الدستورية الرقمية بين الحقوق والقيود
الثلاثاء / 20 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 22:10 - الثلاثاء 15 نوفمبر 2022 22:10
أصبحت شبكة الإنترنت شئنا أم أبينا ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة التي لا يستطيع البشر الاستغناء عنها، أصبحت مثل الماء والهواء ودخلت في كل الأنشطة الإنسانية ولم تعد فقط وسيلة اتصال جماهيرية بل تحولت إلى أداة من أدوات ومستلزمات البقاء والاستمرار، إذ لا تعمل المصانع والموانئ والمطارات ومحطات المياه والكهرباء والبنوك والمتاجر وأسواق المال إلا من خلالها، ومن هنا أصبحت الحقوق المرتبطة بها وكذلك القيود المفروضة على استخدامها سواء كانت قيودا وطنية أو دولية مثار اهتمام أطراف عديدة كالدول المتقدمة والحكومات والهيئات الإقليمية والعالمية، ومنظمات حقوق الإنسان وجمعيات المجتمع المدني في كثير من دول العالم.
هذا الاهتمام بالإنترنت وضرورة أن تكون متوفرة للجميع على قدم المساواة، جعل البعض ينظر إليها وإلى الوصول إليها في السنوات الأخيرة بصفتها حقًا إنسانيًا أساسيًا يجب النص عليه في دساتير الدول الوطنية، والدفاع عنه، واتخاذه كمعيار من معايير احترام الدول لحقوق الإنسان ووفائها بمتطلبات هذا الحق وفي العهود والمواثيق الدولية ذات الطابع العالمي والمعنية بحقوق الإنسان.
ومن هنا ظهرت دعوات عالمية عديدة لإضافة الحق الرقمي إلى حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها عالميا سواء تلك التي وردت في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليكون الحق في الوصول إلى الشبكة واستخدامها مساويا في الأهمية للحقوق الأخرى كالحق في تقرير المصير، والحق في الحرية، والحق في الحركة، والحق في حرية الفكر، والحق في حرية الدين، والحق في حرية التعبير، والحق في التجمع السلمي، والحق في حرية تكوين الجمعيات.
ونتيجة لهذا الاهتمام برز إلى السطح في السنوات الأخيرة مصطلح جديد يجمع بين الإنترنت وبين مفهوم الحق الإنساني، من جانب والأطر الدستورية الوطنية والعالمية من جانب آخر، وهو مصطلح «الدستورية الرقمية» الذي يشير إلى تضمين الحق في الرقمية في دساتير الدول والعهود الدولية لحقوق الإنسان، لكي تتحول إلى حق دستوري أساسي يجب أن تحترمه الدول وتيسر حصول مواطنيها دون تفرقة بينهم عليه.
وظهرت مبادرات عالمية عديدة تسعى إلى نشر وتعزيز هذا المصطلح في العالم كله، وتوضيح معناه ومتطلباته والحقوق الأخرى المرتبطة به، المطالبة بالحد من القيود التي تمارسها السلطات الحاكمة في عدد كبير من دول العالم على تمتع المواطنين بهذا الحق.
واقع الحال أن محاولات صياغة قانون عالمي لحقوق الإنترنت بدأت في فترة مبكرة من عمر الشبكة، وتحديدا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن تحولت إلى وسيلة اتصال ذات وصول عالمي هائل بفضل اختراع شبكة الويب من جانب، وتسابق الدول في مختلف قارات العالم على إدخال خدماتها والاستثمار فيها في جميع المجالات من جانب آخر.
وقد جمع بعض الباحثين هذه المحاولات ووضعوها تحت مصطلح واحد جديد هو «الدستورية الرقمية»، ورغم أن المصطلح نفسه ليس جديدا تماما وورد في بعض الكتابات التي تعود إلى العشرية الأولي من الألفية الحالية، فإن الزخم الذي تزايد حوله ارتبط بالتحولات الجذرية التي شهدتها الشبكة وشهدها العالم في السنوات الأخيرة، بفعل تمدد وتغول شركات التقنية الخمسة الكبرى وهي أبل وجوجل وميتا- فيسبوك وأمازون وميكروسوفت، وسيطرتها على حركة المرور على الشبكة، ثم على العالم، والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بمناطق كثيرة من العالم.
وقد حلل بعض الباحثين المبادرات الوطنية والدولية لتقنين الحق في الإنترنت كخطوة أساسية في طريق التحول إلى إضفاء طابع دستوري وطني وعالمي على هذا الحق.
