحكومة القادمة على قانون جديد يسمح للأغلبية من 120 عضوا في البرمان بتجاوز أحكام القضاء، بما يعطي جناح الحكم التنفيذي يدا عليا على القضاء.
أدى هذا الاحتمال إلى إعلان النائب العام الإسرائيلي جالي بهاراف ميارا يوم الخميس قائلا إنه 'دونما إشراف قضائي ومشورة قضائية مستقلة، لن يبقى غير مبدأ حكم الأغلبية، ولا شيء عداه. أي ديمقراطية بالاسم دون الجوهر'.
وقد أدى هذا الاحتمال بأحد أهم زعماء اليهود في أمريكا، وهو آبي فوكسمان المدير السابق لعصبة مكافحة التشويه، إلى أن يقول لصحيفة جيروزاليم بوست 'لو لم تعد إسرائيل ديمقراطية منفتحة، لن يكون بوسعي أن أدعمها' مضيفا قوله 'إذا أصبحت إسرائيل دولة دينية أصولية، دولة قومية ثيوقراطية، ستقطع ما بين إسرائيل و70% من يهود العالم'.
يضاف إلى كل هذا التعقيد حقيقة مؤسفة هي أنه في مقابل كل عربي إسرائيلي ناجح في إسرائيل الحديثة، ثمة عربي إسرائيلي منبوذ. ويصدق هذا بصفة خاصة على المجتمعات البدوية في الجنوب التي عانت البنية الأساسية والمدارس العامة فيها من إهمال قديم.
على مدار سنين كثيرة للغاية، عجزت الحكومة عن تطوير وتقسيم مناطق عرب إسرائيل، فلم تنشأ مدينة عربية جديدة، بالمقارنة مع عشرات المجتمعات اليهودية الجديدة. ولذلك، فالبناء غير المشروع سائد في كل مكان. أضف إلى ذلك أن الحكومة تبنت في ما يبدو الرأي القائل بأن قتل العرب للعرب في بلداتهم ـ بسبب قضايا الشرف أو أي نزاعات أخرى ـ هو مسألة داخلية، فبقيت المجتمعات العربية بحضور شرطي ضئيل للغاية.
نتيجة لذلك، في الجنوب، حيث بعض أفقر المجتمعات القبلية العربية البدوية، يتم تهريب السلاح من الأردن ويتاح بسهولة وتدير العصابات الإجرامية خطط حماية لابتزاز المزارعين الإسرائيليين، وتتعرض البنات اليهوديات الإسرائيليات للتحرش في المراكز التجارية. واغتيال المواطنين العرب على أيدي المجرمين العرب وحالات إطلاق النار أخبار شبه أسبوعية.
لكن عرب إسرائيل أولئك لديهم صحبة في قاع السلم التعليمي هنا. ذلك أن عددا ضخما من اليهود الأورثوذكس المتطرفين فقراء أيضا وعاجزون عن الإسهام في اقتصاد إسرائيل المتقدم، لأن حاخاماتهم يرفضون السماح لهم بتلقي التعليم المناسب في الرياضيات والعلوم والإنجليزية، ولا يسمحون بغير دراسة التوراة.
ولذلك، حسب تفسير دان بن ديفيد ـ أستاذ الاقتصاد بجامعة تل أبيب ورئيس معهد شوريش للبحوث الاجتماعية الاقتصادية ـ فإن نصف سكان إسرائيل ـ وأغلبهم من اليهود الأورثوذكس المتطرفين والعرب ـ فقراء وقليلو الإنتاج بما يعجزهم عن دفع الضرائب.
يقول بن ديفيد في موقعه على الإنترنت 'في عام 2020، كان 22% من طلاب الصف الأول من الإسرائيليين العرب. لم تكن أحدث نتائج الاختبارات الدولية لهذه المجموعة في الرياضيات والعلوم والقراءة (PISA 2018) منخفضة وحسب: بل لقد أحرز الإسرائيليون العرب أقل من تسع من الدول العشر ذات الأغلبية الإسلامية التي شاركت في الامتحان'.
في الوقت نفسه، 21% من طلبة الصف الأول في إسرائيل هم من اليهود الأورثوذكس المتطرفين، وتنشأ الأغلبية الساحقة منهم دون تلقي تعليم كاف. ونسبة الأورثوذكس المتطرفين من سكان البلد 'تضاعفت تقريبا من جيل إلى جيل'.
قرابة 90% من إجمالي ضريبة الدخل التي حصلتها الحكومة الإسرائيلية في 2017 جاءت من 20% من السكان، وهم في الغالب علمانيون تلقوا تعليما علمانيا. وهذا أيضا هو الوسط الذي يحمل كثيرا من عبء الخدمة العسكرية.
