أفكار وآراء

علم صناعة الاهتمام

تعيش المجتمعات الإنسانية اليوم على حد سواء ما يمكن تسميته بـ 'صراع الخطابات' وسِمة هذا الصراع هي سيولته أي قدرته على الانتشار على مستويات اجتماعية مختلفة وعلى مستويات بنى اجتماعية متباينة وفي قدرته على إحداث تباينات مؤسسية وفردية على حد سواء وعلى بناء قبول كلي مسبق أو رفض كلي مسبق على حد سواء.

يمكننا أن نقرب الفكرة بمثال أكثر دقة، من خلال المسوقين النشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ، بعضٌ ممن يمتثلون للمحتوى الذي تقدمه هذه الفئة هم على أتم الاستعداد لقبول وتبني خطابهم بالمطلق – في أغلب الأحيان – سواء كان يتصل بسياق قضية معينة أو يحمل عامل التنقل من قضية إلى أخرى وبالتالي لم تعد المسألة مقتصرة على 'فكرة' تقدمها هذه الفئة أو هذه المؤسسة أو هذه الحكومة ويدور حولها النقاش أو الجدل أو التفنيد وتتعرض للقبول الكلي أو الجزئي أو الرفض الكلي أو الجزئي بل أصبحت المسألة مرتبطة بـ 'خطاب' يستطيع من خلال بناء تأثيره الاجتماعي الولوج إلى المجتمع أو الفئات الاجتماعية المحددة أو الأفراد وحيازة اهتمامهم والتقاط كل ما يمكن أن يجعلهم متمحورين حوله. بإيجاز إن تم قبول 'القائم بالاتصال أو بشكل أدق القائم بصنع الخطاب' قُبلت غالبية الأفكار الصادرة منه. ومثلما يشكل هذا الوضع ميزة فهو يشكل خطرًا على مستوى صناعة اليقين المجتمعي أو احتضان الأفكار وتشربها في الثقافة المجتمعية.

إذن لم تعد المسألة مرتبطة بمحورية 'الفكرة' وإنما بطبيعة الخطاب ومصدره. كانت الكثير من الأدبيات تحاول فهم الطريقة التي يمكن من خلالها للأفكار أن تصمد وتضع تأثيرها في السياق المجتمعي وتتلقى القبول والاهتمام العام ارتكازًا على محور الفكرة ومن أهم ما كتب وحُلل في سياق ذلك كتاب 'أفكارٌ وجدت لتبقى' لمؤلفيه شيب هيث ودان هيث والذي يبحث عبر عشرات القصص والتجارب الطريقة التي استطاعت من خلالها بعض الأفكار الصمود والتأثير في مقابل استعصاء ذلك على أفكار أخرى. يوجز الكتابة السر خلف صمود الأفكار في طريقة تقديمها حيث يتحدثون عن المبادئ الستة لرسوخ الأفكار وهي:

- البساطة: 'علينا ابتكار الأفكار البسيطة والعميقة في آن واحد'.

- عدم التوقع: 'من خلال مباغتة توقعات الناس ومناقضة الحدس العام وتوليد الاهتمام والفضول من خلال فتح ثغرات منظمة في معارف الناس'.

- إضفاء الطابع الملموس: 'الأفكار الراسخة عادة مليئة بالصورة الملموسة وأدمغتنا مبرمجة بشكل أكبر لتذكر البيانات الملموسة والتحدث بشكل ملموس يجعل فكرتنا تعني الشيء ذاته في أوساط الجمهور'.

- المصداقية: 'من خلال إيجاد طرق تمكن الناس من اختبار الأفكار التي نطرحها بأنفسهم'.

- المشاعر: 'الناس مبرمجون على أحاسيس يشعرون بها حيال الناس وليس حيال الأمور المجردة'.

- القصص: 'حيث يمثل سماع القصص نوعًا من الحوافز العقلية التي تجعلنا مستعدين للرد بشكل أسرع وأكثر فاعلية'.

