أفكار وآراء

توليف جودة الحياة وتصنيفها

في سبتمبر 2022 نشرت 'مجلة الخرائط' في المملكة المتحدة دراسة بعنوان (مؤشرات جودة الحياة. ما مدى قوة النتائج بالنظر إلى تقنيات التجميع المختلفة؟) لكاتبيها (كاريل ماشو، وراديك برافير)؛ حيث بدأها الكاتبان بالحديث عن الاهتمام الذي يحظى به موضوع (جودة الحياة) في الأوساط العلمية والأكاديمية والسياسية، إلاَّ أنه ما يزال – حسب رأيهما – اصطلاح يعاني الكثير من التناقضات سواء على مستوى التعريف أو الأُسس أو النظرية والمناهج المتبعة للتقييم؛ فالكثير من الباحثين والمنظمات تعتمد على تجميع مجموعة من المؤشرات التي تتخذ في الأصل مؤشرات فردية وعمليات حسابية خاصة بها، لتقوم الأخيرة باعتمادها في (مؤشر اصطناعي) – باصطلاح الدراسة – يكشف التباين الناشئ من استخدام تلك المؤشرات المتعددة في قياس (جودة الحياة)؛ فعلى الرغم من تباينها لقياس (جودة الحياة) في الدول، إلاَّ أنها تكشف 'علاقات داخلية مثيرة للاهتمام في البيانات التي تم تحليلها' – بتعبير الدراسة.

تخبرنا الدراسة عن ارتباط 'جودة الحياة' بالرفاهية الاقتصادية للدول، وانعكاس ذلك على سعادة المجتمعات وازدهارها، إلاَّ أن التغيرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على الدول، أدَّت إلى انفتاح آفاق جديدة مؤثرة على تنمية المجتمع، حتى أصبحت 'جودة الحياة' لا ترتبط بالناتج المحلي وحسب، بل بنوعية الحياة والتنمية البشرية في الدول. ولأن قياس مدى جودة الحياة يرتبط بمجموعة من المعايير ذات علاقة مباشرة بالمجالات الاجتماعية والثقافية، فإن إمكانات قياس ذلك ظلت دوما قابلة للجدل على مستوى الأخلاقيات المهنية المتعلقة بـ (بيانات المدخلات) من حيث توفرها، وسهولة الحصول عليها، و(التقنيات العملية) المرتبطة بالآليات، و(الطرق الموضوعية) سهلة التطبيق و (المقارنة) بين دول لا تربطها سوى مؤشرات عامة تعتمد على مؤشرات فرعية ذات طبيعة مختلفة، فنحن أمام نتائج لمؤشرات متعددة تم تجميعها وفق آلية ما لتخبرنا (أن قيمة الحياة ونوعيتها مختلفة بين أماكن عدة) من العالم.

تقوم مؤشرات قياس نوعية الحياة أو (جودة الحياة) على تجميع قائم على استخدام مجموعة من الأساليب، وفق مؤشرات متعددة بهدف إيجاد قيمة احتساب عامة بين تلك المؤشرات ينتج عنها قياس (جودة الحياة) في بلد ما مقارنة مع بلدان العالم، ولهذا فهو مؤشر (افتراضي) – كما يُطلق عليه الباحثين في دراستهما –، لأنه قائم على التجميع والتوليف، إلاَّ أنه يظل له قيمته على المستوى الاجتماعي لما يمثِّله من أهمية في بناء تصورات بشأن نوعية حياة أفراد مجتمع ما، وتلك الإمكانات التي تقدمها الدول في التنمية البشرية، وآفاق الاستفادة مما تمتلكه من موارد طبيعية وجغرافية وثقافة وتراث وبيئة من ناحية، وإمكانات اقتصادية من ناحية ثانية، ورؤى تنموية مستدامة من ناحية ثالثة.

