أعمدة

البطاريق الكبار ــ رهين المحبسَين «6» أبو العلاء المعري ونتاجه

 
ذكرنا في الجزء الثاني من هذا المقال المخصص للتعريف بأبي العلاء المعري ونتاجه، بأن الطبعة التي سنعتمد عليها هي طبعة معهد المخطوطات العربية والمعنونة بـ «سِقط الزَّند وضوءُه» بتحقيق الدكتور السعيد السيد عِبادة، ولكنني أتّبع في كتابتي عن قصائد المعري الترتيب الذي رتبته دارا صادر وبيروت، ودار المكتبة العصرية، وهو ترتيب يعتمد على موضوعات القصائد لا الزمان الذي قيلت فيه هذه القصائد، مع اعتمادي على طبعة معهد المخطوطات في ضبط الأبيات وذلك للأخطاء النحوية واللغوية والنقص في باقي الطبعات.

يشتمل ديوان سِقط الزَّند على «مائة وإحدى عشرة قصيدة ومقطوعة» ص6 كما ذهب إلى هذا الرأي صلاح الدين الهوَّاري في مقدمة السقط الصادرة عن دار المكتبة العصرية، أما السعيد السيد عبادة فيرى بأنها مائة وثلاث عشرة قصيدة ومقطوعة كما أورد ذلك في الصفحة 40 من مقدمته. وتزيد الأبيات المنظومة في سقط الزند عن ثلاثة آلاف بيت، وتتنوع هذه القصائد بتنوع أغراض الشعر؛ فنجد فيه ثماني مرثيات، ونجد الوصف والمدح والافتخار وهو أكثر ما اشتمل عليه ديوانه، ولا يخلو ديوانه من الغزل والنسيب. ومن أبياته العذبة اللطيفة، تلك التي اختصت بالحنين والتذكار للوطن ومعاهد الصبا كقوله:

سَرى بَرقُ المَعرّةِ بَعدَ وَهنٍ فَباتَ بِرامةٍ يَصِفُ الكلالا

شجا ركبا وَأَفراسا وَإِبلا

وَزادَ فَكادَ أَن يَشجو الرِّحالا

وقد نقد الدكتور طه حسين في كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء» في المقالة الثالثة منه هذين البيتين وبيتا آخر بعدهما، وقد عدت إلى كتاب «سقط الزند وضوءه» أملا في أن أجد تعقيب الدكتور عِبادة على كلام طه حسين، ولكنني لم أجد سوى شرح المعريِّ لبيته نفسه حيث يقول في المسألة التي نقده فيها طه حسين وهي زعمه بأن أبا العلاء وقع في خطأ نحوي حين سكَّن لام الفعل مع «أنْ»، في قوله «وَزادَ فَكادَ أَن يَشجو الرِحالا»، وكيف وضع أن بعد كادَ؟، يقول المعري في الضوء «وزاد فكاد أن يُحزن الرحال، أي قارب ولم يفعل» واكتفى بذلك؛ فهل يعقل أن تفوت المعري هذه المسألة وهو العالم باللغة؟ وهل يعقل أنه لو كان فيها شيء تركها على حالها دون تنقيح أو تغيير؟ وهو الذي - كما رأينا في الأجزاء السابقة من السلسلة - أعاد النظر وقرأ السقط على طلبته ومريديه، بل وشرحه لهم!، لا أحسب إلا أن للمسألة وجها ونظرا عند أبي العلاء.

ومما يميز سقط الزند، أن المعريَّ أفرد للدِّرع ووصفها قصائد بعينها، سماها «الدِّرعِيَّات»؛ وهذا يذكرنا بالبطريق الأول من هذه السلسلة وهو بشار بن برد. فكيف لأعميين أن يصف أحدهما مشهد الحرب بأبلغ ما يمكن أن يقال:

كأنَّ مثارَ النقع فوق رؤوسهم وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

والآخر يصف الدروع «مع أنه لم يسبغها على جسمه قط» فضلا عن أن يراها!. ومن الجميل في هذا الباب، أن المعريَّ اتبع أسلوب التمثيل والمحاورة في قصائده أو في التقديم لها، كما في قصيدته «وقال على لسان امرأة توصي ابنها بلبس الدرع وترك الزواج» التي مطلعها:

عَــلَـيْـكَ الـسَّـابِـغَـاتُ فَإِنَّـهُـنَّـهْ

يُـدَافِـعْـنَ الـصَّـوَارِمَ وَالْأَسِـنَّـهْ

وَمَـنْ شَـهِدَ الْوَغَى وَعَلَيْهِ دِرْعٌ

تَــلَــقَّـاهَـا بِـنَـفْـسٍ مُـطْـمَـئِـنَّـهْ

عندما شرعت بإعادة قراءة ديوان سِقط الزَّند، ألزمت نفسي بأن أضع علامة عند الأبيات المذهلة المعجزة، فلم ألبث أن تركت القلم واستمتعت بالديوان كله، فلا يقرأ القارئ صفحة من هذا الديوان إلا ويجد معنى بليغا ولفظا فصيحا وصورة راقية تبعث الدهشة والجذل وكأن الديوان ليس من صنعة إنسان. وها هو المعريُّ، وكأنه ينظر إلي من طرف خفي، فيقول:

وقد كانَ أربابُ الفصاحةِ كُلَّمَا رَأَوْا حسنًا عدُّوه من صَنْعَةِ الجِنِّ

هكذا نصل إلى ختام رحلتنا مع ديوان سقط الزند للمعري، وربما لم أحط إحاطة تامة بهذا الديوان، ولكنني بثثت في السلسلة إشارات لمن أراد الاستزادة والنهل من المورد الصافي والمشرب العذب للمعري، وأعيد التنويه والإشادة بالعمل الجبار للدكتور السعيد السيد عبادة على عمله في تحقيق هذا الديوان الرائع مصحوبا بشرحه «ضوء السقط». وكلي أمل بأن تتاح لي فرصة كتابة سلسلة أخرى تعرّف بعيون كتب الأدب العربي القديمة، كي لا تتفرع هذه السلسلة -البطاريق الكبار- المخصصة للحديث عن الأدباء العميان والتعريف بهم وتطول.