أعمدة

مُستنقع المقارنات

 
تقول القاعدة الرابعة من كتاب '١٢ قاعدة للحياة' لعالم النفس الكندي الشهير جوردن بيترسون 'قارن نفسك بما كُنتهُ البارحة وليس بأشخاص آخرين'.

تفتح هذه القاعدة الباب على مصراعيه للحديث عن موضوع أعدهُ مُهمًا في عالم يتفاوت فيه مستوى المعيشة بين الأفراد والمجتمعات لأسباب طبيعية مختلفة تتصل بتباين المقّدرات والإمكانات واختلاف أساليب التخطيط إلى جانب أسباب أُخرى متنوعة. الموضوع هو المقارنات وآثارها متعددة الوجوه التي نضع بسببها أنفسنا أمام أشخاص يفوقوننا من حيث الإمكانات والقدرات المادية والذهنية كدلالة على انعدام الثقة بالنفس وفقدان القناعة ونضع المجتمع مقابل آخر لا يماثله من حيث وفرة الموارد الطبيعية ومصادر الدخل بهدف إثارة مشاعر الإحباط والتذمر والاستياء لدى العامة.

وإذا أخذنا بقوله عز وجل: 'نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا'. وقوله تعالى: 'وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ' فإننا سنتوقف حالًا عن جر أنفسنا إلى مستنقع المقارنات 'السلبي' منها لأنه بيئة خصبة لنمو الأوبئة النفسية التي تجلب الشعور بعدم الرضا عن الذات والمجتمع والإحساس بالتقزم ولا جدوى التفكير في كيفية التطوير بل والتعامي عن نقاط القوة لدينا واعتبار كل معاركنا ضد الحياة خاسرة.

ورغم أن المقارنات بأساليبها المختلفة على مستوى الأفراد قد تدفع ببعضهم لتحدي أنفسهم وإثبات أنهم قادرون على الإنجاز وتحقيق الغايات انطلاقًا من قاعدة 'إذا أردت فإنك تستطيع' وأن ديدن الإنسان مقارنة نفسه مع غيره وهو شعور طبيعي قد يكون الوسيلة المُثلى للخروج من عالم الإنسان الضيق إلى عالم آخر أرحب إلا أن البعض يُصر على عدم رؤية هذا الجانب المضيء فينكفئ على نفسه ويرى أن فكرة مقارنته مع غيره الذي هو ليس ندًا له في الأساس فكرة في غير مكانها وبلا جدوى.

بين حيطان البيوت يعمد بعض أولياء الأمور للمقارنة العلنية بين أبنائهم فيصنعون بذلك جبالًا من المشاعر السلبية بين هؤلاء الأبناء قد تتطور بينهم لتكون خلاقات عميقة لن يخرجوا منها أبدًا.

ما يحدث بين الأخوة أو الأخوات أو زوجات الأخوة أو أزواج الأخوات من مقارنات غالبًا ما تكون أسبابها معلومة لا تتجاوز نوع جنس الأبناء أو تفاوت القدرات المادية أو حجم المنازل أو القدرة على السفر أو التحصل على الوظيفة تُلقي غالبًا بِظِلال قاتمة على خط سير حياتهم فتوقد في قلوبهم نار الكره والحقد رغم إدراك الجميع أن الله خلقهم متفاوتين في كل شي لحكمة لا يعلمها إلا هو.

ما يحدث في الصف الدراسي حين يُقارن المعلم 'دون قصد' بين طلابه بهدف تحفيزهم على تقليد المُجِد والمثابرة والتفوق يصنع عداوات بين هؤلاء الطلاب قد تتسرب من إطار سور المدرسة إلى خارجها فتأخذ أشكالًا جديدة تصل إلى العِراك الدامي.

أما أخطر المقارنات على الإطلاق فهي تلك التي تخرج بين الحين والآخر على مستوى أعلى.. مستوى 'الوطن ' ويكون هدفها الرئيسي التأثير على المواطن والسعي إلى إيجاد حالة من التشاؤم والسُخط وإلقاء اللوم على المُخطط وواضع الاستراتيجيات وإعاقة جهود التطوير والبناء.. البعض تستهويه لعبة الاصطياد في الماء العكر وهو على دراية تامة بجدوى رؤية الحكومة الواعية في إدارة ملف الاقتصاد والآثار العميقة التي خلّفتها الأزمة الاقتصادية العالمية خلال السنوات المنصرمة.

تُمررُ بين كل فترة وأُخرى عبر الهواتف المحمولة تغريدات أو بيانات أو أخبار عن قيام بلد ما بزيادة رواتب موظفيه وبعد مدة زمنية قصيرة يُتداول عبر هذه النوافذ الإخبارية قرار الحكومة الفلانية إلغاء القروض بمناسبة العيد الوطني ثم تتوارد أخبار عن إعلان البلد الفلاني عن مكافآت مُجزية لموظفي القطاع الحكومي 'بدون مناسبة'.

وفي رفة عين تنتشر هذه النوعية من الأخبار كانتشار النار في الهشيم فتسود حالة من الإحباط بين من وضعوا أنفسهم صيدًا سهلًا لمثل هذه الرسائل السلبية وتشتد حِدة الجدالات والمقارنات وترتفع الأصوات تطالب بأوضاع مشابهة.

يتعمد البعض تغافل أن لكل بلد موارده وظروفه وطرقه في معالجته لتحدياته وأن خلف الصورة الجميلة التي نُشاهدها في مكان ما قد تكمن حقائب تخطئها العين وما لا يُرى أكثر مما يُرى.. يستمتع البعض بجَلد ذاته ويُغمض عينيه عن نقاط قوته ويتلذذ بتضخيم مثالبه.. يتناسى أن المقارنة بالغير هي إهانة للنفس وتحقير لها وأن إيمان الإنسان الداخلي بأنه غني بما يملك يُكسبه الاكتفاء.

آخر نقطة

وصف الكاتب الألماني هيرمان هيس السعادة بقوله: ' إنها انسجام الأشياء القليلة من حولي مع وجودي الخاص، والشعور بالرضا والرفاهية التي لا تحتاج إلى تغييرات ولا تكثيف'.