وتوصل هؤلاء الباحثين إلى أن غالبية تلك المبادرات بداية من إعلان المبادئ لبناء مجتمع المعلومات الصادر في عام 2003، وحتى ميثاق الحقوق الأساسية الرقمية للاتحاد الأوروبي الصادر في 2016، قد ركزت على مجموعة حقوق فرعية للدستورية الرقمية، مثل الحق في حرية التعبير، والحق في الخصوصية، والحق في الوصول إلى الإنترنت، والحق في الحصول على المعلومات، والحق في التحكم في البيانات الشخصية، والحق في إخفاء الهوية الرقمية، والحق في استخدام التشفير، والحق في الحماية الصريحة من المراقبة الحكومية والأطراف الثالثة، بالإضافة إلى ضمان الشفافية والانفتاح في عمليات إدارة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
ومع زيادة الضغوط التي يمارسها الفاعلون والناشطون في الدعوة للدستورية الرقمية، سواء كانوا دولا أو منظمات وطنية أو إقليمية أو عالمية، التي تستهدف تحرير الشبكة من سيطرة الحكومات من جانب وسيطرة شركات التقنية الكبرى من جانب آخر، فمن المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة تحولات دولية سياسية واقتصادية وتكنولوجية تدفع باتجاه تحول «الدستورية الرقمية» من مصطلح معلق في الهواء، ومبادرات وبيانات سياسية خطابية إلى حقيقة واقعة، وربما يصبح هذا الحق عهدا دوليا قائما بذاته، يُطلب من دول العالم الانضمام إليه والوفاء بمتطلباته تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة أو إحدى المنظمات التابعة لها كمنظمة اليونسكو.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل استعدت دولنا العربية للتعامل مع هذا التيار العالمي الجديد، الذي يسعى إلى تغيير دور الدول والحكومات في التعامل مع الإنترنت، وجعلها -أي الشبكة- خارج السيطرة المباشرة للحكومات، بشكل قد لا تستطيع معه أن تتحكم في تدفق المعلومات عبر الشبكة إلي داخل الدولة، أو مراقبة مستخدميها، أو حظر بعض المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية، وتحمل العواقب السياسية الشعبية التي يمكن أن تترتب على ذلك؟ في تقديري أنه في ظل عولمة الدستورية الرقمية -أي جعلها تيارا عالميا لا يُقاوم- من المتوقع أن يقتصر دور الحكومات -ولو نظريا- على توفير البنية الاتصالية التحتية المناسبة للشبكة وتوفير الإمكانات والموارد الكفيلة بممارسة عادلة ومتساوية لمواطنيها للحق في الإنترنت والحقوق الرقمية المرتبطة بهذا الحق، دون إقصاء أو تمييز.
وفي ظل ذلك سيكون على الحكومات أن توفر تأهيلًا مناسبًا للمواطنين لاستخدام الشبكة وإيصال خدماتها بتكلفة زهيدة إلي كل مناطق الدولة والقضاء على الفجوات الرقمية.
فهل تكتفي الحكومات العربية بهذا الدور وهي تعلم يقينا المخاطر التي يمكن أن تترتب على هذا الحق الرقمي؟ وهل تسمح الظروف والتهديدات المحيطة بنا في أن نطلق هذا الحق من عقاله دون تدخل من الدولة؟ أعرف أن الأمر سيكون من قبيل المستحيل أن تتخلى الأنظمة في دول كثيرة من العالم عن سيطرتها المباشرة على الإنترنت، سواء من خلال هيئات تنظيم الاتصال أو الشركات المزودة بالخدمة على الشبكة، وأن تكف عن التدخل في تمرير أو حجب مواقع وشبكات عن مواطنيها بدعوى أنها تتعارض ومقتضيات الأمن الوطني أو النظام العام والتقاليد والقيم.
ولذلك يصبح من الضروري في هذا التوقيت أن نكون على دراية بما يتم التمهيد لحدوثه عالميا، حتى نتمكن من التعامل معه ومواجهة الضغوط التي قد تُمارس علينا للانضمام إلى أي اتفاقيات دولية تقر الدستورية الرقمية وتحدد مبادئها ومستوياتها.
