أعمدة

البطاريق الكبار ـ رهين المحبسين 5

مقدمة تحقيق الدكتور السعيد السيد عبادة «2»

 
تحدثنا في الجزء السابق الذي حاولنا فيه تسليط الضوء على بعض مكامن القوة في عمل محقق ديوان «سِقط الزَّند» لأبي العلاء المعري، الدكتور السعيد السيِّد عِبادة. وأخذنا الدكتور عبادة في جولة شيقة ماتعة وقفنا فيها على مشاهد من آثار المعري وتلامذته وما يتعلق بالسِّقط وشرحه، على أن عمله في هذا الكتاب عمل محقق رصين وأكاديمي بارع لا تستغني فيه عن قراءة مقدمته بكثير من التأمل والتمحيص المفيد. ونتناول اليوم الجزء الثاني من هذه المقدمة، وهذا الجزء مخصص للحديث عن «ضوء السِّقط» أي الشرح الذي وضعه المعري على ديوانه «سِقط الزَّند».

يبتدئ السيد عبادة الجزء الثاني من مقدمته الرائعة على «سِقط الزَّند وضوءُه» والذي عنونه بـ«ضوء السِّقط» بخلاصة مفادها أنه «إذا كان (سِقط الزَّند) من أول ما أملى أبو العلاء كما بينت، فإن ضوء السقط من آخر أماليه كما سأبين. لكنه -وإن كان من آخرها إملاءً- ليس من أقلها شأنا، بل هو على التحقيق من أجلِّها قدرا، ومن أعظمها أثرا». معقبا بعد ذلك حديثه عن الأمور التي جعلته يكتب هذه الخلاصة، وهي أربعة. أولاها أنه شَرْحُ المعريِّ لشِعره، «ذلك الشرح الذي لم يُسبَق إلى مثله»، و»إذا كان الشاعر أعلم الناس بمراده، وأقربهم إلى فهم الشعر، فإن (ضوء السقط) يعد وثيقة مهمة، بحديث المعري فيها عن مراده وفهمه معا». والثانية «أنه يرينا من أبي العلاء نمطا فذا بين أدباء العربية، بنقده لشعره، ذلك النقد الذي الذي لم يكن على هذا النحو قبله، وكان للفظ بأنه نادر، أو أقل، أو غيره أخف، أو المختار، أو الأفصح، وكان للمعنى بأنه جديد، أو مأخوذ، أو مشترك، أو مبالغة، أو ادّعاء، أو دعوى ظالمة، أو كذب صراح يستقيل الله منه». والثالثة أنه «صُدِّر بمقدمة نفيسة لا نظير لها في مقدمات أبي العلاء، لما تضمنته من صفة حياته ومزاجه وموقف الناس منه». وآخرها «أنه قد شهد لصاحبه بحسن الخاتمة عند من ساء ظنهم به واتهموه».

يعرج بعدها الدكتور على الحديث عن عناية القدماء بكتاب المعري، وقد اعتمد في هذا الباب على كتاب «تعريف القدماء بأبي العلاء» في أكثره، وهو الكتاب الذي جمعه عمالقة مصر من نصوص المتقدمين عن أبي العلاء منذ عصره حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، وهم مصطفى السقا، وعبدالرحيم محمود، وعبدالسلام هارون، وإبراهيم الأبياري، وحامد عبدالمجيد، وبإشراف أحد أعمدة الأدب العربي الحديث الدكتور طه حسين. يذكر الدكتور عبادة، وبالعودة إلى نصوص المتقدمين بعضا ممن اعتنوا بأبي العلاء ونصوصه، كابن الوردي وابن العربي، وابن خير الإشبيلي، والوزير الكُلاعي وغيرهم. ومن الجدير بالذكر، أن عنايتهم به كانت متقدمة جدا، حتى أن كتبه وشروحه قد بلغت إشبيلية منذ وفاة المعري حتى أواخر القرن السادس، فإذا علمت هذا «أدركت مقدار ما أتيح للكتاب من ذيوع وشيوع ببغداد وإشبيلية في هذا الوقت المبكر».

يذكر التبريزي -وهو تلميذ المعري- في شرحه للسِّقط حسرته، وذلك أن الرجل الذي طلب من أبي العلاء أن يشرح ديوانه «وقعَ فيه تقصير من جهة المُستملي، وذلك أنه استملى بعض الأبيات منه، وأهمل أكثر المشكلات، وإذا استملى معنى بيت، لم يستقصِ في البحث عن إيضاحه، فجاء التفسير كأنه لُمع من مواضع شتى، لم يُشفَ به الغليل، ولا يُعرف من الغرض إلا القليل». ونجد إثبات كلام التبريزي عند ابن خِلّكان صاحب الوفيات، ففي ترجمته لابن السيد البطليوسي يقول: «وشَرَحَ سِقط الزَّند لأبي العلاء المعري شرحا استوفى فيه المقاصد، وهو أجود من شرح أبي العلاء صاحب الديوان» ليعقب الدكتور عِبادة -وهو العارف الحصيف بالمعري- «وليس يقول هذا القول إلا من قرأ (ضوء السقط)، ثم (شرح ابن السيد) قراءة دقيقة». وفي هذا الباب كذلك، نبَّه الدكتور عِبادة على خطأ وقع فيه حاجي خليفة صاحب كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون.

