بهاء طاهر صوت المكان والإنسان
صوت من البعيد (5):
الاثنين / 5 / ربيع الثاني / 1444 هـ - 19:06 - الاثنين 31 أكتوبر 2022 19:06
(1)
يُعدّ الروائي المصري بهاء طاهر (1935-2022) واحدا من الأصوات الروائية المهمة في الأدب العربي الحديث؛ فقد شكّل حضوراً لافتاً وأسهم إسهاماً مهماً بكتاباته القصصية والروائية حاملاً مشعلَهُ إلى آخر النفق الكتابي. ورغم الغربة والنفي والبُعد عن المكان الذي كان يمثّل له تجربة حياة ومرآة تَطلُّعٍ فإنه استطاع رسم ملامح المكان المصري بدقّة، وبناء شخصياته داخل المكان بحميمية أكثر بالعودة إلى الماضي أحياناً، محاولاً تهجّي الواقع وتمثّله في الكتابة.
في عام 2008م اقتنيتُ من إحدى مكتبات الإسكندرية رواية (واحة الغروب) لبهاء طاهر الفائزة بجائزة البوكر العربية 2008م، وحاولتُ مُغالبة النوم بقراءتها في قطار الإسكندرية-القاهرة. لقد كانت المُحرّكَ الأولَ للبحث عن كتابات هذا الروائي؛ إنه كاتب من جيل روّاد الكتابة الروائية في مصر والعالم العربي.
يكتبُ بهاء طاهر إلى القارئ راسماً صورة قارئٍ مثقف يَعرفُ قيمة الكلمة ومعناها، واضعاً حدوداً أدبية للتواصل معه، لذا فإنه يمدّ هذه الجسور باحثاً عنه، ومُشيراً إلى المضمون الكتابي إليه. ليس ذلك فحسب بل إنّه يعيش مع شخصياته التي يُقدّمها إلى القارئ ويستنطقها محاولاً الوصول إلى نقطةٍ داخلية للانطلاق منها إلى القارئ، يقول: 'أقلّب الكتب، هنا كنتُ أدسّ الرسائل التي أكتبها لشخوص الماضي، لا بأس من بعض التخيّل، ما أكثر الشخوص التي تندثر حكاياتها ولا تندثر ملامحها..! كل شخوص رواياتي وقصصي يعيشون معي، لم يمت منهم أحدٌ بعد، نفنى وتبقى آثار شخوص حكايتنا كعلامات أصيلة على أنّ كائناً ما عاش ها هنا منذ زمن، بعضهم يأتي ليحتسي الشاي جالساً أمامي وجهاً لوجه داخل الشرفة، نتطلّعُ إلى الشوارع المزدحمة بالحكايات، الناس تسير كأنها تحمل فوق أكتافها هذه الحكايات، يبحثون عن الذكريات المفقودة. الشوارع مزدحمة، ورأسي مزدحمة'. (السيرة في المنفى، ص54)
(2)
قدّمتْ رواية (خالتي صفية والدَّير) لبهاء طاهر أنموذجا مهما للمكان الروائي؛ فقد تناولت دَيْر منطقة الأقصر كونه فضاءً تدور فيه الأحداث والصراعات، ويضم نتاجات الثقافة المختلفة. لقد لعب الفضاء المكاني دوراً مهماً، كما أظهر توتّر شخصيات العمل وكشف عن دواخلهم المتغيّرة بتغيّر الظروف، وصراعهم من أجل البقاء والاستمرار.