لقد سبق للسير «تيم بيرنرز لي»، مخترع شبكة الويب العالمية، أن دعا علنًا إلى «وضع دستور عالمي للإنترنت»، كجزء من مبادرة عالمية أطلق عليها «الويب الذي نريده»، وعما قريب قد يتم وضع هذا الدستور العالمي، ثم مطالبة الدول بتطبيقه واحترامه، ولذلك وجب الاستعداد لذلك عبر خطة زمنية تقربنا من هدف الوصول إلى الدستورية الرقمية دون أن يكون ذلك على حساب اعتبارات الأمن الوطني والإقليمي، أو على حساب القيم والتقاليد العربية والإسلامية الراسخة.
هذا الاهتمام بالإنترنت وضرورة أن تكون متوفرة للجميع على قدم المساواة، جعل البعض ينظر إليها وإلى الوصول إليها في السنوات الأخيرة بصفتها حقًا إنسانيًا أساسيًا يجب النص عليه في دساتير الدول الوطنية، والدفاع عنه، واتخاذه كمعيار من معايير احترام الدول لحقوق الإنسان ووفائها بمتطلبات هذا الحق وفي العهود والمواثيق الدولية ذات الطابع العالمي والمعنية بحقوق الإنسان.
ومن هنا ظهرت دعوات عالمية عديدة لإضافة الحق الرقمي إلى حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها عالميا سواء تلك التي وردت في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليكون الحق في الوصول إلى الشبكة واستخدامها مساويا في الأهمية للحقوق الأخرى كالحق في تقرير المصير، والحق في الحرية، والحق في الحركة، والحق في حرية الفكر، والحق في حرية الدين، والحق في حرية التعبير، والحق في التجمع السلمي، والحق في حرية تكوين الجمعيات.
ونتيجة لهذا الاهتمام برز إلى السطح في السنوات الأخيرة مصطلح جديد يجمع بين الإنترنت وبين مفهوم الحق الإنساني، من جانب والأطر الدستورية الوطنية والعالمية من جانب آخر، وهو مصطلح «الدستورية الرقمية» الذي يشير إلى تضمين الحق في الرقمية في دساتير الدول والعهود الدولية لحقوق الإنسان، لكي تتحول إلى حق دستوري أساسي يجب أن تحترمه الدول وتيسر حصول مواطنيها دون تفرقة بينهم عليه.
وظهرت مبادرات عالمية عديدة تسعى إلى نشر وتعزيز هذا المصطلح في العالم كله، وتوضيح معناه ومتطلباته والحقوق الأخرى المرتبطة به، المطالبة بالحد من القيود التي تمارسها السلطات الحاكمة في عدد كبير من دول العالم على تمتع المواطنين بهذا الحق.
واقع الحال أن محاولات صياغة قانون عالمي لحقوق الإنترنت بدأت في فترة مبكرة من عمر الشبكة، وتحديدا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن تحولت إلى وسيلة اتصال ذات وصول عالمي هائل بفضل اختراع شبكة الويب من جانب، وتسابق الدول في مختلف قارات العالم على إدخال خدماتها والاستثمار فيها في جميع المجالات من جانب آخر.
وقد جمع بعض الباحثين هذه المحاولات ووضعوها تحت مصطلح واحد جديد هو «الدستورية الرقمية»، ورغم أن المصطلح نفسه ليس جديدا تماما وورد في بعض الكتابات التي تعود إلى العشرية الأولي من الألفية الحالية، فإن الزخم الذي تزايد حوله ارتبط بالتحولات الجذرية التي شهدتها الشبكة وشهدها العالم في السنوات الأخيرة، بفعل تمدد وتغول شركات التقنية الخمسة الكبرى وهي أبل وجوجل وميتا- فيسبوك وأمازون وميكروسوفت، وسيطرتها على حركة المرور على الشبكة، ثم على العالم، والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بمناطق كثيرة من العالم.
وقد حلل بعض الباحثين المبادرات الوطنية والدولية لتقنين الحق في الإنترنت كخطوة أساسية في طريق التحول إلى إضفاء طابع دستوري وطني وعالمي على هذا الحق.
