أسئلة سياسية كاشفة
الثلاثاء / 11 / جمادى الأولى / 1444 هـ - 21:00 - الثلاثاء 6 ديسمبر 2022 21:00
عادةً ما يكون السؤال استفهامًا عن موضوع لا نعرفه، ونادرًا ما يكون السؤال عن موضوع نعرفه. فما نعرفه يستدعي أحيانًا التساؤل بصيغة التهكم أو الاستنكار، وعلى الأقل بصيغة التعجب الذي يدعونا إلى إعادة النظر في الأمر. وأنا أريد أن أقصر تناولي في هذا المقال على هذا النوع من الأسئلة فيما يتعلق بالشؤون السياسية والحضارية.
منذ عقدين من الزمان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 التي دبرها تنظيم القاعدة، والتي أفضت إلى تدمير برجي التجارة العالمي بمدينة مانهاتن، واستهدفت أيضًا مقر البنتاجون؛ أصبح السؤال المتداول في الغرب الأمريكي خاصة: لماذا يكرهوننا؟ ومن الملاحظ أن هذا السؤال نفسه أصبح يتردد الآن في عالمنا العربي الذي يتساءل بدوره: لماذا يكرهوننا هم؟ أصبح هذا السؤال كاشفًا عن استنكار حالة العنصرية التي يمارسها الغرب إزاء الدول العربية؛ وهو سؤال لا يتردد فقط على مستوى الكتابات والمقالات العديدة، وإنما أيضًا على مستوى الشعوب العربية نفسها. تردد هذا السؤال مؤخرًا بقوة بعد الأحداث التي جرت على هامش المونديال، وهي الأحداث التي تبدت فيها بوضوح عنصرية الغرب الذي استنكر تنظيم دولة عربية إسلامية للبطولة، واستنكر القيم الثقافية والإسلامية التي تراعيها الدولة المنظمة؛ وقد بات واضحًا بما لا يدعو إلى الشك أن هذا الغرب يريد أن يفرض قيمه الخاصة على الشعوب العربية.
***
هناك الآن حالة من الصحوة العربية تريد الانسلاخ من حالة الانسحاق في ثقافة الغرب وقيمه التي استولت علينا قرونًا عديدة إلى حد تقديسها. ومن هنا أصبح السؤال الذي يُثَار الآن هو: لماذا يظل الغرب هو الأصل والمرجع فيما يتعلق بقيمنا وثقافتنا؟ لنتأمل نظرة الغرب العنصرية فيما يتعلق بقيمه ومعاييره الإنسانية باعتبارها الأصل والمركز الذي يُقَاس عليه البعد والقرب. لنتأمل- على سبيل المثال- تصريحات رئيس وزراء بريطانيا الأخيرة بقوله: إن الصين تشكل تهديدًا، لأنها لا تتوافق مع قيمنا ومصالحنا! أتفهم جيدًا أن يتحدث رئيس وزراء بريطانيا عن تهديدات المصالح، ولكني لا أتفهم كلامه عن تهديدات القيم: فالقيم الخاصة بالشعوب والحضارات لا تشكل تهديدًا بعضها لبعض، بل هي قيم ينبغي أن تتلاقح، أو على الأقل تكون موضع احترام متبادل فيما بين الشعوب المتحضرة ثقافيًّا وإنسانيًّا.
حقًّا إن الغرب متقدم علينا مثلما تتقدم علينا كثير من الدول الآسيوية، وربما الإفريقية أيضًا. ولكن هذا لا يبرر على الإطلاق احتقار الغرب لنا، أو احتقارنا لأنفسنا بالانسحاق في ثقافة الغرب بما في ذلك قيمه. يحق لنا من دون شك- بل يجب علينا- أن نأخذ عن الغرب، وعن غيره من الدول المتقدمة، أسباب التقدم فيما أحرزوه في مجال العلم وتطبيقاته، وفي مجالات المعرفة عمومًا. وهو تقدم تكمن أسبابه الأولى في جودة التعليم التي نرفع شعارها في بلداننا من دون تحقيق جودة حقيقية في التعليم لأسباب عديدة، فصلت القول فيها في هذه الجريدة وفي جريدتي المصري اليوم والأهرام. ما أقصده أن حالة التقدم والتخلف لا تعني أننا متخلفون على مستوى القيم الأخلاقية والإنسانية التي ندين بها، والتي لا تزال تشكل جزءًا أساسيًّا من هويتنا.
