محيط كتمندو.. سِفر أسفار الروح والمعنى
الاثنين / 10 / جمادى الأولى / 1444 هـ - 18:37 - الاثنين 5 ديسمبر 2022 18:37
أي شعور سيجده الكاتب الشغوف بالأدب والسفر بعد الانتهاء من قراءة كتاب (محيط كتمندو: رحلات في الهيمالايا، دار مسعى 2016) للكاتب الرحالة والشاعر محمد الحارثي (1962- 2018)، وأي تجربة يمكن كتابتها بعد تسلق قمم المعاني والتعمق في السرد المُزنر بسحر الكلمات وفيض البوح الباذخ بالتفاصيل الدقيقة، فمحيط كتمندو يتخطى التنقل والترحال الجغرافي إلى خلاصة تجربة إنسانية متعمقة في الحياة والثقافة، عاشها كائن حمل روحه على كفوف الأخطار متوغلا في الدروب والمتاهات التي يعرف منافذها ومخارجها، ليرضي النفس التواقة للذة الاكتشاف وهتك حجاب المجهول، وإلا كيف نفهم مزاجية كاتب أجرى عملية قلب مفتوح وبعد ستة أشهر يسافر إلى التبت في رحلة كادت أن تؤدي بحياته في المناطق المرتفعة التي يقل فيها الأوكسجين، بل يذكر أنه تجاهل موعد الفحص الإجرائي لكي يقوم بزيارة التبت في خريف 2013.
أهدى المؤلف كتابه إلى شقيقه عبدالله (1966-2012) الذي رافقه في رحلة ربيع 2011، وهي آخر الرحلات التي تجمع الشقيقين 'لم أعرف لحظتها أن تلك الرحلة ستكون آخر رحلاتي بمعيته، لم أعرف أنه سيرحل فجأة بعد عام، وسيتركني وحيدا في مفازة الحياة، ولن يقرأ الكتاب الذي حثني على استكماله.. واليوم أرى أن حزني عليه أكبر من اتساع الكلمات، لهذا حاولت أن أستعيده وهو حيّ، أن أكتب كيف كان في تحليقه وطيرانه وأجنحته المُحلقة في الحياة وطُرفه اللاذعة ومحاوراته الذكية وتلميحاته الخلاّقة'.
يجد القارئ في أثر رحلات الحارثي المواقف الإنسانية السامية التي تُعبر عن عمق الكاتب وامتنانه لمن يقدم له خدمة أو معروفا، هو الحائز على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي 'ارتياد الآفاق' في دورتها الأولى 2003 عن كتابه عين وجناح، الجائزة التي يشرف عليها المركز العربي للأدب الجغرافي بدعم وتمويل الشاعر محمد بن أحمد السويدي والذي شكره الشاعر محمد الحارثي، على دعمه المادي والمعنوي، إذ قام برحلة إلى الهند عام 2005، قادته إلى رحلات إلى النيبال بعد تعرفه على النيبالي بينود شارما، الذي سيرافقه في رحلاته إلى الجبال والهضاب، ثم سيلتحق بالعمل في عُمان في واحة نهار السياحية المملوكة لعبدالله الحارثي. إن المتمعن في رحلات محمد الحارثي سيجدها أبعد من كونها زيارات عابرة أو رحلات سياحية للأمكنة، إذ يخلق الحارثي صداقات مع أصحاب المكان ومع الأصدقاء والرفاق الذين يترك فيهم أثرا حسنا مثلما يقول الطيار النيبالي دامو الذي مد له محمد ورقة 100 دولار وهما في الجو في طائرة شراعية أراد الكاتب التحليق بها في سماء بخارا، وحاول الطيار دامو أن يقوم بتحليق مجاني لأجل صديقه لكنه تفاجأ به يمد له الورقة في الجو مهددا إياه برمي الورقة إن لم يمسكها 'عزيزي محمد، عرفتُ كثيرين في هذه المهنة من كافة أصقاع الأرض. دربتُ كثيرين على الطيران وحلقت معهم وأعطيتهم شهادات الكفاءة، لكنني لم أحظ بلحظة شاعرية كهذه اللحظة التي اخترت أنت السماء لتحقيق رمزيتها بيننا صديقين. شكرا لك، وشكرا لأريحيتك. لأني قمتُ بهذه الرحلة ولم أتوقع أن أهبط منها وفي جيبي مائة دولار'، هذه الروح الجميلة التي يتحلى بها الحارثي نجدها في بداية الكتاب حينما يذكر قصة الشاعر سعدي يوسف (1934-2021) وقصيدته المنشورة في القدس العربي 2011، والتي هجا فيها محمد الحارثي وأخيه عبدالله بعد خلاف سعدي مع صديقته الشاعرة الاسكُتلندية جوان ماكِنللي. فيذكر الحارثي في حاشية (ص58) ' لم يرد عليه أحدنا احتراما لمقامه الشعري'. نُبل أخلاقي وحلم يعبر عن حقيقة الشاعر مرهف الحس الذي يشعر بمعاناة الآخرين وفاقتهم مثل إيشور النيبالي عازف الهارمونيكا والناي الذي يطبخ ويعزف للسياح مقابلة لقمة العيش والهدنة المؤقتة مع زوجته التي تهدده بالطرد إن لم يحضر لها أكياس الرز والعدس.
