أفكار وآراء

بعيدًا عن التنشئة الهدرية

لعلي في هذه المقالة أستعير مصطلح 'التنشئة الاجتماعية الهدرية' الذي صكهُ الباحث المغربي في علم الاجتماع د.لحسن لحماني، ولعل محاولتي هنا للبناء عليه من منظور سياقنا العُماني. يدافع لحماني في سياق صكه للمفهوم عن أهمية إبقاء 'روح التفلسف' عند الأطفال حاضرة في مجمل عمليات التنشئة الاجتماعية ويقصد بها حسب تعريفه: 'الجهد الذي يبذل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء والظواهر وجذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها، أي معرفتها معرفة حقة'. مشيرًا إلى أن مقاربة التنشئة الاجتماعية يجب أن تُبقي جذوة التفلسف حاضرة لدى الأطفال عبر مختلف المؤسسات التي تشرع في عملياتها ونظمها. وأعتقد على المستوى الشخصي أن كثير من المناقشات حول نُظم التنشئة الاجتماعية الراهنة تتمحور حول: 'من يصيغ نظرة الأبناء حول العالم؟' أو بشكل أكثر موضوعية 'كيف تتشكل نظرة الأبناء حول العالم؟' ونعني بالعالم هنا ليس إطاره السياسي وإنما العالم الاجتماعي والقيمي والأسري وعالم الذات الذي ينخرطون فيها وتنشط فيه وعلى أساسه عملياتهم الاجتماعية وقيمهم وسلوكاتهم. إن فقد الإجابة على هذا السؤال من شأنه أن يفرز عديد القضايا القيمية والتربوية التي نندد بها اليوم ونحاول إضاءتها عبر وسائط الإعلام والخطاب العام.

نعتقد أن التنشئة الاجتماعية الهدرية تتمثل اليوم في 'الإنسحابية' من الأدوار وفي رفع نسق التوقعات وفي فقدان التكامل بين المؤسسات الاجتماعية المنوط بها عملية التنشئة عبر دورة الحياة المختلفة، ولنبسط المسألة بشكل أفضل فإن ثمة عوامل يمكن الإشارة إليها مثل نمو الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في حياتنا - وهنا لا نشير فقط إلى دخول هذه الوسائل وإنما لتنامي الدور الذي تلعبه في مختلف العمليات الاجتماعية - بالإضافة إلى تغير أنماط العمل وتشكل الأسرة (الوظيفية)، وتبدل مفاهيم الإعالة، عوضًا عن التغيرات الطارئة على تركيبة الأسرة نفسها بالانتقال من النمط الممتد إلى النواة ثم إلى النووية، وعمليات الحراك الديموغرافي والمكاني التي لعبت فيها التحولات الاقتصادية والمهنية دورًا بارزًا كل هذه العوامل شكلت أوضاع جديدة لمسارات التنشئة الاجتماعية، وإن كانت هذه المسارات طبيعية في اللحظة الراهنة من التاريخ الاجتماعي لكافة المجتمعات الإنسانية إلا أنه في تقديرنا يجب أن لا تقود هذه التحولات نسق التنشئة الاجتماعية إلى ثلاث (لاءات) مهمة:

1- لا ينسحب طرفٌ من دوره اعتقادًا أن طرفًا آخر كفيلٌ بهذا الدور.

2- لا نفترض أن المضامين التربوية الأساسية يمكن اكتسابها من مؤسسة اجتماعية بعينها.

3- لا نقوض حلقات التكامل بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية أو نستعيض عنها.