يثير الغرب على الدوام مسألة افتقاد الدول العربية لحقوق الإنسان، وهي مسألة تترد على ألسنة الساسة وفي المؤتمرات وعبر أجهزة الإعلام، وذلك من قبيل: حرية التظاهر والتعبير عن الرأي، وحقوق المهمشين والأقليات، وحقوق المثليين جنسيًّا، إلخ. ولقد كانت مسألة المثلية الجنسية- بوجه خاص- من الأمور الكاشفة خلال الأحداث التي رافقت مونديال كأس العالم في قطر؛ إذ كشفت عن إصرار على توبيخ العرب وإهانتهم بسبب رفضهم لشعارات المثلية الجنسية على قطعة من أرضهم؛ وبحجة أن التعبير عن المثلية الجنسية هو تعبير عن قيمة الحرية الإنسانية التي ينبغي الاعتراف بها والدفاع عنها. ولقد تبدى هذا على المستوى السياسي من خلال مسلك وزيرة الداخلية الألمانية، ومن خلال مسلك اللاعبين الألمان وكذلك الإنجليز على أرض الملاعب؛ وهذا نفسه هو ما جعل العرب يفرحون بخروج الفريق الألماني مبكرًا من البطولة! ومع أن هناك مآخذ مشروعة على حقوق الإنسان في العالم العربي، فإننا نلاحظ أن الغرب لا يراعي حقوق الإنسان إلا فيما يتعلق بشعوبه، ولكنه يستخدم مآخذه على حقوق الإنسان في عالمنا العربي وفقًا لأغراض سياسية. ولذلك فإن هذا الغرب نفسه- الذي تتزعمه الآن منذ عقود الولايات المتحدة الأمريكية- لا يُسائل نفسه فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبها في حقوق البشر حول العالم، بدءًا من جرائمهم في إبادة الشعوب الأصلية في أمريكا، وفي تحطيم العراق، وفي فضائح سجن أبو غريب بالعراق وسجن جوانتانامو بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي فضائح يندى لها جبين الإنسانية.
ومن المسائل التي يأخذها الغرب على النُظم العربية افتقارها إلى الديمقراطية باعتبارها غاية النظم السياسية. ولكن السؤال 'لماذا الديمقراطية؟ يمكن أن يكون سؤالًا كاشفًا هنا. ولا شك في أن النظام الديمقراطي أثبت نجاعته في تقدم دول الغرب، ولكن هذا لا يبرر القول بأنه النظام الوحيد الذي يجب أن تلتزمه كل الدول لكي تكون متقدمة. النظام الديمقراطي له أصوله الغربية القديمة في أثينا الديمقراطية، ومع ذلك فإن أفلاطون نفسه كان معاديًّا لسيادة رأي الجمهور؛ لأن الجمهور غالبًا يكون من العامة والغوغاء، وإدارة شؤون الدولة أو 'الجمهورية' (وهذا هو عنوان محاورة أفلاطون الأكثر شهرة) لا ينبغي أن تكون من شأن ما يراه العوام، وإنما من خلال تلك العقول القادرة على الفهم والرؤية، ومن ثم على اتخاذ القرار الملائم. وإذا كان هذا الأمر يحتمل الجدال، فإنه مما لا جدال فيه أن النظام الأمثل هو ذلك الذي يعمل على تحقيق العدالة في الحكم والقانون وإدارة شؤون البلاد والعباد.
منذ عقدين من الزمان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 التي دبرها تنظيم القاعدة، والتي أفضت إلى تدمير برجي التجارة العالمي بمدينة مانهاتن، واستهدفت أيضًا مقر البنتاجون؛ أصبح السؤال المتداول في الغرب الأمريكي خاصة: لماذا يكرهوننا؟ ومن الملاحظ أن هذا السؤال نفسه أصبح يتردد الآن في عالمنا العربي الذي يتساءل بدوره: لماذا يكرهوننا هم؟ أصبح هذا السؤال كاشفًا عن استنكار حالة العنصرية التي يمارسها الغرب إزاء الدول العربية؛ وهو سؤال لا يتردد فقط على مستوى الكتابات والمقالات العديدة، وإنما أيضًا على مستوى الشعوب العربية نفسها. تردد هذا السؤال مؤخرًا بقوة بعد الأحداث التي جرت على هامش المونديال، وهي الأحداث التي تبدت فيها بوضوح عنصرية الغرب الذي استنكر تنظيم دولة عربية إسلامية للبطولة، واستنكر القيم الثقافية والإسلامية التي تراعيها الدولة المنظمة؛ وقد بات واضحًا بما لا يدعو إلى الشك أن هذا الغرب يريد أن يفرض قيمه الخاصة على الشعوب العربية.
***
هناك الآن حالة من الصحوة العربية تريد الانسلاخ من حالة الانسحاق في ثقافة الغرب وقيمه التي استولت علينا قرونًا عديدة إلى حد تقديسها. ومن هنا أصبح السؤال الذي يُثَار الآن هو: لماذا يظل الغرب هو الأصل والمرجع فيما يتعلق بقيمنا وثقافتنا؟ لنتأمل نظرة الغرب العنصرية فيما يتعلق بقيمه ومعاييره الإنسانية باعتبارها الأصل والمركز الذي يُقَاس عليه البعد والقرب. لنتأمل- على سبيل المثال- تصريحات رئيس وزراء بريطانيا الأخيرة بقوله: إن الصين تشكل تهديدًا، لأنها لا تتوافق مع قيمنا ومصالحنا! أتفهم جيدًا أن يتحدث رئيس وزراء بريطانيا عن تهديدات المصالح، ولكني لا أتفهم كلامه عن تهديدات القيم: فالقيم الخاصة بالشعوب والحضارات لا تشكل تهديدًا بعضها لبعض، بل هي قيم ينبغي أن تتلاقح، أو على الأقل تكون موضع احترام متبادل فيما بين الشعوب المتحضرة ثقافيًّا وإنسانيًّا.
