أعمدة

" أعطوه أو منعوه " !

 
لم أر ' أبو منذر ' الصديق الشاميّ العزيز فترة امتدت لسنوات طويلة بسبب انتقالي من المكان الذي كنت أسكن فيه حيث يقع مطعمه.. الرجل كان يدير مطعمًا معروفًا داخل محطة بترول ' وادي عدي ' المقابلة تمامًا ل' حِلة السد '.

فاجئني ' أبو منذر ' ذات نهار وأنا بالمقهى القريب من البحر بينما هو يمارس رياضة المشي على شاطئ ' القرم ' بصحبة زوجته عندما جاء ليسلّم عليّ ويُعلمني أنه باع المطعم منذ مدة وبدأ في ممارسة عمل تجاري جديد يدر عليه ربحًا جيدًا يفُوق ما كان يدره المطعم.

أعادني لقاء ' أبو منذر ' الخاطف مباشرة إلى حديث الصديق ' حسام حنفي ' الذي سألته مرة: كيف تعثرون أنتم أحبائنا العرب على أعمال عندنا والبعض يقول إنها ' شحيحة ' فأجابني بمصريته: ' قدام عيونكم أشغال كتيرة بس للأسف ما بيتشوفوهاش أو مُش عايزين تشوفوها '.

هذا الموقف يقودني الآن للحديث عن ظاهرة مؤسفة آخذة في التنامي وهي ظاهرة ' الاستجداء ' القبيحة التي تشوهُ صورة الإنسان السويّ، وتطبع المجتمع بالسلبية التي بدأت تطلُ برأسها تحت مبررات لا يمكن قبولها في بلدِ يأتي إليه الناس من غير أهله ليطلبوا الرزق ويعيشوا فيه عيشة طيبة ويساعدوا من خلال أعمالهم أُسرهم في بلدانهم.

ولأن مفهوم ' الاستجداء ' يعني طلب المساعدة الماديّة من الناس في الأماكن العامة والخاصة كالطرقات والمحلات التجارية بكثير من الانكسار والهوان أصبح من المألوف جدًا أن يطرق شاب في مقتبل العمر عليك نافذة سيارتك ليطلب ريالًا للعشاء أو أن تملأ له خزان سيارته الممولة بقرضِ طويل الأمد بالوقود، أو أن تقتحم امرأة المقهى وتمر على الطاولات طاولة طاولة لطلب مساعدة لا يُعرف أين تذهب ولا ما يبرر طلبها، أو أن يبرز لك أحدهم فواتير الكهرباء في قارعة الطريق عدا التسول الإلكتروني بمنصات التواصل المختلفة الذي يأخذ أشكالًا لا حصر لها.

ومن باب حب المعرفة بالشيء وعدم الاكتفاء بما يتداول في المجالس والمقاهي من ظواهر لم تكن مألوفة لأغراض متباينة جُلها كيدية وغير موضوعية بادرت وسألت أكثر من شاب في مواقف مختلفة عن الأسباب الخفية التي تقف وراء إقدامه على الاستجداء، والطلب من الناس وإراقة دم وجهه وهو ما لا يتفق مع كرامته وأنفته وطبيعة تربيته وبيئته.

جاءت إجابات الشباب الذين لا تحتاج إلى أدنى عناء لتلمح مقدار الصحة والحيوية التي تنضح بها وجوههم وأجسامهم متشابهة تُعيدُ نفس الأسطوانة المشروخة ' التوظيف متوقف منذ فترة طويلة والبيانات والأرقام التي تصدر عن الجهات المختصة حول هذه العملية جميعها ' مزيفة ' وغير حقيقية.. الحاصل هو إعادة تدوير وطرح الوظائف لتبدو متوفرة ' يصرُ جميعهم أنهم ' لا يعرفون أي أحد من أهاليهم قد تم توظيفه '.

ردات الفعل هذه تتناقض تمامًا مع ما حصل لدى الصديق ' أبو منذر ' الذي ينتقل بين عمل وآخر بكل سهولة ويُسر، وتصطدم كذلك مع وجهة نظر الصديق حُسام حنفي الذي جاء إلى بلادنا ليبحث عن عمل شريف لا ليركن إلى الراحة وينتظر معونة المحسنين في بلاده.

وبطبيعة الحال أنا هنا لست بصدد تفنيد وتصحيح ما يُطرح من أرقام رسمية تتعلق بالتوظيف الحكومي أو في القطاع الخاص؛ لأن ذلك من اختصاص جهات أُخرى رسمية غير أنني كآخرين كُثر أشعر بالأسى والأسف أن يذهب شاب زهرة عمره يمد يده منتظرًا الوظيفة الحكومية التي قد تتأخر لأسباب تنظيمية تضمن العدالة له ولغيره يمضيه بين التشّكي والتذمر والنوم والركون إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي داخل عالمها الموبوء مفقود والخارج من اُتون مستنقعها مولود.

أشعر بالأسف فعلًا أن تُسهم بعض الجمعيات الخيرية والأشخاص الخيرون ' بحُسن نية ورغبة في الأجر ' في جعل هؤلاء الشباب سادرين في السلبية بجعلهم ينتظرون المعونة الشهرية، وكان أولى لهم أن يزودوهم بما يضمن لهم تأسيس مشاريع صغيرة من خلال شراء أدوات تُعين على ذلك كالحواسيب، وأدوات الرسم، والفلاحة للشباب أو أدوات الخياطة والطبخ للشابات ليعتمدوا على أنفسهم، ويحفظوا ماء وجوههم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

في مختلف ولايات سلطنة عُمان شباب آثروا العمل على انتظار الوظيفة، وتجنبوا استجداء صدقة الناس أعطوهم أو منعوهم فأقاموا مشاريعهم الخاصة، وطوروا أفكارهم البسيطة فكانوا موضع تقدير من المجتمع، وعلى رأسهم جلالة سلطان البلاد المُفدى - أيده الله - الذي أشاد بشباب ولاية الحمراء وإقدامهم على العمل في العديد من المشاريع الصغيرة التي توظف مفردات البيئة العُمانية والتاريخ والتراث والطبيعة البِكر.

آخر نقطة

أَنَّ الشَبابَ وَالفَراغَ والجدة

مَفسَدَةٌ لِلمَرءِ أَيُّ مَفسَدَة

أبو العتاهية