أفكار وآراء

اغتراب الفرد في زمن السوشيال ميديا

ظل مفهوم «الاغتراب» بمعناه الفلسفي حالة مغايرة للألفة. فالمتغيرات التي أصابت الإنسان الحديث بسبب الحداثة وجعلت منه كائنا مستهلكا بحسب عنوان كتاب المفكر الألماني الأمريكي هيربرت ماركوزه: «الإنسان ذو البعد الواحد»، كانت قد قطعت 4 قرون من ذلك «الاغتراب» حين صدور كتاب ماركوزة في ستينيات القرن الماضي.

إن «الاغتراب» الذي بدا لأول وهلة في أوروبا مع حركة تحطيم النظام الإقطاعي وكان من نتائج الإصلاح الديني للبروتستانتية، أخرج طبقات كثيرة من البشر، قاذفًا لهم خارج أزمنة الألفة، وبدَّل أنماط حياتهم التي كانت تحدد لهم معنى للانتماء والحرية -بحسب حنة آرندت-؛ هذا الاغتراب يعكس لنا اليوم في عصر السوشيال ميديا معنى مضاعفًا لخضوع الإنسان خضوعا سريا ودون معرفته بما يتجاوز ذلك الخضوع الذي كان لحاجاته البيولوجية عبر تلبية غريزة الاستهلاك وإكراهاتها التي كانت تجعل منه كائنا منظما ومطيعا بحسب سلطة ونظام يبدوان كما لو أنهما ناموس كوني لا فكاك منه!

وإذا كانت مواجهة أنماط التوجيه اللاإرادي عبر قوى ناعمة خفية وإيحاء منظم لبيان الأمور كما لو أنها من طبيعة الأشياء في تحريك خيارات الأفراد عبر قيود لا مرئية؛ هي من أقوى الاعتراضات على أساليب المجال العام لأنظمة الحداثة، من بعض فلاسفة ما بعد الحداثة (أسرار صناعة الخطاب في فلسفة فوكو نموذجًا) فإن ما نشهده اليوم من خطورة الاستثمار الخفي الذي تستخدمه منصات السوشيال ميديا (وشركات الإنترنت العملاقة مثل جوجل وغيرها) مقابل حيازة بيانات الفرد الشخصية التي يتم استغلالها بسرية وفق إجراءات لامتناهية من التحليلات والتوقعات التنبؤية عبر تتبع نشاطه في تلك المنصات لكي تجعل منها مؤشرات حيوية ودعائية لعوائد وأرباح للشركات الكبرى بناء على معرفة رغبات الفرد التي تلتقطها منصات السوشيال ميديا من نقرات الإعجاب مثلًا من خلال بياناته؛ يعتبر اغترابًا رقميًا مضاعفًا لمحنة الفرد، فيما هو لا يدري أصلًا أن هناك من يرصده ويعمل على الاستثمار في قراءة تصرفاته وممارساته لتحويلها إلى سلعة مباعة وبأسعار باهظة الثمن!

ربما لا ينتبه أحدنا إذا ما خطر له أن يجري بحثا في شبكة الإنترنت عن سلعة معينة، مثل «مرتبة» لسريره، أو قبعة لرأسه، أو أي منتج آخر، أنه سيلاحظ، فيما بعد، أن صفحته في الفيسبوك والجوجل تعرض له بطريقة لا إرادية عروضًا للمنتجات التي كان قد بحث عنها بكل عفوية قبل يومين مثلًا، عبر متصفح جوجل ولو من باب حب الاستطلاع فقط.

هذه الطريقة من الرصد الخفي لردود فعل الفرد من طرف شركات الإنترنت العملاقة والسوشيال ميديا فيما هو يستخدمها بطريقة مجانية وتسمح بأن تكون منبرًا له وتفتح له فرصًا للتواصل؛ هي بمثابة الثمن المضاعف الذي تقبضه تلك الشركات العملاقة ووسائط السوشيال ميديا من خلال استخدام بياناته عبر خوارزميات لامتناهية.

إن هذا «الاغتراب» الافتراضي الذي نشير إليه؛ تكمن خطورته في أن إيحائه عبر وسائط السوشيال ميديا هو أخطر بكثير من أساليب طرق تأثير مؤسسات المجال العام لأجهزة الدولة ووسائل الإعلام التقليدية في توجيه رغبات الأفراد وتحديدها.

إننا هنا حيال ارتهان خطير لشركات تكنولوجيا عملاقة تتصرف في بياناتنا الشخصية على نحو يدر عليها أرباحا طائلة دون أن نعرف حتى!

تقول الباحثة الأمريكية «شوشانا زوبوف الاستاذة بجامعة هارفرد» ومؤلفة كتاب «عصر رأسمالية المراقبة» في تعريف نظام المراقبة الرأسمالية إنه: «نظام اقتصادي مبني على الاستخراج السري ثم التلاعب بالبيانات البشرية - في رؤيتها لربط العالم بأسره. والآن تسيطر شركة فيسبوك وغيرها من الشركات الرأسمالية الرائدة في مجال المراقبة على تدفقات المعلومات والبنية الأساسية للاتصالات في مختلف أنحاء العالم»

لا يبدو الاغتراب المضاعف للفرد من خلال هذه الوسائط الخطيرة سيمنحه القدرة على أي طريقة للفكاك من قبضتها، لا سيما وأن ما يبدو له عاديًا ويفعله كل الناس في فيسبوك هو التعليل الذي يطرد عنه ذلك الهاجس.

وإذ، لا يبدو اليوم في منطقتنا العربية ثمة من يكترث لما تفعله شركات الإنترنت ومنصات السوشيال ميديا ببياناته البشرية، لكن تسارع وتطور تلك الشركات في التفنن بانتهاك حرية البشر الغافلين عنها قد يصل يوما ما إلى ما يتجاوز الانتهاك الرمزي لبيانات الأفراد وتقديمها لشركات الدعاية، إلى أمور خطيرة!