إنّ الدَّير الذي بدأ الراوي بالحديث عنه في بداية الرواية بالذهاب إليه كل عيد حاملا معه علبة الكعك هو مَعلمٌ من معالم تلك البلدة الصغيرة؛ فهو مَعلمٌ مقدَّسٌ كما سيأتي في آخر الرواية حيث يُمنع دخول السلاح إليه؛ لأنه مكان عبادة، وذلك كله في علاقة قائمة بين المسلمين والمسيحيين؛ لذا لا تفوت بهاء الإشارة إلى أنّ الكتابة عن الآخر المسيحي وعن مكانه هو عائد إلى ثقافة المكان، والانتماء لهذا الوطن فنجده يشير قائلاً في مقدمة الرواية: 'والآن، فلم تبق عندي إلا كلمة قصيرة جداً عن هذه الرواية الأخيرة (خالتي صفية والدير).. لقد حرصتُ في أولها على أن أقول إنّ كلَّ أحداثها من نسج الخيال. ليس بالضبط!.. فجنين الخيال أيضاً هو الواقع، ومن ذلك أنّ أبي رحمه الله، كان شيخاً أزهرياً تقياً. وقد ربّانا لنكون مسلمين صالحين، وأدعو الله أن نكون كذلك. وكان هو نفسه يتعامل مع الناس جميعاً بخلق الإنسان الصحيح. وأشهد الله أنني لم أسمع منه يوماً في حياته كلمة تفرّق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحي. ومن هنا، فإنّ هذه الرواية مهداة أيضا إلى روحه، وإلى كل من يحبّون الوطن'. (خالتي صفية والدير، ص34)
تظهر ملامح الاشتغال على المكان المصري وإنسانه جيداً في الرواية وذلك بنقل صورة عن الواقع المعاش هناك، فتتصاعد أحداث الرواية بعد زواج 'صفية' من 'البيك' لاسيما بعد أن جاء الخبر بأنَّ صفية حامل، فتبدأ الأحداث بالانتقال من علاقة ودّ وحبّ إلى علاقة كراهية تجاه 'حربي' الذي يشير الراوي إلى أنّ صفية كانت تُحبُّه وتتمنى الزواج منه، إلا أنّ حربي فاجأها عندما أتى بالبيك لخطبتها، وهنا تنتقل العلاقة بسبب أنّ أحدهم حكى أنّ حربي يريد أن يقتل 'حسان' ابن البيك القادم وصفية. فتعيدُ الرواية ترتيب أحداثها هنا، وتتوزّع بين القصر والمزرعة وبيت الوالد. ثم تتسارع الأحداث إثر مقتل البيك على يد حربي دفاعا عن نفسه، وتقرّر صفية أنْ تأخذ بثأر البيك من حربي رغم دخوله السجن، فقد ظلت تنتظر خروجه لسنوات. وتعود الأحداث إلى الدير من جديد عندما أُدْخِلَ حربي فيه حفاظا عليه من القتل على يد صفية، وتتسع دائرة الأحداث في المكان/ الدير إلى أنْ يأتي الخبر بموت حربي بعد أن هدّه المرض، الخبر الذي كان بمثابة الصاعقة على صفية؛ فقد دخلت دائرة المرض هي الأخرى وانتابتها الغيبوبة، فقد كانت تتمنى أن تأخذ ثأر زوجها بيدها، ولكنها أظهرتْ ما كانت تُكِنّهُ داخلها تجاه حربي في لحظاتها الأخيرة حين قالت: '..ولكن إن كان حربي يطلب يدي فقل للبيك إني موافقة.. أنت وكيلي يا والدي.. وأنا موافقة على أي مهر يدفعه حربي.. لا تشغل بالك بالمهر..'.
نجد ملمح الإنسان ومكانه أيضا بارزاً في رواية (واحة الغروب) التي قدّمت صورة عن المكان المصري في واحة سيوة في القرن التاسع عشر بنقل أحد الضباط الإنجليز للعمل في الواحة بعد الشك في ميوله إلى الثوار، وهنا يقرّر الضابط أخذ زوجته الأيرلندية معه، واللذان يبدآن معا رحلة الغوص في أعماق النفس البشرية والمكان البعيد. يبدأ الصراع في الواحة مُشكّلاً فضاءً مكانياً وصراعاً بين أطراف مختلفة، كل طرف تحكمه ميوله واتجاهاته التاريخية والفكرية والسياسية. وتُظهر الرواية أهالي الواحة في مواجهتهم الآخر/ الحكومة ورفضهم لتبعيتها، وميلهم إلى الاستقلال الذي عاشه أهلهم من قبل.
إنّ الواحة تحيل على مرجعية تاريخية قدّمها بهاء طاهر للقارئ، فتاريخية واحة سيوة جعلت منها مرجعاً لبناء الأفكار، واستعادة التاريخ القديم في رؤية تتطلّع الرواية إلى النبش فيه وتقديمه من زاوية سياسية.
إنّ المكان المصري عند بهاء طاهر مزدحم بالأفكار، والصراعات، والأهواء، والاضطرابات فنجده يعود إليه باحثاً عن فكرة يعيشها، ولحظة تؤطّر الأحداث منتقلاً بين زمنية الحدث.