هذه المبادئ يمكن أن تكون صالحة للأفكار ولبناء رسائل قائمة على ملامسة التأثير الاجتماعي لفكرة بعينها. ولكن يفرض واقع اليوم التحول إلى ما يُعرف بـ 'علم صناعة الاهتمام' وهو كيف يمكن أن تكون جهة معينة (حكومة / مؤسسة / منظمة...) أكثر قدرة واستدامة على إيصال خطابها المؤثر والفاعل لدى المجتمع أو الفئات الاجتماعية التي تتوجه إليها. تخبرنا آن كريستيانو المختصة في حقل الابتكار الاجتماعي عددًا من القواعد التي يمكن الانتباه إليها لجعل خطاب ما مبتكرًا ومؤثرًا في السياق الاجتماعي الذي يتوجه إليه. يمكن أن نركز على ثلاث منها:

- ' يبحث الناس عن المعلومات التي تجعلهم يشعرون بالرضا عن أنفسهم وتسمح لهم بأن يكونوا نسخة أفضل من أنفسهم'.

- 'الأشخاص يشاركون ويستهلكون المعلومات التي تؤكد هوياتهم وتتوافق مع قيمهم الراسخة ونظرتهم للعالم، ويتجنبون أو يرفضون المعلومات التي تتحدىهم أو تهددهم'.

- ' الناس بارعون حقًا في تجنب المعلومات لثلاثة أسباب: إنها تجعلهم يشعرون بالسوء. يُلزمهم بفعل شيء لا يريدون القيام به؛ أو يهدد هويتهم وقيمهم ونظرتهم للعالم'.

يتحدث العالم اليوم عن 'اقتصاديات الانتباه Attention economy' والتي تقوم على الوسائل العصبية التي يمكن من خلالها تكثيف التسويق والتأثير لمنتجات ومحتويات إعلامية وبصرية معينة في سبيل مضاعفة العوائد التسويقية أو الانتاجية. ولكن على مستوى الحكومات نحتاج اليوم إلى ما يُعرف بـ 'مقاربة صناعة الاهتمام' وتتشكل من خلال إيجاد حقل واسع من التجارب والأبحاث على الثقافة والسلوك والقبول الاجتماعي وما يؤثر على هذه العناصر حيث سيبحث ذلك عن طبيعة الهواجس التي تقلق الفرد/ الكائن الاجتماعي ومناطق الغموض التي تحرك فضوله والمؤثرات التي تدفعه للقبول بخطاب ما دون غيره وسيبحث كذلك في الأولويات من عناصر العيش (مقاربات الحياة) التي يمكن لها أن تحدد موقفه تجاه كل القضايا التي تعرض عليه أو تعترضه. المؤكد أن هناك العديد من الأبحاث في العلوم السلوكية التي تدعم صنع وتسويق السياسات والقرارات العامة لكن العبرة هي في استمرارية الرصد ومراكمة تراث نظري ومعلوماتي يمكن من فهم التطورات التي تطرأ على عناصر اليقين الاجتماعي وتؤثر فيه وتتحكم بمساراته.

سيمكن الاهتمام بمقاربة صناعة الاهتمام من إيجاد الوسائل والآليات المثلى للتعريف بالسياسات العامة ومن معرفة التوقيتات المثلى للحديث عنها والأدوات المثلى لإيصالها للمجتمع عوضًا عن كونه سيشكل أدوات منهجية لرصد وتتبع مستويات القبول والرضا المجتمعي حول تلك السياسات وما يتصل بها من أوضاع عامة. إن الفرضيات التي تصلح للقول بها على مستوى صناعة التأثير في مجتمع ما قد لا تكون بالضرورة دقيقة ومناسبة في مجتمع آخر. ولذا فإن خصوصية البحث في صناعة الاهتمام ضرورية جدًا وحساسة لتناسب السياق الثقافي والمجتمعي الذي تنشط فيه وتتقصاه وترصده.