هنا لعلنا نستعير الإشارة السامية لمولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أيده الله – في لقاءه بشيوخ ولايات محافظتي الداخلية والوسطى حين قال: 'تربية الأبناء لا تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تربية الأبناء هي جزء من أصل المجتمع العُماني'. وهنا إشارة دقيقة للأدوار الوظيفية التي تشكلها عمليات التربية في تكوين وتجذر المجتمع. وعليه فإن المؤسسات الاجتماعية الداخلة في نظام التنشئة الاجتماعية يتوجب أن تكون (مُكلمة – متكاملة – متواصلة – مُراقبة) لأدوار بعضها البعض. ما يمكن أن يتعرض له النشء في جماعات الأقران من مفاهيم واتجاهات جديدة تتم فلترتها عبر الأسر، وعبر النقاش والتواصل والتفاعل المستديم بين أطرافها، وما يمكن أن يتجذر من مفاهيم من سياق الوصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يتم تشذيبه من خلال المؤسسة الثقافية أو عبر المسجد والجامع، ويبقى هناك ثلاث اعتبارات لتحقيق ذلك: أولها تجديد المرببين لأدواتهم ومنظوراتهم وطرائق وصولهم إلى الأبناء ووعيهم الكلي بما يدور حيالهم من تجاذبات وقيم متصاعدة واتجاهات ناشئة، وثانيها هي الحوار الاجتماعي عبر مؤسساته ووسائطه المختلفة وهذا الحوار من شأنه أن يكشف خارطة الأدوار والمفاهيم المتغيرة لدى أطرافه، ولعلنا نقف هنا عند نموذج مهم ينبغي إعادة الدور له والاهتمام بتفعيله بأدوات جديدة وهو 'مجالس الآباء والأمهات' في المؤسسات التعليمية. هذه التجربة يمكن البناء عليها وتجديد نسقها ونشاطها بما يخدم حوار يهتم به الجميع ويخلق مساحة تتبادل فيها المؤسسة التعليمية هواجسها/ أفكارها/ رؤاها/ منابت قلقها مع الطرف الآخر (الآباء والأمهات). أما الاعتبار الثالث الذي نود الإشارة إليه فهو الكشف الدائم، وهذا الكشف يتجسد حول مضاعفة البحوث العلمية والاستطلاعات حول القضايا والاتجاهات التربوية الناشئة، ونشير هنا إلى البحوث التي تتعمق بشكل أوسع في وجهة نظر المجتمع وفي الحقيقة الاجتماعية وليس فقط البحوث المكتبية أو تلك التي تعنى بتطوير النظرية التربوية. إن إيجاد مخرجات بحثية ميدانية ناجزة حول قضايا التربوية وهواجسها من شأنه أيضًا أن يخلق مادة للحوار العام سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر المنتديات والمنابر الثقافية المختلفة، بحيث يكون الحوار مبنيًا على الأدلة وموجهًا لملامسة الأولويات ومتجهًا لإصلاح وتعزيز الواقع.

وإن كانت الإشارة دومًا نحو الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراتها النسقية على التربية، فإن الرهان نعتقد أنه يمكن أن يكون في معادلة التأثير في الواقع. في دراسة نشرتها وزارة التنمية الاجتماعية (2020) حول: 'أثر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على تنشئة الطفل في المجتمع العُماني (التعليمية، الاجتماعية، النفسية، والصحية)'. كشفت إحدى النتائج عن أن دوافع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي تعود إلى أسباب (الترفيه والتسلية، البحث عن المعلومات، معرفة أحداث العالم، والتواصل مع الآخرين وتكوين صداقات جديدة، متابعة المشاهير، التعبير عن الآراء والأفكار، ومشاركة الآخرين لليوميات، ومحاولة إثبات الذات). وبالنظر إلى هذه الدوافع فإن يمكن لنا خلق سياق واقعي مواز لكل دافع، فإذا ما تحدثنا عن معرفة أحداث العالم فسعة معرفة المربين وعمق إطلاعهم وقدرتهم على تقريب أفكار العالم وأحداثه واتجاهاته ومساعدة الأبناء في صوغ رؤيتهم الخاصة المتوازنة حيال نظريتهم تجاه العالم هو أمر ممكن أن يعادل الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي ويخفف من الإنسحابية المطلقة، وإذا ما تحدثنا عن التعبير عن الآراء والأفكار ومحاولة إثبات الذات فإن خلق مساحات الحوار الأسرية – المجتمعية – المؤسسية للأبناء في سياق الواقع ودفعهم للانخراط فيها والتعبير عن وجهات نظرهم من خلالها وتبيان ذاتهم المعرفية والاجتماعية في مناشطها من شأنه إن يعادل معادلة الافتراضي. ما يتوجب علينا قوله إن الدعوة هنا ليست دعوة حدية للقفز على ما تخلقه هذه الوسائل وإنما دعوة للتأمل في الأدوار المؤسسية المتغيرة وألا تكون هذه الأدوار استسلامية كي لا نخلق مشهدًا لـ 'التنشئة الهدرية'.