أعمدة

هوامش... ومتون : ردم ثقوب التاريخ

 
قبل سنوات اصطحبني صديق في رحلة برّيّة طويلة، وخلال الطريق روى لي العديد من الحكايات الشعبية، المحفّزة للخيال، التي نقلها عن والديه، وبعض الأقارب الذين غادر معظمهم الحياة، وحين شارفنا الوصول للمكان المقصود، سألته: إن كانت هذه الحكايات مدوّنة؟ أجاب بالنفي، قلت له: وأين محفوظة؟ أشار إلى رأسه، عدتُ لأسأله: ولماذا لا تدوّنها؟ ابتسم، ثمّ تذرّع بضيق الوقت، وكثرة المشاغل، ولم تنفع محاولاتي معه لتدوينها صوتيّا على آلة تسجيل، وراحت جهودي في إقناعه بذلك عبثا، وقبل شهور التقيت به، وكان قد أحيل إلى التقاعد، فقلت له: حان الوقت لتدوين تلك الحكايات الجميلة، لكنّه ردّ بأسف أنّه نسي الكثير منها!

الذاكرة غدّارة، والتدوين حارس أمين.

حكايات كثيرة مشابهة لحكايتي مع هذا الصديق جرتْ مع آخرين، وكانت النتيجة فقدان الكثير من المرويات الشفاهية، فالذاكرة البشرية مليئة بالثقوب التي تكبر مع مرور الزمن لتصبح فجوات تنفذ من خلالها الكثير مما احتوتْ عليه من تجارب الحياة، ومعارفها، ولم يسلم منها إلّا القليل بفضل التدوين، الذي معناه اللغويّ، كما ورد في المعاجم العربية 'جمع الصحف المشتتة في ديوان ليحفظها' فحفظ لنا الكثير من الملاحم، والنصوص القديمة، والحكايات، والأحداث، وبعضها دوِّن على الصخور والحجارة، كما رأينا في الكتابات والنقوش الصخريّة المرسومة على جبال عمان، والمحفورة على جدران كهوفها، فالكتابة قيد، كما ورد في قول الإمام الشافعي:

العلم صيد والكتابة قيده

قيد علومك بالحبال الواثقه

فمن الحماقة أن تصيد غزالة

وتردّها بين الخلائق طالقه

ولو راجعنا أنفسنا لوجدنا الكثير من الغزلان التي أطلقناها بعد صيدها!

من هنا تبرز أهمّيّة تدوين التاريخ المروي، حفاظا على الإرث الشفاهي، وقد نبّه المشاركون في ندوة (التاريخ المروي) إلى خطورة ذلك، فمن أبرز التحدّيات التي يواجهها المشتغلون في هذا الجانب وفاة الأشخاص الذين حفظوا تلك المرويّات شفاها، ولم يدوّنوها، وقد تسبّبت الجائحة في فقدان الكثير من كبار السن، والبعض منهم شهد أحداثا مهمة أو شارك في صنعها، وتسبّب فقدانهم خسارة كبيرة للمرويّات، وقد تحدّث الدكتور محمد العريمي بألم عن جلسة بحثيّة كان قد رتّبها مع أحد كبار السن، لكنّ الأجل كان أسرع منه إليه، فخسر برحيله الكثير من المعلومات التي كانت ستخدمه في بحثه.

وهناك مشكلة أخرى يواجهها الباحثون تتركّز في تراجع ذاكرة البعض، بسبب الشيخوخة، وأمراضها المزمنة، لذا كان التنبيه لأهمّيّة التدوين ضروريّا في ندوة (التاريخ المروي) التي نظّمها مركز الدراسات الحضارية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب على قاعة النادي الثقافي، مؤخّرا، لسدّ 'جوانب من الماضي الإنساني غفل، أو تغافل عنها التاريخ المدون، ومن خلال نصوصه يتمكن المؤرخ من تحليل ودراسة جوانب من الماضي بالتكامل بين الوثيقة والحكي، فيقدم بذلك صورة مختلفة لذلك الماضي وربما مغايرة' كما جاء في كلمة اللجنة المنظّمة، التي ألقاها الباحث سعيد الطارشي، فالتاريخ المروي يرتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة الشعبية، ويأتي ليردّ الاعتبار للمهمّشين، من خلال قراءة 'التاريخ من أسفل' التعبير الذي ورد في مقال لإدوارد تومبسون نشره عام 1966 م، كما يشير عنوان كتاب الباحثين المغربيَين خالد اليعقوبي وخالد طحطح الذي وضعاه لدراسة 'تاريخ الهامش والمهمش' في المجتمعات البشرية، دخولا في 'متاهات التاريخ الصامت' الذي يصنعه البشر العاديون، والمهملون، والبسطاء، والغوص في حياتهم عميقا، والنبش في المسكوت عنه في الثقافة الشعبية، تلك النظرة قدّمت مساهمات كبيرة في دراسة التاريخ الاجتماعي، إذ أعادت قراءته من زوايا مختلفة وجديدة، وبالتالي خلخلة المراكز المعرفيّة، وتخصيب الوعي بمفاهيم مختلفة من خلال قراءة الهامش الذي يحتل مساحة كبيرة في المجتمعات البشرية، والحفاظ على الذاكرة الشعبيّة، فلا شيء يحفظ هذا الإرث، وتعزيز الهويّة المحلّيّة سوى الاشتغال على الذاكرة، والكشف عن مكنوناتها، من علوم ومعارف، وأحداث، يقول المؤرخ هوبل 'إن أردت أن تلغي شعبا ما ابدأ بشلّ ذاكرته'، خصوصا أنّ الثقافة العمانيّة ثريّة بالموروثات الشعبية، والمرويات الشفاهية، وقد أكّد الباحث يونس النعماني بورقته على ضرورة الالتفات إلى 'التاريخ المروي الذي يعد جانبا مهما في الثقافة العمانية، والعمل على صونه وتشجيع البحث العلمي، واستثمار هذا الثراء الثقافي بتنوع أشكاله ومضامينه في التنمية المستدامة وفقا لرؤية عمان 2040'، وهذا المطلب لن يتحقّق إلّا بردم ثقوب ذاكرة التاريخ الشفاهي، عن طريق التدوين.