أعمدة

نوافذ .. الهلعُ البشري ليس قصيرا

 
كيف نرى العُمال والعاملات من جنسيات مختلفة؟ لاسيما أولئك الذين يشغلون الوظائف المتواضعة، وهم أيضا كيف ينظرون إلينا؟ أولئك الذين تُهدر أعمارهم في اغتراب طويل، أطول ربما من حياتهم في بلدانهم الأصلية؟ أكاد أجزم بأنّ مرايا الآداب والفنون باستطاعتها أن تُرينا الأشياء بوضوح أكبر وخارج التنميط المقيت، كما فعل يحيى سلام المنذري. فعبر لغة سردية مخاتلة جعل من الهامش 'الطبقة العاملة الوافدة' متنا أساسيا في مجموعته الأخيرة 'وقتٌ قصيرٌ للهلع'، الصادرة عن دار عرب.

وباستثناء قصّة 'إصبع' فإننا أمام متتاليتين قصصيتين يشبكهما موضوع واحد: 'العمالة الوافدة'. في المتتالية الأولى 'غليان الشاي' يمتلكُ البطل الآسيوي صوته الشخصي، ليقول قصته بنفسه بل يتمكن من كتابتها في هوامش كتاب يهِمُ بقراءته، وفي المتتالية الثانية 'صندوق المفاجآت الملونة' لا تملكُ البطلة الآسيوية صوتا خاصا بها وإنما يُحكى عنها، إلا أنّ المفارقة تكمن في امتلاكها اسما، كان اسمها 'ماري'.

وعودة لقصّة 'الإصبع' فإن لوجودها مبرر أساسي، فتلك الإصبع المهددة بالبتر من الجسد وسط مخاوف عارمة تكابد اغترابا هائلا كما هو حال البنجالي والفلبينية.

نحن أمام لغة مقتصدة، وأحداث صغيرة تتدافع كتدافع كرات مرصوصة، لكنها لا تذهب بشكل خطي وإنّما تتشظى. لا يكتفي المنذري برسم حياتهم من الخارج، فثمة محاولة لنبش صناديق صدورهم المُغلقة، فالعامل البنجالي الذي أمضى 15عاما يعمل في البناء، كان يقرأ كتابا مُترجما من العربية إلى الإنجليزية. فقد تمنى أن يكون شاعرا مثل طاغور أو ممثلا سينمائيا، لكنه الآن ينام مُنهكا قبل أن يكمل القراءة، يهزه الشوق إلى والديه وأخته حسينة. وبالمناسبة لأخته اسم، لكنه نكرة، حيثُ يمكن أن يكون أيّ بنجالي مرّ من هنا محملا بالطابوق وبالذكريات. لقد جاءت العاملة الفلبينية في صندوق أشبه بصندوق الموتى، جاءت بوجه مُلون بالمكياج وشعر برتقالي، جاءت كتلك الإصبع مبتورة عن كل ماضيها، وكانت تُخفي سرا ليليا وراء طبقات التبرج المبالغ فيه. ينسج الراوي لها ماضيا دمويا ليُبرر مخاوفها، رغم أنّ ذلك الماضي لم يكن يمنع ما تفعله عندما تختلي بنفسها!

أتذكر الوصف الدقيق لمشهد العاملات المُنتظرات لالتفاتة صغيرة من زبون، ثم الوجوم الذي يُخيم عليهن ما إن ينسحب. العاملات الأمهات اللواتي لا يفتحن باب الشوق لأولادهن، لأنهن على يقين لو انفتح باب الشوق ستطير لقمة العيش!

تشتركُ القصصُ الرئيسية في ثيمة أساسية وهي الخوف والذعر. تخافُ 'ماري' من الأصوات وتنتفض، ويخافُ البنّاء البنجالي من أن يقع فريسة علاقة غرامية. مخاوف ماري تتحول إلى مادة دسمة للضحك وسط العائلة، وحنين الرجل البنجالي يدفعه إلى طلب النوم! تخترعُ العاملات القصص الخيالية ليختصرن حياة لا يرغبن بها. بينما الحبّ المتعذر يدفع البنجالي إلى أن يلعن الأفلام وما تجلبه المخيلة من أماني!

هنالك لومٌ خفيٌ على الإنسانية التي تتقوض، على أسواق النخاسة التي تُعيد نفسها بحلة جديدة، حيثُ يبحث الناس عن الأرخص والأكثر كفاءة بذات المعايير التي نتبعها ونحن نبحث عن قطعة أثاث للبيت!

قرأ البنجالي كتابا مُترجما للغة الانجليزية 'بيت وحيد في الصحراء'، وبمجرد العودة لهذه المجموعة وتحديدا الجزء الثاني منها 'زارعو الإسمنت' نعرفُ لماذا اختارها الكاتب بذكاء ليُعيد الالتحام بها، نفهم أيضا لماذا قال البنجالي: 'إنّه يقصدنا'.

لكن وعلى عكس 'بيت وحيد في الصحراء' فالقصص هنا لا تقدمهم كضحايا وحسب، ففي كلّ ضحية جلاد وفي كل جلاد ضحية، فبينهم من يغش، ومن هو مستعد لدفن مخلفات البناء أسفل بلاطات البيت الجديد بعيدا عن أعين المالك، وهنالك من قتل عائلة دون أن يرف له جفن. وإن بدا السارد مُتعاطفا إلا أنّه لم يُخفِ التلوينات النفسية المتعددة.

على هامش قصص الكاتب العُماني المُلطخ بالإسمنت، تنمو قصّة البنجالي وكأنّهما قصتان تنموان وتكبران بشكل متوازٍ. إحداهما قصّة ظاهرة لكنها ساكنة في المتن والأخرى خفية لكنها مُحرضة في هامشها الضئيل.

منذ البدء، كابد الإنسان -لضرورات العيش- مشقة مُعذبة للتكيف والاعتياد وسط ثقافات جديدة، ذلك التمزق العاطفي الذي ينسجُ لتمازجات لافتة بين هويات متغيرة، فإن كان بترُ 'الإصبع' و'غليان الشاي' و'صندوق المفاجآت الملونة' يمضي بخفة ويسر، فإنّ وقت الهلع البشري ليس قصيرا البتة!