أبدع محمد الحارثي في الكتابة عن أدب الرحلة المعاصرة منذ كتابه الأول عين وجناح، إذ يتطلب ذلك المجال نفسا أدبيا عميقا وثقافة شاملة، وإطلاع واسع في مجالات ثقافية وفنية موازية، فلا يكفي وصف الأمكنة ولا تعريف القارئ بالمدن، بل لا بد من توفر حساسية مفرطة تجاه الزمان والمكان وذكاء عاطفي للتعامل مع مختلف الثقافات.
أهدى المؤلف كتابه إلى شقيقه عبدالله (1966-2012) الذي رافقه في رحلة ربيع 2011، وهي آخر الرحلات التي تجمع الشقيقين 'لم أعرف لحظتها أن تلك الرحلة ستكون آخر رحلاتي بمعيته، لم أعرف أنه سيرحل فجأة بعد عام، وسيتركني وحيدا في مفازة الحياة، ولن يقرأ الكتاب الذي حثني على استكماله.. واليوم أرى أن حزني عليه أكبر من اتساع الكلمات، لهذا حاولت أن أستعيده وهو حيّ، أن أكتب كيف كان في تحليقه وطيرانه وأجنحته المُحلقة في الحياة وطُرفه اللاذعة ومحاوراته الذكية وتلميحاته الخلاّقة'.
يجد القارئ في أثر رحلات الحارثي المواقف الإنسانية السامية التي تُعبر عن عمق الكاتب وامتنانه لمن يقدم له خدمة أو معروفا، هو الحائز على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي 'ارتياد الآفاق' في دورتها الأولى 2003 عن كتابه عين وجناح، الجائزة التي يشرف عليها المركز العربي للأدب الجغرافي بدعم وتمويل الشاعر محمد بن أحمد السويدي والذي شكره الشاعر محمد الحارثي، على دعمه المادي والمعنوي، إذ قام برحلة إلى الهند عام 2005، قادته إلى رحلات إلى النيبال بعد تعرفه على النيبالي بينود شارما، الذي سيرافقه في رحلاته إلى الجبال والهضاب، ثم سيلتحق بالعمل في عُمان في واحة نهار السياحية المملوكة لعبدالله الحارثي. إن المتمعن في رحلات محمد الحارثي سيجدها أبعد من كونها زيارات عابرة أو رحلات سياحية للأمكنة، إذ يخلق الحارثي صداقات مع أصحاب المكان ومع الأصدقاء والرفاق الذين يترك فيهم أثرا حسنا مثلما يقول الطيار النيبالي دامو الذي مد له محمد ورقة 100 دولار وهما في الجو في طائرة شراعية أراد الكاتب التحليق بها في سماء بخارا، وحاول الطيار دامو أن يقوم بتحليق مجاني لأجل صديقه لكنه تفاجأ به يمد له الورقة في الجو مهددا إياه برمي الورقة إن لم يمسكها 'عزيزي محمد، عرفتُ كثيرين في هذه المهنة من كافة أصقاع الأرض. دربتُ كثيرين على الطيران وحلقت معهم وأعطيتهم شهادات الكفاءة، لكنني لم أحظ بلحظة شاعرية كهذه اللحظة التي اخترت أنت السماء لتحقيق رمزيتها بيننا صديقين. شكرا لك، وشكرا لأريحيتك. لأني قمتُ بهذه الرحلة ولم أتوقع أن أهبط منها وفي جيبي مائة دولار'، هذه الروح الجميلة التي يتحلى بها الحارثي نجدها في بداية الكتاب حينما يذكر قصة الشاعر سعدي يوسف (1934-2021) وقصيدته المنشورة في القدس العربي 2011، والتي هجا فيها محمد الحارثي وأخيه عبدالله بعد خلاف سعدي مع صديقته الشاعرة الاسكُتلندية جوان ماكِنللي. فيذكر الحارثي في حاشية (ص58) ' لم يرد عليه أحدنا احتراما لمقامه الشعري'. نُبل أخلاقي وحلم يعبر عن حقيقة الشاعر مرهف الحس الذي يشعر بمعاناة الآخرين وفاقتهم مثل إيشور النيبالي عازف الهارمونيكا والناي الذي يطبخ ويعزف للسياح مقابلة لقمة العيش والهدنة المؤقتة مع زوجته التي تهدده بالطرد إن لم يحضر لها أكياس الرز والعدس.
أبدع محمد الحارثي في الكتابة عن أدب الرحلة المعاصرة منذ كتابه الأول عين وجناح، إذ يتطلب ذلك المجال نفسا أدبيا عميقا وثقافة شاملة، وإطلاع واسع في مجالات ثقافية وفنية موازية، فلا يكفي وصف الأمكنة ولا تعريف القارئ بالمدن، بل لا بد من توفر حساسية مفرطة تجاه الزمان والمكان وذكاء عاطفي للتعامل مع مختلف الثقافات.