ثقافة

مرفأ قراءة .. إبداع بهاء طاهر (1)

أعمال بهاء طاهر في دار الشروق
 
أعمال بهاء طاهر في دار الشروق
-1-

كنت أخطط للمضي في كتابة الحلقات المتصلة التي تنقِّب عن تاريخ فترة مهمة وزاهرة من تاريخنا الإبداعي والثقافي في القرن العشرين، ورصد تجربة التقاء حضاري وتفاعل ثقافي فريد بين اللغتين والثقافتين العربية والإسبانية؛ من خلال تتبع إنشاء المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد منتصف القرن الماضي، لكن الرحيل الفادح للكاتب والمبدع والروائي الكبير بهاء طاهر (1935-2022) فرض حضوره، ولم يكن لائقًا ولا مقبولًا إرجاء الكتابة عنه، والتذكير بحضوره الإنساني وقيمته الإبداعية وأعماله المهمة إلى حين.

توفي بهاء طاهر مساء الخميس الماضي عن 87 عاما؛ وقد لقي نبأ رحيله أصداء واسعة جدًا ليس في مصر فقط بل في كل أرجاء العالم العربي، فلربما كان بهاء طاهر أشهر أديب مصري، بعد نجيب محفوظ، حظي بمقروئية عالية وحضور كبير في جميع أنحاء عالمنا العربي.

تشرفت الجائزة العالمية للرواية العربية باسم بهاء طاهر في دورتها الأولى عام 2008 وذلك بإعلان فوز روايته «واحة الغروب» بالجائزة في دورتها الأولى، وكأنها كانت تريد أن تدشن حضورها وسمعتها وتحظى بالثقة والقبول بين جماعة الكتاب والأدباء والنقاد في العالم العربي أجمع بسعيها للاقتران باسم بهاء طاهر.

منذ صدور أول أعماله القصصية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وحتى صدور آخر أعماله الإبداعية؛ في الرواية «واحة الغروب» (2006)، ومجموعته القصصية الرقيقة «ذَهَبْتُ إلى شلال» (2010) كان بهاء طاهر محاطا بهالة من الرفعة والسمو والتقدير والحضور الهادئ المسالم البعيد كل البعد عن الصخب والعراك والضجيج الذي أثاره غيره من أبناء جيله؛ جيل الستينيات الشهير.

-2-

ربما كان بهاء طاهر -مع اسمين أو ثلاثة آخرين- ممن حظي بتعليم كامل وعالٍ ورفيع المستوى (تخرج في كلية الآداب قسم التاريخ بجامعة القاهرة عام 1956) ونال دبلومة في مجال الإعلام والاتصال عام 1971 وأجاد لغة أجنبية إجادة تامة «الإنجليزية» يسّرت له العمل أولا مترجما بالهيئة العام للاستعلامات المصرية، ثم بالإذاعة المصرية (البرنامج الثقافي)، ثم لاحقا عمل مترجما بإحدى المنظمات الدولية خارج مصر لسنواتٍ طويلة مكّنته من التأمل والقراءة، وأتاحت له قدرا ميسورا من العزلة والانقطاع مكَّناه من التأني في إخراج أعماله ونصوصه التي كانت المسافة الزمنية بين كل عمل منها والذي يليه طويلة نسبيا؛ فلم يكن بهاء طاهر من غزيري الإنتاج ولا المسرفين في الكتابة والنشر (سواء على المستوى الإبداعي الخالص أو الكتابة المقالية والتأليف العام الفكري والثقافي وما يشبهه) كان من المقلين المتأنين شأنه في ذلك شأن أستاذه وأبيه الروحي يحيى حقي، وشأن إبراهيم أصلان والطيب صالح، على سبيل المثال، ممن ينتمون إلى جيل الستينيات مثله.

كانت تجربة عمله في الإذاعة المصرية تجربة أساسية وملهمة أظن أنها لعبت أهم مؤثر وأعمقه في تكوينه الفكري والثقافي والأدبي، فقد التحق بالعمل فيها عام 1958 وقد انضم بهاء طاهر إلى تلك الكوكبة الفذة التي أنيط إليها تأسيس إذاعة البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي) منذ عامها الأول، وأصبح واحدًا من مؤسسيها الكبار ونجومها الحقيقيين الذين كانوا كوكبة إذاعية وفنية فريدة تضم كلًا من: سميرة الكيلاني، ومحمود مرسي، وصلاح عز الدين، وكامل يوسف، وفؤاد كامل، وآخرين، بقيادة الإعلامي والإذاعي الفذ سعد لبيب.

يقول المرحوم فاروق شوشة عن هذه الفترة في حياة بهاء طاهر (وأصبح بهاء وحده المسؤول الأول عن روائع المسرح العالمي التي تُترجم وتقدَّم في صيغة سهرات إذاعية، وعن «البرامج الخاصة» التي كانت وقتها صيغة من اختراع البرنامج الثاني تتناول موضوعات وشخصيات وقضايا، وتجمع بين السرد والتحليل والمسامع الدرامية. ولا يزال «البرنامج الخاص» يمثل الجزء الأكبر من تراث البرنامج الثاني، وبخاصة في سنواته الأولى).

