أفكار وآراء

من الذي يدير العالم حقا؟

ترجمة أحمد شافعي -

في سبتمبر الماضي، نشر العلماء في جامعة هونج كونج أكمل تعداد للنمل سبق إعداده على الإطلاق. تبلغ الأرقام من الضخامة درجة أنها تبدو ملفقة. إذ قدَّرت الدراسة أن على كوكب الأرض ما لا يقل عن عشرين كوادريليون من النمل أي 20000000000000000 نملة. وذلك يبلغ قرابة مليوني ونصف المليون نملة لكل إنسان. ولأن الدراسة اعتمدت على تقدير متحفظ للنمل الذي يعيش في الأشجار ولم تدرج النمل الذي يعيش تحت الأرض، فيكاد يكون من المؤكد أن التعداد أقل تقديرا للعدد الفعلي، حيث قالت سابين نوتين كاتبة الدراسة للتايمز 'إنني لن أندهش لو تبين بالفعل أن العدد الأساسي أكبر كثيرا'.

صرعني الرقم. فشأن كل طفل في ما أعتقد، مررت بفترة من طفولتي مهووسا بالنمل، منفقا من أصائل الصيف ما لا حصر له في الفناء الخلفي أراقب غموض حياة النمل وجلاله، وكثرته التي لا تصدق، وأناقة تنظيمه لنفسه، والانشغال المذهل الذي كان يبدو عليه.

والأمر الذي كان يخدعني دائما في ما يتعلق بالنمل هو التماثلات بينه وبين البشر، فهو يعيش في مجتمعات، وله جميعا وظائف، ويحتمل تنقلات شاقة يومية إلى العمل، وفي مقابل هذه التماثلات ثمة اختلافات غير مفهومة. فكثير للغاية مما في حياة النمل يبدو لنا غير ذي معنى: فثمة إنكار عميق للذات، ودمج للفرد في المجموع. وثمة غياب لأي قيادة أو تنسيق، فالحياة لدى النمل تفرضها الغريزة والخوارزميات، ومن كليهما ينشأ ذكاء جمعي. ثمة طريقة للتحرك والتواصل من خلال الإشارات الكيميائية، وإنشاء علامات على الطرق من الفرمونات، وغياب تام لأي شكل من الاختناقات المرورية.

لكن تعداد النمل الكوادريليوني جعلني أفكر في النمل بطريقة لم أفكر فيه بها من قبل، إذ أفكر فيه بوصفه سلالة اجتماعية لا تختلف فقط اختلافا لافتا عن سلالتنا، وإنما بوصفها سلالة أرقى منا من نواح كثيرة رقيا لا جدال فيه.

أفكر أن النمل مثال يجدر بالإنسانية أن تحذو حذوه. فعلى مدار ملايين السنين من التطور، توصل النمل إلى سبيل ليصبح هائل العدد دون أن يستنزف العالم من حوله. بل الحق أن العكس هو الصحيح: فلأن النمل يقوم بكثير جدا من الوظائف المهمة لبيئاته، فإن النمل هو 'تلك الأشياء الصغيرة التي تدير العالم' بحسب ما قال عالم البيولوجيا الاجتماعية العظيم والمتحمس للنمل (إي أوه ويلسن) عن النمل وغيره من اللافقاريات.

من الطبيعي للإنسان أن ينزلق إلى التفكير في سلالة البشر بوصفها على قدر ما من الخصوصية. غير أن النمل، من خلال عدد من المقاييس الموضوعية، أهم للحياة على الأرض منا نحن. أشار ويلسن إلى أنه لو اختفى البشر، فلن يتغير في العالم الكثير إلى الأسوأ، أما إذا اختفى النمل أو اللافقاريات، فكل شيء تقريبا سوف يعاني من جراء ذلك. فالنمل يقوم بتهوية التربة ونقل البذور والمساعدة في التحلل، وتلال بيوت النمل تمثل واحات تغذية هي بمثابة الأساس الذي يقوم عليه قطاع كبير من الحياة. وفي ضوء مركزية النمل للحياة على الكوكب، ناهيكم عن أعداده الهائلة، ألا ينبغي أن نفكر في النمل بقدر أكبر من الاحترام. فهو من أكثر أشكال الحياة تعقيدا ونجاحا بين كل ما يدب على كوكب الأرض.