لينتقل بعدها إلى الحديث عن عناية المحدثين بالكتاب، ومنهم بروكلمان صاحب كتاب تاريخ الأدب العربي، وبيَّن الدكتور عِبادة -مرة أخرى- الخطأ الذي وقع فيه بروكلمان هذه المرة. وفي هذا الباب، وبعد عرض عناية المتقدمين والمتأخرين بالكتاب، يطمئن السيد عبادة إلى القول بأنه يقدم «الكتاب الحقيقي لأول مرة» بعد ما نال الكتاب من التصحيف والتحريف في النسخ المحفوظة.

يتساءل الدكتور عبادة في معرض حديثه عن توثيق الكتاب، «هل (الضوء) شرح للسقط كله كما يبدو من قول المكي، أو شرح للغته دون معناه كما ذكر الكُلاعي؟ أو تفسير لما جاء فيه من الغريب كما قال أبوالعلاء؟» ليُتبع ذلك بقوله وكما ظهر له من قراءته «أنه ليس شرحا للسقط كله، لأنه لم يتناول كل بيت، ولا كل قصيدة ومقطوعة، كما أنه ليس شرحا للغة دون المعنى إلا في القليل، لأن صاحبه -كما شرح اللغة- شرح المعنى، واحتج له وأصَّله، وبيَّن مآخذه، ومزيَّته، في كثير من الأبيات التي عرض لها». وقد أشار المعري في مقدمته إلى مثل ذلك حين قال عمن طلبه منه وهو أبو عبدالله الأصفهاني: «وسألني أن أشرح له ما يستعجم عليه من الكتاب»، يعقب الدكتور عليه «فالشرح المطلوب إذا لما يستعجم، أي ما يَسْتَبْهِم، وما يَسْتَبْهِم ليس في كل بيت، كما أنه ليس في اللفظ دون المعنى». يتحدث السيد عبادة عن السبب الذي جعل المعري يترك شرح (الدِّرعيات) من السقط بقوله: «إنما تركها -فيما يبدو- لأن الوقت لم يتسع لشرحها، أعني الوقت الذي أملى فيه (الضوء)، فقد أملاه في آخر حياته.. وما أظنه توقف عن الإملاء والشرح إلا قُبَيل نهايتها، بدليل أن الذي أُملِيَ عليه الشرح قد أدرك هذه النهاية وحدّث بها».

تتجلى نباهة المعري في العنوان الذي يختاره لكتبه، فقد «شبه أول ما سمح به طبعه بسِقط الزَّند؛ أي أول ما يسقط من الزَّند عند القدح، وهو الشرار المتطاير قبل استحكام الوَرْي. وشبَّهَ شرحه الذي لم يشمل هذا الشعر كله بضوء السِّقط، الذي لا ينير ما ظهر فيه، بل أجزاء منه. ولأن سِقط الزند، وضوء السقط اللذين شبه بهما، في غاية الضعف والضآلة، كان في التسمية بأيهما من التواضع ما فيها».

بعد هذا الحديث، ينتقل الدكتور عبادة إلى زمن الإملاء الذي قدَّره بنحو عام، فمكانه وهو بيت المعري، فالحالة التي كان المعري عليها زمن الإملاء جسميا وعقليا ونفسيا كذلك؛ وكعادة الدكتور عبادة، لا يذكر شيئا أو يعرض رأيا إلا ويسنده بالدليل من كتب المعري أو كتب تلامذته ومعاصريه. وفي معرض حديثه عن طريقة المعري في الشرح، فقد أجملها في اثنتي عشرة نقطة من ص122 حتى ص124. مختتما مقدمته بالحديث المفصل عن نُسَخ الكتاب وعمله فيه. وفي الخاتمة يجيب عن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ «إذا كان (الضوء) قد نسخ مع (السِّقط) ودونه، فأيهما الأشبه بما أملاه أبو العلاء؟» فيجيب «هو ما نُسِخ دون (السِّقط)، أي ما لم يتضمن (السِّقطَ) كله، بل ما تضمن المطالع وأول المشروح». «ولأن نسخة (الأصل) هي الأشبه بما أُملي، وهي التي خلصت له.. كانت هي التي اعتمدت عليها في نسخ الكتاب وتقديمه، دون أن أهمل ما ورد منه في غيرها».

هكذا نصل إلى ختام حديثنا عن مقدمة محقق الكتابين، لنتحدث في الحلقة القادمة عن الكتابين معا.

علاء الدين الدغيشي - كاتب عماني