-3-

إسهامات أساسية في تاريخ الأدب العربي المعاصر، لا يمكن إغفالها أو تجاوزها في القصة القصيرة والرواية خلال العقود الخمسة الأخيرة، قدمها «بهاء طاهر» وكان لها دور جليّ في تطوير السرد العربي الحديث، وفي محاوراته الثرية مع الحياة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، كان بهاء طاهر واحدا ممن أكّدوا حضور السرد ومركزيته، إنه ابن زمانه ومكانه، ابن المؤثرات الكبرى التي شكّلت جيله، لكنه فتش عن سبل الاختلاف والمغايرة ليؤسس معالم خصوصيته وهويته الإبداعية، ويطوّر رؤيته استنادًا إلى مشروعية الإبداع الفردي الذي قد يصبّ في السياق العام، لكنه يظل رافدًا له لونه الخاص ومذاقه المختلف.

عندما نشر أولى مجموعاته القصصية «الخطوبة» عام 1972 تناولتها الأقلام بالترحاب، وقال عنها شيوخ النقد ما أكد على أن صاحب هذه المجموعة يتميز عن كل أفراد جيله بأنه ذو روحٍ فنية عالية، وأن له أسلوبه الذي يشي بخصوصية متفردة، على مستوى الرؤية الكلية واللغة الجمالية التي يصوغ بها هذه الرؤية، وهي تنبئ أيضا بأن صاحب هذا الأسلوب له لغته الخاصة التي ستتحدد وتتبلور أكثر فأكثر في أعماله القصصية والروائية التالية، شاهدة على عمق هذه الرؤية وامتلاك مدهش لتقنيات السرد وحرفية القص التي ستبرز بروزا مبدعا في مجموعاته «أنا الملكُ جئتُ»، و«بالأمسِ حلمتُ بك»، و«ذهبتُ إلى شلال» (2010).

ومنذ ذلك التاريخ وحتى نهاية القرن الماضي والعقدين التاليين، أصبح بهاء طاهر امتدادًا عبقريًا لعباقرة القص العظام من يحيى حقي حتى يوسف إدريس، وبرز صوته القصصي هادئًا متأنيًا عميقًا يرتاد مسالك وأغوارًا مدهشة، متسلحًا بشاعرية رهيفة جعلته ينفرد بمساحة كبيرة من خريطة القص المصري المعاصر لا يزاحمه فيها أحد.

-4-

في مجال الرواية، يصح أن نقول إن بهاء طاهر قد كان «نسيجا وحده» وشكَّل ظاهرة خاصة في سياق الزخم الإبداعي الستيني الكبير، بمعنى أنه استطاع منذ البداية تحقيق ذاته الإبداعية، ومنحها سمات فارقة وخاصة ومتميزة، رغم السياقات الجماعية التي يتشكّل فيها المبدعون عامة.

مع مطالع ومنتصف الثمانينيات من القرن الماضي، خرج بهاء طاهر على جمهوره بروايتيه البديعتين الأوليين «شرق النخيل» (1982) و«قالت ضحى» (1984) وقد تم اختيار الروايتين كأفضل عملين أدبيين في نفس سنتي صدورهما -وهذا أمر سوف يتكرر في كل مرة يصدر فيها بهاء طاهر عملًا جديدًا- ويكفي أن نشير هنا إلى قول المرحوم الناقد الكبير الدكتور علي الراعي في معرض تعليقه على رواية «قالت ضحى» «إنها أصدق محاولة لتضمين التراث المصري القديم في الأدب الحديث».

ثم يواصل «بهاء طاهر» العزف بمهارة فائقة على أوتار تلك الروح الإبداعية، فيكتب روايته «خالتي صفية والدير» (1991) التي استكمل فيها الخيط الفني الساري في روايتيه الأوليين، وخصوصا استلهام البيئة المصرية الصعيدية شديدة الخصوصية، التي تتأبى على الغريب عنها وتستغلق على الغرباء منها، ولا تسلم دواخلها وأسرارها إلا لابن عزيز من أبنائها.

ثم ينتقل انتقالة المبدع الأصيل الواصل إلى جوهر العالمية من خلال الإيغال في الخصوصية المحلية، وربطها بما هو إنساني عام مشترك بين جميع البشر الذين يحملون همًا واحدًا، في روايته ذائعة الصيت «الحب في المنفى» التي تدور أحداثها على خلفية عريضة تسع العالم كله، والتي جمعت خيوط الواقع الإنساني المعاصر بأزماته الوجودية وإشكالياته المعرفية وتناقضاته الإنسانية في فنية متفردة، ومن خلال لغة عذبة رائقة تفيض سلاسة وعذوبة، جعلت من الرواية حديث المدينة وقبلة القراء والنقاد والباحثين، بل صار من الممكن الحديث عن مرحلة فنية جديدة في تاريخ وتطور الرواية العربية الحديثة أطلق عليها الناقد الراحل شكري عياد «نمط جديد من الرواية الواقعية» وأظنها كانت ملهمة لأجيال وأجيال من كتاب الرواية ليس في مصر وحدها فقط بل في العالم العربي من محيطه إلى خليجه (والحديث عن هذا الأثر يحتاج إلى تحليل مفصل ربما نعود له في مناسبة تالية).

-5-

ثم يعاود بهاء طاهر البحث عن «نقطة النور» الخفية، والكشف عن الحقيقة الإنسانية وجوهر وجودها والبحث عن أصلها في روايته الهادئة المظهر الصاخبة المخبر بالعنوان ذاته في 2001، ويختتم رحلته الإبداعية مع الفن الذي عشقه برواية «واحة الغروب» (2006).. وللحديث بقية.