(3)
في 143 صفحة صدر كتاب (السيرة في المنفى: 2017م) لبهاء طاهر عنونها بسيرة روائية كتبها بين القاهرة-جنيف.. جنيف-القاهرة. ورغم أنها سيرة لا تمثل مسيرة الكاتب الطويلة فإنها محطات مضيئة ينطلق منها إلى الحياة والثقافة والفكر والكتابة. لقد تقاطعت السيرة مع دلالات المنفى والغربة والعُزلة والبُعد الذي عليه الكاتب عن مجتمعه، لذا تتناص عتبة الكتاب مع روايته (الحب في المنفى)، وكأن المنفى قد صار هاجساً وموضوعاً ينطلق منه في سرد أحداث حياته روايةً وواقعاً، فبعد 'منعه من ممارسة الكتابة داخل مصر لأكثر من ثماني سنوات متصلة، منذ عام 1975، وحتى عام 1983'. (السيرة في المنفى، ص24) 'سافر عن غير اختيار ليتنقّل بين بلدان آسيا وإفريقيا وأوروبا وعمل مُترجماً في المؤتمرات بعقود مؤقتة، إلى أن انتقل للإقامة في جنيف في الفترة من 1984 إلى 1995؛ حيث عمل مُترجماً للعربية في الأمم المتحدة. وهناك قابل رفيقة حياته 'ستيفكا'، وكانت مترجمة في القسم الروسي'. (السيرة في المنفى، ص25)
تقدّم السيرة انتقالاً زمنياً للذاكرة بالعودة إلى الوراء أو العيش في الزمن الحاضر، يسترجع بهاء طاهر لحظات من حياته الطويلة، ناقلاً جوانب مختلفة عن المكان المصري في الريف أو في القاهرة، وعن أسرته وبالأخص عن والدَيْهِ ونمط معيشتهما في الريف، كما ينقل مواقف من حياته مع أشخاص مرّوا بذاكرته وتركوا أثراً ولو بسيطاً. كما لم يخلُ الكتاب من استعادة أوجه الثقافة والتعليم والقراءة والاطلاع فقد كتب بهاء طاهر في غير موضع عن ذلك.
إنّ الكتاب في مجمله سيرة مختصرة جداً، حاول بهاء طاهر أن يترك للقارئ شيئاً يسيرا من ذاكرته، مع ظنّي أنّ أدراج مكتبه وملفاته ستُظهرُ المزيد من ذاكرة تنقّلت في أرجاء العالم وأبصرت الشيء الكثير، والأيام كفيلة بإخراجها في حلّة جديدة.
رحم الله الكاتب والروائي بهاء طاهر، فبرحيله فقدَ الأدب العربي الحديث واحداً من أعمدته في الكتابة السردية، وقَلَماً نقل لنا صوراً عن الحياة الإنسانية وثقافتها وتاريخها.
يُعدّ الروائي المصري بهاء طاهر (1935-2022) واحدا من الأصوات الروائية المهمة في الأدب العربي الحديث؛ فقد شكّل حضوراً لافتاً وأسهم إسهاماً مهماً بكتاباته القصصية والروائية حاملاً مشعلَهُ إلى آخر النفق الكتابي. ورغم الغربة والنفي والبُعد عن المكان الذي كان يمثّل له تجربة حياة ومرآة تَطلُّعٍ فإنه استطاع رسم ملامح المكان المصري بدقّة، وبناء شخصياته داخل المكان بحميمية أكثر بالعودة إلى الماضي أحياناً، محاولاً تهجّي الواقع وتمثّله في الكتابة.
في عام 2008م اقتنيتُ من إحدى مكتبات الإسكندرية رواية (واحة الغروب) لبهاء طاهر الفائزة بجائزة البوكر العربية 2008م، وحاولتُ مُغالبة النوم بقراءتها في قطار الإسكندرية-القاهرة. لقد كانت المُحرّكَ الأولَ للبحث عن كتابات هذا الروائي؛ إنه كاتب من جيل روّاد الكتابة الروائية في مصر والعالم العربي.
