أفكار وآراء

الذكاء الثقافي في عالم الأعمال

يحدثنا تقرير (الذكاء الثقافي. كيف يمكن للعلامات التجارية والاتصالات السفر عبر الثقافات؟)، الصادر عن مجموعة إيبسوس (Ipsos) في باريس، عن ارتباط عالم الإعلانات والعلامات التجارية والاتصالات بالثقافة والإبداع؛ ومدى التأثير الجماهيري لأي إعلان أو علامة تجارية واختلافهما بين الدول من ناحية، والإمكانات التي توفرها ثقافة هذه الدول لتَقبُّل العلامات التجارية الواردة إليها من ناحية أخرى، بل كيف يمكن أن تسعى أي علامة تجارية للتصوير في بلد آخر سعيا لإيجاد نافذة ثقافية جماهيرية ضمن مفهوم (قابلية النقل) من ثقافة إلى أخرى.

وتحت عنوان (الثقافات. قيادة النجاح للتسويق عبر الحدود) يستعرض التقرير تعريفا عامة للثقافة باعتبارها كل ما يحيط بنا من "قيم ومعتقدات وتقاليد وطقوس وعادات ورموز يمكن أن تظهر بطرق عدة مختلفة"، ولهذا فإن إمكانات تحديد ثقافة مجتمع معيَّن وتوصيفها (ليس بالأمر السهل) – بتعبير التقرير ؛ ذلك لأن الثقافة في تطور مستمر ومرن، يحمل كل ما مضى، وكل ما هو جديد في المجتمع. إنها ثقافات محلية ضمن الثقافة الوطنية، تقدِّم نفسها بوصفها مفهوما جامعا، لا يمكن التعبير عنه. إنها (ما تبقى عندما ننسى كل شيء) – على حد تعبير التقرير –، لأنها الشيء الراسخ والباقي في المجتمعات على اختلافها ودرجات تطورها.

إن العلامات التجارية والإعلانات تعمل وفق ذلك المفهوم المرن والمتطور للثقافة من ناحية، والمفهوم الذي يحمل القيم والمعتقدات من ناحية أخرى، ولهذا فإن هذه العلامات وتلك الإعلانات عليها قبل تحديد هدفها الذي تنقل به فكرتها ورؤيتها، فهم ثقافة المجتمع الذي تخاطبه سواء أكان محليا ، أو إقليميا أو حتى عالميا؛ ذلك لأنه سيعتمد على (فهم قابلية النقل الثقافي)، الأمر الذي يساعد على "فهم مجالات التشابه والاختلاف، وأثرهما في تحسين كيفية تنشيط/نشر التواصل والمشاركة عبر الحدود" – حسب إيبسوس –، ففهم الثقافة يُسهم في دمجها مع (أنماط السوق) و(الفئات التجارية) و(العلامات التجارية)، وبناء نطاقات إبداعية، توسِّع من آفاق جماهيرية الثقافة في مجتمعها أو المجتمعات الأخرى. إنه (الذكاء الثقافي) في صناعة العلامات التجارية وقدرة تلك الثقافة على اختراق آفاق الثقافات الأخرى وتحقيق الجماهيرية المحلية أو الإقليمية وبالتالي دخول أسواقها التجارية.

يكشف التقرير عن أثر ظهور الثقافات الاجتماعية في (مدونات التواصل والمشاركة) في إطار الثقافة المحلية الواحدة أو الإقليمية؛ فعندما يتم التواصل بين أفراد المجتمع في هذه المدونات، ضمن الحياة الاجتماعية والتبادلات الثقافية المختلفة والكشف عن الآراء والقيم والمعتقدات وثقافة الدول بشكل عام، فإن هذه السياقات تمثِّل (المصدر الدافع) – كما يطلق عليه التقرير –، والذي يفهم منه الآخر (المتلقي) (ما الذي يحرِّك الناس داخل هذه الثقافة ويدفعهم؟)، وهو السؤال الذي ستُسهم الإجابه عنه في تحديد (موقف التغيير) الذي ينتظره المجتمع؛ إما بالقدرة على تسويق ثقافة المجتمع باعتبارها (علامة تجارية) تقود إلى جذب الاستثمار والأسواق التجارية، وإما (الاستعداد للتغيير) والقدرة على استقبال الجديد والانفتاح عليه دون حواجز، وهو الأمر الذي يدفع إلى استقبال ثقافة الآخر ودعمها وتسويقها باعتبارها ثقافة بديلة.

إن الأمر يستدعي (الذكاء الثقافي) الذي يجعل من الثقافة المحلية الوطنية، ثقافة متنقلة، قادرة على منافسة الثقافات الأخرى، مما سيُسهم في اتخاذ إجراءات ضمن منظومة التواصل والاتصالات والإعلام نفسه من أجل تسويق الثقافة باعتبارها (علامة تجارية)، والحال هنا لا يتعلَّق بدور هذه الوسائط وحسب بل أيضا في أهمية الإعلانات نفسها التي تتخِّذ من الثقافة المحلية مرتكزا أصيلا للمنتج الإعلاني، ولذلك فإن أكثر التساؤلات التي يطرحها المستثمرون في أي منتج هي (كيف يمكننا تطوير حملة إعلانية إبداعية يتردد صداها في أكثر من بلد؟ وما المعلومات الخاصة بالتفاصيل الثقافية والإعلانية في كل سوق التي يجب أخذها في الحسبان من أجل تحقيق أقصى قدر من فرص النجاح؟) – كما ما ورد في تقرير إيبسوس –، ولهذا فإن العالم اليوم ينظر إلى منصات التواصل الاجتماعي والوسائط الإلكترونية باعتبارها منتجا إعلانيا عن ثقافة البلدان؛ أي أن ما نكتبه عن وطننا هو ما نريد أن يعرفه العالم عنَّا، وبالتالي إما أن نسوِّق أوطاننا بإيجابية وأن نعكس صورة ثقافتنا كما ينبغي للآخر معرفتها، وإما أن نسوقِّها بطريقة لا تليق بها ولا بنا.