ولهذا فإن مؤشر (جودة الحياة للعام 2022) الصادر عن الوكالة الإعلامية الأمريكية (US News)، يعتمد على مجموعة من المعايير الاجتماعية والثقافية (الغذاء والإقامة، والتعليم الجيد، والرعاية الصحية، والعمل والأمن الوظيفي، والاستقرار السياسي وحرية الأفراد والبيئة)، بالإضافة إلى متوسط (التصنيف الفرعي لنوعية الحياة)، القائم على (الأسعار المعقولة، وسوق العمل الجيد والمستقر اقتصاديا والصديق للأسرة، والمساواة، ونظام التعليم العام والمستقر سياسيا والآمن والمتطور، والنظام الصحي الحديث)، وكلها معايير قائمة على مؤشرات عالمية تم تجميعها وتوليفها لقياس مدى جودة الحياة في الدول (85) التي يصنفها المؤشر باعتبارها أفضل دول العالم في جودة الحياة للعام 2022، لذا فإن التقرير يستند إلى (كيفية تعريف التصورات العالمية للبلدان من حيث عدد من الخصائص النوعية والانطباعات التي لديها القدرة على دفع التجارة والسفر والاستثمار)، وهي خصائص وانطباعات ذات تأثيرات مباشرة على الاقتصادات الوطنية.

لقد اعتمد المؤشر في قياس (جودة الحياة) على (73) سمة أو صفة قُطرية، وهي صفات عامة تتسم بها الدول الحديثة، والتي تم تقديمها لأكثر من (17000) مشارك من جميع أنحاء العالم، الذين قاموا بربط هذه السمات أو الصفات بدول معينة من وجهة نظرهم، وعبر دراسات استقصائية تم ربط هذه السمات بالدول، وبناء على مجموعة من المؤشرات والاستطلاعات تم تجميع هذه السمات في التصنيفات العشر الفرعية. وبعيدا عن طريقة احتساب أوزان تلك المؤشرات والسمات، فإن المؤشر اعتمد في تصنيفه على (نوعية الحياة، وريادة الأعمال، وحركة التطور، والمجال الاجتماعي، والتأثير الثقافي، وانفتاح الأعمال التجارية، والمغامرة والسياحة، والتراث).

لقد اختار المؤشر (85) دولة حول العالم تمثل أفضل دول العالم في جودة الحياة للعام 2022، وفق مجموعة من المعايير المرجعية التي اعتمدت على نتائج تقارير البنك الدولي في تصنيف؛ أفضل 100 دولة من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وأفضل 100 دولة من حيث تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بين (2016-2020)، وأفضل 100 دولة من حيث عائدات السياحة الدولية أو وصول السيُّاح في أي عام بين عامي 2016، و2020، إضافة إلى أفضل 150 دولة في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة في أي عام بين عامي 2015، و2019. وبناء على ذلك تم استبعاد تلك الدول التي لم تبلغ تلك المعايير المرجعية، لتمثل الدول التي شملها المؤشر (حوالي 95% من الناتج الإجمالي العالمي، وتمثل ما يقرب من 80% من سُكَّان العالم) – حسب ما ورد في التقرير –.

احتلت مملكة السويد في المؤشر المرتبة الأولى لتكون أفضل دول العالم في جودة الحياة للعام 2022؛ فهي دولة متميزة – حسب تقرير المؤشر – من حيث التزامها بحقوق الإنسان والخدمات العامة والاستدامة مما جعلها رائدة في الشؤون الدولية، إضافة إلى البنية التحتية المتقدمة وشبكة النقل، والرعاية الصحية، وكذلك التعليم الجامعي المجاني، و'يتباهى شعبها بأنهم الأطول في متوسط العمر عالميا'، خلافا أنهم أكثر الناس سخاء في العالم؛ 'حيث يتبرعون بنحو 1% من الناتج القومي الإجمالي لبرامج المساعدات الإنسانية كل عام'، إلى غير ذلك مما يسرده المؤشر عن السويد وشعبها. تأتي بعدها مملكة الدنمارك والتي يصفها التقرير بأنها (منطقة ثقافية في شمال أوروبا)، ثم كندا، ثم سوسيرا في المرتبة الرابعة، وبعدها النرويج في المرتبة الخامسة.