يكتبُ بهاء طاهر إلى القارئ راسماً صورة قارئٍ مثقف يَعرفُ قيمة الكلمة ومعناها، واضعاً حدوداً أدبية للتواصل معه، لذا فإنه يمدّ هذه الجسور باحثاً عنه، ومُشيراً إلى المضمون الكتابي إليه. ليس ذلك فحسب بل إنّه يعيش مع شخصياته التي يُقدّمها إلى القارئ ويستنطقها محاولاً الوصول إلى نقطةٍ داخلية للانطلاق منها إلى القارئ، يقول: 'أقلّب الكتب، هنا كنتُ أدسّ الرسائل التي أكتبها لشخوص الماضي، لا بأس من بعض التخيّل، ما أكثر الشخوص التي تندثر حكاياتها ولا تندثر ملامحها..! كل شخوص رواياتي وقصصي يعيشون معي، لم يمت منهم أحدٌ بعد، نفنى وتبقى آثار شخوص حكايتنا كعلامات أصيلة على أنّ كائناً ما عاش ها هنا منذ زمن، بعضهم يأتي ليحتسي الشاي جالساً أمامي وجهاً لوجه داخل الشرفة، نتطلّعُ إلى الشوارع المزدحمة بالحكايات، الناس تسير كأنها تحمل فوق أكتافها هذه الحكايات، يبحثون عن الذكريات المفقودة. الشوارع مزدحمة، ورأسي مزدحمة'. (السيرة في المنفى، ص54)
(2)
قدّمتْ رواية (خالتي صفية والدَّير) لبهاء طاهر أنموذجا مهما للمكان الروائي؛ فقد تناولت دَيْر منطقة الأقصر كونه فضاءً تدور فيه الأحداث والصراعات، ويضم نتاجات الثقافة المختلفة. لقد لعب الفضاء المكاني دوراً مهماً، كما أظهر توتّر شخصيات العمل وكشف عن دواخلهم المتغيّرة بتغيّر الظروف، وصراعهم من أجل البقاء والاستمرار.
إنّ الدَّير الذي بدأ الراوي بالحديث عنه في بداية الرواية بالذهاب إليه كل عيد حاملا معه علبة الكعك هو مَعلمٌ من معالم تلك البلدة الصغيرة؛ فهو مَعلمٌ مقدَّسٌ كما سيأتي في آخر الرواية حيث يُمنع دخول السلاح إليه؛ لأنه مكان عبادة، وذلك كله في علاقة قائمة بين المسلمين والمسيحيين؛ لذا لا تفوت بهاء الإشارة إلى أنّ الكتابة عن الآخر المسيحي وعن مكانه هو عائد إلى ثقافة المكان، والانتماء لهذا الوطن فنجده يشير قائلاً في مقدمة الرواية: 'والآن، فلم تبق عندي إلا كلمة قصيرة جداً عن هذه الرواية الأخيرة (خالتي صفية والدير).. لقد حرصتُ في أولها على أن أقول إنّ كلَّ أحداثها من نسج الخيال. ليس بالضبط!.. فجنين الخيال أيضاً هو الواقع، ومن ذلك أنّ أبي رحمه الله، كان شيخاً أزهرياً تقياً. وقد ربّانا لنكون مسلمين صالحين، وأدعو الله أن نكون كذلك. وكان هو نفسه يتعامل مع الناس جميعاً بخلق الإنسان الصحيح. وأشهد الله أنني لم أسمع منه يوماً في حياته كلمة تفرّق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحي. ومن هنا، فإنّ هذه الرواية مهداة أيضا إلى روحه، وإلى كل من يحبّون الوطن'. (خالتي صفية والدير، ص34)
تظهر ملامح الاشتغال على المكان المصري وإنسانه جيداً في الرواية وذلك بنقل صورة عن الواقع المعاش هناك، فتتصاعد أحداث الرواية بعد زواج 'صفية' من 'البيك' لاسيما بعد أن جاء الخبر بأنَّ صفية حامل، فتبدأ الأحداث بالانتقال من علاقة ودّ وحبّ إلى علاقة كراهية تجاه 'حربي' الذي يشير الراوي إلى أنّ صفية كانت تُحبُّه وتتمنى الزواج منه، إلا أنّ حربي فاجأها عندما أتى بالبيك لخطبتها، وهنا تنتقل العلاقة بسبب أنّ أحدهم حكى أنّ حربي يريد أن يقتل 'حسان' ابن البيك القادم وصفية. فتعيدُ الرواية ترتيب أحداثها هنا، وتتوزّع بين القصر والمزرعة وبيت الوالد. ثم تتسارع الأحداث إثر مقتل البيك على يد حربي دفاعا عن نفسه، وتقرّر صفية أنْ تأخذ بثأر البيك من حربي رغم دخوله السجن، فقد ظلت تنتظر خروجه لسنوات. وتعود الأحداث إلى الدير من جديد عندما أُدْخِلَ حربي فيه حفاظا عليه من القتل على يد صفية، وتتسع دائرة الأحداث في المكان/ الدير إلى أنْ يأتي الخبر بموت حربي بعد أن هدّه المرض، الخبر الذي كان بمثابة الصاعقة على صفية؛ فقد دخلت دائرة المرض هي الأخرى وانتابتها الغيبوبة، فقد كانت تتمنى أن تأخذ ثأر زوجها بيدها، ولكنها أظهرتْ ما كانت تُكِنّهُ داخلها تجاه حربي في لحظاتها الأخيرة حين قالت: '..ولكن إن كان حربي يطلب يدي فقل للبيك إني موافقة.. أنت وكيلي يا والدي.. وأنا موافقة على أي مهر يدفعه حربي.. لا تشغل بالك بالمهر..'.