البشر بالطبع أذكى وأضخم من النمل، وعلى مدار السنوات الثلاثمئة ألف الماضية أو نحوها من حكم سلالتا، غزونا الكوكب واستولينا على موارده بدرجة ربما لا نظير لها في تاريخ الحياة. لكن بالمقارنة مع النمل وغيره من الحشرات الاجتماعية ـ من النحل والنمل الأبيض وبعض الزنابير ـ فإن سجلنا محض نقطة هزلية.

فالنمل موجود منذ مئة وأربعين مليون عاما. وهو سمة سائدة في كل نظام بيئي أرضي على الكوكب ـ بل هو غالبا من مهندسي النظم البيئية. وهو المخترع الحقيقي لما نعتقد أنه العديد من المساعي البشرية الأساسية.

فالنمل يقوم بالزراعة منذ ما لا يقل عن ستين مليون سنة. فالنمل آكل الورق، على سبيل المثال، يخرج بحثا عن النباتات ليستعملها في استزراع محاصيل من الفطريات قام النمل بتدجينها لاستعماله الحصري. وثمة أنواع أخرى من النمل لديها قطعان من الحشرات التي تتغذى على عصارات النباتات، يقوم النمل بـ'حلب' تلك الحشرات ليحصل على إفرازاتها الثرية. والنمل أيضا معماريون بارعون، ومقاتلون مبهرون قادرون أيضا على إقامة السلام بالقوة والدخول أحيانا في مفاوضات ونوع من الديمقراطية.

والنمل أيضا لا يمثل جيرة طيبة في كل الأحيان. ولكن حتى حينما يكون النمل مدمرا من وجهة النظر البيئية، يمكنه أن يعلمنا الكثير عن التعاون. فعلى مدار قرابة القرن الماضي، نجحت النملة الأرجنتينية ـ وهي سلالة غازية تطفلت على رحلات بشرية لتنتشر من أمريكا الجنوبية إلى أغلب أرجاء العالم ـ في السيطرة على العالم بتشكيلها هيكلا تنظيميا لعله جديد على التطور، أعني المستعمرة الفائقة.

والمستعمرات الفائقة هي مستعمرات نمل يختلط فيها الأفراد بحرية وسط أعشاش مختلفة تنتشر عبر مساحات شاسعة. ويفعل النمل ذلك لأنه في تكيفه مع الأراضي الجديدة قد قلل بصورة كبيرة من عدوانيته، مما سمح بتكوين مجموعات أضخم كثيرا. وثمة مستعمرة فائقة من النمل الأرجنتيني تمتد لقرابة أربعة آلاف ميل من إيطاليا إلى أسبانيا. وهي 'أضخم وحدة تعاونية مسجلة على الإطلاق' بحسب ما تقول إحدى الدراسات.

هذا الضرب من المرونة الاجتماعية جزء أساسي من أسباب نجاح النمل. ومن الصعب أن نتخيل أن يبقى البشر ـ في غضون ملايين قليلة من السنين ـ ضمن أشكال الحياة المسيطرة على الكوكب. فماذا عن النمل؟ من المؤكد أن أساليب النمل سوف تستمر.

في بحث منشور خلال العام الحالي، قال أستاذا العلوم البيئية كاثرين بار وتوم بيشب إن التغير المناخي نفسه، وهو وصمة العار الكبرى لسلالتنا، قد لا يكون كارثة كبيرة على النمل الذي ستتيح له بنيته الاجتماعية أن 'يتغلب على التغيرات البيئية بدرجة أكبر كثيرا من الكائنات المنفردة'.

وهذا في الحقيقة ليس بمدهش. فقد كان النمل هنا من قبلنا، ومن المحتمل أن يبقى من بعدنا. فهو الذي يدير المكان. وما نحن إلا زوار.

• فرهاد مانجو كاتب عمود نيويورك تايمز.

** 'خدمة نيويورك تايمز' ترجمة خاصة بجريدة عمان