حقًّا إن الغرب متقدم علينا مثلما تتقدم علينا كثير من الدول الآسيوية، وربما الإفريقية أيضًا. ولكن هذا لا يبرر على الإطلاق احتقار الغرب لنا، أو احتقارنا لأنفسنا بالانسحاق في ثقافة الغرب بما في ذلك قيمه. يحق لنا من دون شك- بل يجب علينا- أن نأخذ عن الغرب، وعن غيره من الدول المتقدمة، أسباب التقدم فيما أحرزوه في مجال العلم وتطبيقاته، وفي مجالات المعرفة عمومًا. وهو تقدم تكمن أسبابه الأولى في جودة التعليم التي نرفع شعارها في بلداننا من دون تحقيق جودة حقيقية في التعليم لأسباب عديدة، فصلت القول فيها في هذه الجريدة وفي جريدتي المصري اليوم والأهرام. ما أقصده أن حالة التقدم والتخلف لا تعني أننا متخلفون على مستوى القيم الأخلاقية والإنسانية التي ندين بها، والتي لا تزال تشكل جزءًا أساسيًّا من هويتنا.
يثير الغرب على الدوام مسألة افتقاد الدول العربية لحقوق الإنسان، وهي مسألة تترد على ألسنة الساسة وفي المؤتمرات وعبر أجهزة الإعلام، وذلك من قبيل: حرية التظاهر والتعبير عن الرأي، وحقوق المهمشين والأقليات، وحقوق المثليين جنسيًّا، إلخ. ولقد كانت مسألة المثلية الجنسية- بوجه خاص- من الأمور الكاشفة خلال الأحداث التي رافقت مونديال كأس العالم في قطر؛ إذ كشفت عن إصرار على توبيخ العرب وإهانتهم بسبب رفضهم لشعارات المثلية الجنسية على قطعة من أرضهم؛ وبحجة أن التعبير عن المثلية الجنسية هو تعبير عن قيمة الحرية الإنسانية التي ينبغي الاعتراف بها والدفاع عنها. ولقد تبدى هذا على المستوى السياسي من خلال مسلك وزيرة الداخلية الألمانية، ومن خلال مسلك اللاعبين الألمان وكذلك الإنجليز على أرض الملاعب؛ وهذا نفسه هو ما جعل العرب يفرحون بخروج الفريق الألماني مبكرًا من البطولة! ومع أن هناك مآخذ مشروعة على حقوق الإنسان في العالم العربي، فإننا نلاحظ أن الغرب لا يراعي حقوق الإنسان إلا فيما يتعلق بشعوبه، ولكنه يستخدم مآخذه على حقوق الإنسان في عالمنا العربي وفقًا لأغراض سياسية. ولذلك فإن هذا الغرب نفسه- الذي تتزعمه الآن منذ عقود الولايات المتحدة الأمريكية- لا يُسائل نفسه فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبها في حقوق البشر حول العالم، بدءًا من جرائمهم في إبادة الشعوب الأصلية في أمريكا، وفي تحطيم العراق، وفي فضائح سجن أبو غريب بالعراق وسجن جوانتانامو بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي فضائح يندى لها جبين الإنسانية.
ومن المسائل التي يأخذها الغرب على النُظم العربية افتقارها إلى الديمقراطية باعتبارها غاية النظم السياسية. ولكن السؤال 'لماذا الديمقراطية؟ يمكن أن يكون سؤالًا كاشفًا هنا. ولا شك في أن النظام الديمقراطي أثبت نجاعته في تقدم دول الغرب، ولكن هذا لا يبرر القول بأنه النظام الوحيد الذي يجب أن تلتزمه كل الدول لكي تكون متقدمة. النظام الديمقراطي له أصوله الغربية القديمة في أثينا الديمقراطية، ومع ذلك فإن أفلاطون نفسه كان معاديًّا لسيادة رأي الجمهور؛ لأن الجمهور غالبًا يكون من العامة والغوغاء، وإدارة شؤون الدولة أو 'الجمهورية' (وهذا هو عنوان محاورة أفلاطون الأكثر شهرة) لا ينبغي أن تكون من شأن ما يراه العوام، وإنما من خلال تلك العقول القادرة على الفهم والرؤية، ومن ثم على اتخاذ القرار الملائم. وإذا كان هذا الأمر يحتمل الجدال، فإنه مما لا جدال فيه أن النظام الأمثل هو ذلك الذي يعمل على تحقيق العدالة في الحكم والقانون وإدارة شؤون البلاد والعباد.