جاءت سلطنة عُمان في هذا المؤشر في المرتبة (73)، حيث يصنفها من بين (أفضل 78 دولة حول العالم في جودة الحياة للعام 2022)، ويصفها بأنها (أقدم دولة مستقلة في العالم العربي)، إلاَّ أن من يقرأ مقدمة التقرير الخاص بعُمان سيجد أن المعلومات التي وردت - على بساطتها واعتمادها على البُعد الأيديولوجي النمطي- لا تتجاوز العام 2017، الأمر الذي يشير إلى إشكالية وصول البيانات والمعلومات الحديثة عن عُمان، مما يعكس ترتيبها بين دول العالم. واستنادً إلى المعايير التي يقوم عليها هذا التقرير سواء أكانت (تجميعا)، أو (توليفا)، أو (استطلاعا) فإن المرتبة التي حصلت عليها عُمان في هذا المؤشر تحتاج إلى كثير من التأمُّل؛ فعلى الرغم من الجهود المبذولة من الحكومة والمؤسسات والمجتمع المدني، إضافة إلى الجهود الفردية المتواصلة في بناء هذا الوطن في شتى المجالات، والتي يظهر أثرها جليَّا خاصة على المستوى الاقتصادي وانفتاح سوق الأعمال مما ينعكس على النواحي الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي رفاه المجتمع، فإن هناك جهود علينا بذلها في تغيير (الصورة الذهنية) من ناحية، والاهتمام المتزايد بـ (مجتمع البيانات المفتوحة) الذي يُشكِّل ركيزة أساسية في التعريف بعُمان وما تشكلِّه من أهمية ثقافية وتاريخية وبالتالي سياسية واقتصادية؛ فالبيانات والإحصاءات هي المؤشر الحقيقي والواقعي الذي علينا الاعتماد عليه في الترويج للهُوية العمانية، والمحتوى الثقافي الرقمي هو أساس تسويق التاريخ العماني وآفاق رؤيته الوطنية الحديثة.

إن مثل هذه المؤشرات العالمية تمثِّل (قوة ناعمة) قادرة على تسويق أنماط جاهزة عن الدولة؛ ذلك لأن لها تأثير مباشر على الأعمال وسوق الاستثمارات الخارجية والأجنبية، وبالتالي فإن الاهتمام الإعلامي والثقافي في تسويق الثقافة العمانية ودعم الهُوية التاريخية لعُمان من ناحية، والعناية بالتعليم وتربية النشء على المواطنة الإيجابية من ناحية ثانية، وفتح الآفاق الاقتصادية من ناحية ثالثة، قادرة كلها على تشكيل صور ذهنية منصفة عن عُمان وما تتميَّز به من ثقافة وعلم ورؤى اقتصادية واعدة.

لنكن كلنا مرآة لعُمان حتى وإن قلنا أنه (مؤشر) لا يُقدِّم الصورة الصادقة والحقيقية عن عُمان، حتى وإن كان يعاني من العديد من الإشكالات المنهجية، إلاَّ أنه مؤشر عالمي يكشف للعالم ما يعتقده وما يريده أن يصل عن الدول، ولهذا فإن أهميته تنطلق من أهمية الترويج الإيجابي عن عُمان، عن هذا الوطن الذي يبني آفاقا لتاريخه الحضاري الضارب في القِدم، فما يشير إليه هذا التقرير وغيره لا يُستهان به وبأثره على كافة المستويات، خاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وعليه فإن مراجعة التقارير وكشف الخلل والتحديات وأوجه التقصير ذات أهمية كبرى لبناء ما ننشده من مكانة عالمية وما نطمح إليه من مستويات تنموية مستدامة.