نجد ملمح الإنسان ومكانه أيضا بارزاً في رواية (واحة الغروب) التي قدّمت صورة عن المكان المصري في واحة سيوة في القرن التاسع عشر بنقل أحد الضباط الإنجليز للعمل في الواحة بعد الشك في ميوله إلى الثوار، وهنا يقرّر الضابط أخذ زوجته الأيرلندية معه، واللذان يبدآن معا رحلة الغوص في أعماق النفس البشرية والمكان البعيد. يبدأ الصراع في الواحة مُشكّلاً فضاءً مكانياً وصراعاً بين أطراف مختلفة، كل طرف تحكمه ميوله واتجاهاته التاريخية والفكرية والسياسية. وتُظهر الرواية أهالي الواحة في مواجهتهم الآخر/ الحكومة ورفضهم لتبعيتها، وميلهم إلى الاستقلال الذي عاشه أهلهم من قبل.
إنّ الواحة تحيل على مرجعية تاريخية قدّمها بهاء طاهر للقارئ، فتاريخية واحة سيوة جعلت منها مرجعاً لبناء الأفكار، واستعادة التاريخ القديم في رؤية تتطلّع الرواية إلى النبش فيه وتقديمه من زاوية سياسية.
إنّ المكان المصري عند بهاء طاهر مزدحم بالأفكار، والصراعات، والأهواء، والاضطرابات فنجده يعود إليه باحثاً عن فكرة يعيشها، ولحظة تؤطّر الأحداث منتقلاً بين زمنية الحدث.
(3)
في 143 صفحة صدر كتاب (السيرة في المنفى: 2017م) لبهاء طاهر عنونها بسيرة روائية كتبها بين القاهرة-جنيف.. جنيف-القاهرة. ورغم أنها سيرة لا تمثل مسيرة الكاتب الطويلة فإنها محطات مضيئة ينطلق منها إلى الحياة والثقافة والفكر والكتابة. لقد تقاطعت السيرة مع دلالات المنفى والغربة والعُزلة والبُعد الذي عليه الكاتب عن مجتمعه، لذا تتناص عتبة الكتاب مع روايته (الحب في المنفى)، وكأن المنفى قد صار هاجساً وموضوعاً ينطلق منه في سرد أحداث حياته روايةً وواقعاً، فبعد 'منعه من ممارسة الكتابة داخل مصر لأكثر من ثماني سنوات متصلة، منذ عام 1975، وحتى عام 1983'. (السيرة في المنفى، ص24) 'سافر عن غير اختيار ليتنقّل بين بلدان آسيا وإفريقيا وأوروبا وعمل مُترجماً في المؤتمرات بعقود مؤقتة، إلى أن انتقل للإقامة في جنيف في الفترة من 1984 إلى 1995؛ حيث عمل مُترجماً للعربية في الأمم المتحدة. وهناك قابل رفيقة حياته 'ستيفكا'، وكانت مترجمة في القسم الروسي'. (السيرة في المنفى، ص25)
تقدّم السيرة انتقالاً زمنياً للذاكرة بالعودة إلى الوراء أو العيش في الزمن الحاضر، يسترجع بهاء طاهر لحظات من حياته الطويلة، ناقلاً جوانب مختلفة عن المكان المصري في الريف أو في القاهرة، وعن أسرته وبالأخص عن والدَيْهِ ونمط معيشتهما في الريف، كما ينقل مواقف من حياته مع أشخاص مرّوا بذاكرته وتركوا أثراً ولو بسيطاً. كما لم يخلُ الكتاب من استعادة أوجه الثقافة والتعليم والقراءة والاطلاع فقد كتب بهاء طاهر في غير موضع عن ذلك.
إنّ الكتاب في مجمله سيرة مختصرة جداً، حاول بهاء طاهر أن يترك للقارئ شيئاً يسيرا من ذاكرته، مع ظنّي أنّ أدراج مكتبه وملفاته ستُظهرُ المزيد من ذاكرة تنقّلت في أرجاء العالم وأبصرت الشيء الكثير، والأيام كفيلة بإخراجها في حلّة جديدة.
رحم الله الكاتب والروائي بهاء طاهر، فبرحيله فقدَ الأدب العربي الحديث واحداً من أعمدته في الكتابة السردية، وقَلَماً نقل لنا صوراً عن الحياة الإنسانية وثقافتها وتاريخها.