برغم كل هذه الأخطار، فمن أجل الفوز بدعم الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة لحكومته، وافق نتانياهو على دعم كبير للتمويل العام للمؤسسات الأرثوذكسية المتطرفة التي لا تدرِّس المواد العلمانية الأساسية مثل الرياضيات والإنجليزية وتقليل جميع مبادرات المساواة في عبء الخدمة العسكرية.
باختصار، في ضوء تنامي سلطة الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة في حكومة نتانياهو، فإن بعض أقسام المجتمع الإسرائيلي الأقل إنتاجية اقتصادية ستكون هي التي تفرض على الأقسام الأكثر إنتاجية طريقة الحياة في كثير وكثير من الأوساط.
وفي حال مضي هذا إلى أقاصيه، كما يقول بن ديفيد 'فستجدون أن نسبة متزايدة من المتعلمين المهرة ـ الذين نحتاج إليهم بشدة ـ تقرر عدم البقاء هنا'.
وأخيرا، هناك قضية فلسطينيي الضفة الغربية في قاع السلطة وعلاقاتهم ببعضهم بعضا وباليهود الإسرائيليين. وهذا أيضا يجري تغييره.
من الأسباب التي مكَّنت كثيرا من الإسرائيليين من تجاهل الضفة الغربية وإن يكن فيها قرابة ثلاثة ملايين فلسطيني مقيمين في ظل الاحتلال أن السلطة الفلسطينية في ظل حكم محمود عباس هناك تتلقى التمويل من مانحين خارجيين ومن عائدات الضرائب الفلسطينية، ولأن الجهات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تتعاون مع جهات الأمن الإسرائيلية لمنع الهجمات الفلسطينية عن المستوطنين الإسرائيليين وداخل إسرائيل.
وذلك كله ينهار. عباس طاعن في السن، احتفل أخيرا بعيد ميلاده السابع والثمانين. والجهات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تتآكل، وأخيرا خلع بعض أفرادها الزي الموحد وانضموا إلى جماعات المقاومة لإسرائيل. ونتيجة لذلك تتناقص قدرة إسرائيل على حفظ السيطرة الأمنية في الضفة الغربية بتكلفة زهيدة نسبيا. وتضطر وحدات عسكرية الآن كل ليلة تقريبا إلى إطلاق الرصاص لتشق طريقها للدخول والخروج إلى ومن بلدات مثل جنين ونابلس للقبض على فلسطينيين أو لقتل من تزعم إسرائيل أنهم متورطون في التخطيط لهجمات على يهود أو تنفيذها.
في الوقت نفسه، تنتشر في كل مكان البنادق المهربة من الأردن أو مصر أو لبنان أو المباعة في الأسواق السوداء للفلسطينيين بعد سرقتها من قواعد الجيش الإسرائيلي. وعلى غداء في رام الله قال لي رجل أعمال فلسطيني إن 'بوسعي أن أشتري لك بندقية الآن وذلك أسهل من استجلاب سباك لإصلاح شيء ما'.
ومثلما أوضح لي خبير استطلاعات الرأي الفلسطيني خليل شيكاكي فإن هناك 'تغيرا كبيرا في المجتمع الفلسطيني خلال السنوات الخمس الأخيرة بين البالغين من العمر ما بين 15 و25 عاما ـ تطرف لم نر له مثيلا من قبل. هم مختلفون تمام الاختلاف عن آبائهم وأجدادهم. لم تعد لديهم الثقة في السلطة الفلسطينية. يرونهم متواطئين، ويؤمنون أن اللغة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل هي لغة القوة'.
هذا الجيل الشاب، غير المتدين، يعيش على وسائل الإعلام الاجتماعي وبخاصة تيكتوك. ينشرون الفيديوهات للقوات الإسرائيلية في ممارساتها القاسية أو في قتلها أحيانا للفلسطينيين، فيغضبون في خمس عشرة ثانية، ثم يخرجون أفرادا أو جماعات صغيرة لمهاجمة إسرائيليّ. وهم كثيرا ما يرتبون مسبقا لتسجيل قيامهم بذلك بالفيديو. فيموت بهذه الطريقة فلسطينيان أو ثلاثة عدة مرات في الشهر، لتتضخم مكتبة الإنترنت بمزيد من الفيديوهات الباعثة على الغضب.
في الوقت نفسه، يظهر بين الفلسطينيين اتجاه مضاد مذهل. إذ يعمل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الآن في إسرائيل كل يوم، وكثير من أنشطتهم الاقتصادية تعتمد على الاتصال بالأسواق الإسرائيلية. ويتردد أن من الغزاويين عددا أكبر من ذي قبل يدرسون العبرية في فصول تقام في غزة.