ولأن الثقافة متغيرة؛ تتأثَّر ضمن العالم المفتوح بأنماط ثقافية جديدة، فإن من أبرز التحديات التي تواجه المُعلنين عن منتجاتهم خارج نطاقهم المحلي تكمن في (الذكاء الثقافي)؛ ذلك لأن ثقافة أي بلد تتخذ أشكالا متعددة الأبعاد، ولعل هذا ما يجعل الشركات تعتمد على البيانات و(الخوارزميات) والذكاء الاصطناعي وغيرها من السُبل التي يمكن من خلالها إيجاد منافذ للولوج إلى ثقافة البلدان المستهدفة من الإعلان أن العلامة التجارية، من أجل الوصول إلى نقطة توازن بين الفنون الإبداعية المتعلقة بثقافة البلدان والمنتج التجاري، وبالتالي (إعطاء العلامات التجارية والإعلانات جواز سفر للعمل في جميع أنحاء العالم)؛ فالذكاء الثقافي وذكاء التعامل معه والإبداع فيه، وتعزيزه بالبيانات، هي الركائز الأساسية لتطوير أي مُنتج أو أي علامة تجارية.

وعلى الرغم من أن سلطنة عُمان تشهد تناميا كبيرا في تحقيق هذه الركائز من خلال العلامات التجارية في ارتباطها بالثقافة العمانية الأصيلة في غالبها، إلاَّ أن الحلقة تحتاج إلى مراجعة وتطوير وإيجاد استراتيجية واضحة في تحديث هذه العلامات ضمن مفهوم (الذكاء الثقافي)؛ أي إمكانات التسويق الإقليمي والعالمي وفق منظور تسويق الثقافة العمانية، المواكب للتغيرات الثقافية الإقليمية والعالمية، فالذكاء الثقافي يمكن أن يكون (المخطط لإلهام تطوير العلامات التجارية)، وتوفير فرص أكثر رحابة في (أجندة الابتكار)، وفاعلية تسويق المنتج نفسه، فلكي "تسافر الثقافة والإبداع، يجب أن تثق في الذكاء المعزَّز (الإنسان والتقنية معا)" – بتعبير تقرير إيبسوس –.

إن ارتباط الثقافة بالإعلانات والعلامات التجارية يتسع ويزداد تعقيدا في ظل الانفتاح الكبير في الوسائط الإعلامية المختلفة، ولذلك فإن تطوير منظومة هذه الإعلانات والعلامات يحتاج دوما إلى المراجعة بما يتوافق وثقافة (المستهلك)، خاصة ونحن نشهد تطورا متسارعا على المستوى التقني والفكري؛ حيث برزت اتجاهات ثقافية وتيارات لا تخاطب الجمهور مباشرة سوى من خلال هذه الإعلانات وتلك العلامات، وبالتالي فإن الأمر اليوم يمثل إشكالا على مستوى التلقي نفسه، بالإضافة إلى تلك البيانات المغلوطة التي تُنشر عبر الوسائط الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي تؤثر مباشرة على تحويل الرؤى الثقافية، وإنتاج رؤى جديدة ضمن سياق الثقافة المحلية، ولذلك فإن دور الإعلام بوسائطه المختلفة يكمن في تحقيق هذه المعادلة المتوازنة في قدرة الثقافة على إلهام التنمية الإبداعية لتطوير العلامة التجارية ذات الفكرة الإبداعية.

يستعرض إصدار (رهانات الأعمال 2022)، الصادر بالتعاون مع منصة الذكاء الثقافي، تلك المتغيرات التي حدثت في العالم خلال الأعوام القليلة الماضية، وما نتج عنها من تحولات ثقافية في المجتمعات، وما تقدمه من فرص مستقبلية لتلك التحولات في علاقتها ببيئة الأعمال، وهي رهانات ثقافية تدفع منظومة التكنولوجيا، والصحة إلى الاستدامة، وفق مفاهيم (الذكاء الثقافي)، وقدرة الدول على فهم علاقته بالقطاعات الحيوية الأخرى، ولهذا فإن إمكانات تحديد هذه العلاقة تقوم على البيانات الثقافية والبشرية الخاصة بالتحوُّلات التقنية، والأمر هنا سيتعلق أيضا بالممارسات الثقافية اليومية في المجتمع؛ حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد (قراءة ملايين المقالات ووسائل الإعلام وبراءات الاختراع والشركات الناشئة) – حسب الإصدار –، وغير ذلك من الممارسات الثقافية في المجتمع، والتي تشير إلى التغييرات الثقافية، بُغية وضعها في سياقها وتنظيمها في سيناريوهات ستفتح مجالات عدة في عالم الأعمال والأسواق المحلية والإقليمية بشكل خاص.

إن فهم العلاقة بين الذكاء الثقافي وقطاع الأعمال والإعلان يمثل إحدى ركائز المتغيرات المعاصرة التي تحتاج إلى رؤية واضحة سواء في (قابلية النقل) بين الثقافات، أو في تلك الإمكانات توفرها التنقية لتسويق الثقافة المحلية والاعتماد عليها بوصفها منطلقا لتسويق العلامات التجارية إلى بلدان العالم.