وتوصل هؤلاء الباحثين إلى أن غالبية تلك المبادرات بداية من إعلان المبادئ لبناء مجتمع المعلومات الصادر في عام 2003، وحتى ميثاق الحقوق الأساسية الرقمية للاتحاد الأوروبي الصادر في 2016، قد ركزت على مجموعة حقوق فرعية للدستورية الرقمية، مثل الحق في حرية التعبير، والحق في الخصوصية، والحق في الوصول إلى الإنترنت، والحق في الحصول على المعلومات، والحق في التحكم في البيانات الشخصية، والحق في إخفاء الهوية الرقمية، والحق في استخدام التشفير، والحق في الحماية الصريحة من المراقبة الحكومية والأطراف الثالثة، بالإضافة إلى ضمان الشفافية والانفتاح في عمليات إدارة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
ومع زيادة الضغوط التي يمارسها الفاعلون والناشطون في الدعوة للدستورية الرقمية، سواء كانوا دولا أو منظمات وطنية أو إقليمية أو عالمية، التي تستهدف تحرير الشبكة من سيطرة الحكومات من جانب وسيطرة شركات التقنية الكبرى من جانب آخر، فمن المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة تحولات دولية سياسية واقتصادية وتكنولوجية تدفع باتجاه تحول «الدستورية الرقمية» من مصطلح معلق في الهواء، ومبادرات وبيانات سياسية خطابية إلى حقيقة واقعة، وربما يصبح هذا الحق عهدا دوليا قائما بذاته، يُطلب من دول العالم الانضمام إليه والوفاء بمتطلباته تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة أو إحدى المنظمات التابعة لها كمنظمة اليونسكو.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل استعدت دولنا العربية للتعامل مع هذا التيار العالمي الجديد، الذي يسعى إلى تغيير دور الدول والحكومات في التعامل مع الإنترنت، وجعلها -أي الشبكة- خارج السيطرة المباشرة للحكومات، بشكل قد لا تستطيع معه أن تتحكم في تدفق المعلومات عبر الشبكة إلي داخل الدولة، أو مراقبة مستخدميها، أو حظر بعض المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية، وتحمل العواقب السياسية الشعبية التي يمكن أن تترتب على ذلك؟ في تقديري أنه في ظل عولمة الدستورية الرقمية -أي جعلها تيارا عالميا لا يُقاوم- من المتوقع أن يقتصر دور الحكومات -ولو نظريا- على توفير البنية الاتصالية التحتية المناسبة للشبكة وتوفير الإمكانات والموارد الكفيلة بممارسة عادلة ومتساوية لمواطنيها للحق في الإنترنت والحقوق الرقمية المرتبطة بهذا الحق، دون إقصاء أو تمييز.
وفي ظل ذلك سيكون على الحكومات أن توفر تأهيلًا مناسبًا للمواطنين لاستخدام الشبكة وإيصال خدماتها بتكلفة زهيدة إلي كل مناطق الدولة والقضاء على الفجوات الرقمية.
فهل تكتفي الحكومات العربية بهذا الدور وهي تعلم يقينا المخاطر التي يمكن أن تترتب على هذا الحق الرقمي؟ وهل تسمح الظروف والتهديدات المحيطة بنا في أن نطلق هذا الحق من عقاله دون تدخل من الدولة؟ أعرف أن الأمر سيكون من قبيل المستحيل أن تتخلى الأنظمة في دول كثيرة من العالم عن سيطرتها المباشرة على الإنترنت، سواء من خلال هيئات تنظيم الاتصال أو الشركات المزودة بالخدمة على الشبكة، وأن تكف عن التدخل في تمرير أو حجب مواقع وشبكات عن مواطنيها بدعوى أنها تتعارض ومقتضيات الأمن الوطني أو النظام العام والتقاليد والقيم.
ولذلك يصبح من الضروري في هذا التوقيت أن نكون على دراية بما يتم التمهيد لحدوثه عالميا، حتى نتمكن من التعامل معه ومواجهة الضغوط التي قد تُمارس علينا للانضمام إلى أي اتفاقيات دولية تقر الدستورية الرقمية وتحدد مبادئها ومستوياتها.
لقد سبق للسير «تيم بيرنرز لي»، مخترع شبكة الويب العالمية، أن دعا علنًا إلى «وضع دستور عالمي للإنترنت»، كجزء من مبادرة عالمية أطلق عليها «الويب الذي نريده»، وعما قريب قد يتم وضع هذا الدستور العالمي، ثم مطالبة الدول بتطبيقه واحترامه، ولذلك وجب الاستعداد لذلك عبر خطة زمنية تقربنا من هدف الوصول إلى الدستورية الرقمية دون أن يكون ذلك على حساب اعتبارات الأمن الوطني والإقليمي، أو على حساب القيم والتقاليد العربية والإسلامية الراسخة.