وصف لي استشاري الأعمال المقيم في رام الله سام بهور الأمر على النحو التالي: 'كل يوم يرى المزيد والمزيد من الفلسطينيين، المزيد والمزيد من العدوان الإسرائيلي، والمزيد والمزيد من المستوطنات، ويقولون لأنفسهم: ربما حان الوقت لأن يقول جيلنا للإسرائيليين ’مبارك عليكم، لقد انتصرتم. حصلتم على القدس الشرقية وعلى الماء كله، وعلى الأرض كلها، وهل تعرفون علام أيضا حصلتم؟ علينا. والآن أخبروني من أين أحصل على بطاقة تأميني الصحي الإسرائيلية؟’ وهذا أمر بوسعنا تماما أن نفعله'.
باختصار، أنا لم أزر إسرائيل منذ سنة 2019، وقد أذهلني انفجار ناطحات السحاب التي رأيتها في تل أبيب، وقد أقيمت جميعا بإبداع بشري في العلوم والطب والزراعة والتكنولوجيا، لا في الوقود الحفري. فلدى إسرائيل مفاخر كثيرة ينبغي أن تحافظ عليها.
لكن الحفاظ على ازدهارها واستقرارها، وهي تنحرف سياسيا إلى أقصى اليمين، سيكون أصعب وأصعب. لأن هذا يقتضي حكمة واعتدالا لا ينشدان إثبات 'من هم ملاك الأرض' وإنما ينشدان إتاحة هذا المجتمع المتعدد للجميع.
ولإسرائيل مثال في سياسي إسرائيلي يعرفه نتانياهو جيدا. فمن جميع الحوارات التي أجريتها خلال هذه الرحلة فإن الحوار الأبقى معي هو حواري مع منصور عباس الذي يمثل الحزب الإسلامي العربي الإسرائيلي الذي أصبح أول حزب عربي إسرائيل يشارك شراكة كاملة في ائتلاف حاكم ذي قيادة يهودية إسرائيلية، أي حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في يونيو 2021 برئاسة يائير لابيد ونفتالي بينيت، والتي أطاح بها نتانياهو للتو.
أعلن منصور عباس صراحة قوله 'إن دولة إسرائيل ولدت دولة يهودية وسوف تبقى كذلك'.
قبل أن يشكل لابيد وبينيت حكومتهما، حاول نتانياهو أن يحصل على دعم عباس لائتلافه، لكن شركاءه الوطنيين المتطرفين قالوا إنهم لم يعملوا مع مسلم من عرب إسرائيل في مجلس وزاري واحد. فاتخذ نتانياهو في الانتخابات الأخيرة مسارا معاكسا واستعمل حضور عباس في حكومة بينيت-لابيد لتأجيج مشاعر اليهود الإسرائيليين المعادية للعرب، فساعده ذلك على الفوز في صناديق الاقتراع.
قال لي عباس 'لقد سألت بيبي ’لماذا تتهمني بأنني من الإخوان المسلمين وإرهابي؟’ وقال إن نتانياهو أخبره بأن هذه هي السياسة، وأنه بحاجة إلى أصوات'.
عباس مراقب دءوب للمشهد في إسرائيل. وقد أوضح لي أنه نشأ منتميا إلى الأقلية المسلمة في قرية عربية أغلبيتها من الدروز المسيحيين فعرف مبكرا أن في إسرائيل 'تنوعا لا بين العرب واليهود فقط، بل وداخل القطاع العربي والقطاع اليهودي أيضا'.
ونتيجة ذلك كما قال أنه بات يؤمن أن 'لدينا جميعا الكثير من الهويات، الدينية والوطنية. ويمكننا العيش معا بهوياتنا إذا ما حاولنا. وهذا ما أسميه ’النهج المدني’ القائم على القيم...لقد درست العلوم السياسية في جامعة حيفا. وتعلمت مصطلح ’كيفية إدارة الصراع’. لكن هناك مصطلح آخر هو ’كيفية إدارة الشراكة’. وأنا أفضل الصراع من داخل الشراكة عليه من الخارج'.
وأضاف 'لذلك أمارس الشراكة، راجيا أن يحدث تغيير'.
لا تخطر لي طريقة أفضل لإنهاء مقالة عن التعقيد الحقيقي في الوضع بإسرائيل من الاستشهاد بإسلامي فلسطيني إسرائيلي يكلم اليهود الإسرائيليين عن روح الشراكة اللازمة للحفاظ على إسرائيل وطنا يهوديا وديمقراطيا لجميع المواطنين، سواء أكان دولتين أم دولة واحدة.
• توماس فريدمان كاتب مقال رأي في الشأن الخارجي في نيويورك تايمز ومؤلف كتاب 'الطريق من بيروت إلى القدس'.
** خدمة نيويورك تايمز ترجمة خاصة بجريدة عمان.