أعمدة

ذكريات مع بهاء طاهر

نوافذ

سليمان المعمري
 
سليمان المعمري
رجل مسنّ يلجأ إلى الذاكرة أكثر مما يلجأ إلى الواقع، هكذا وصف بهاء طاهر نفسه وهو يضحك عندما ذكّرتُه بمقطع من حوار له أدلى به عام 2009 بعد سنة من فوزه بجائزة البوكر العربية. يقول المقطع: 'لا أستطيع أن أكتب عن حبّ الآن، لأنني لا أستطيع أن أكتب عمّا لا أعرف. دائما أرجع في كتاباتي إلى الستينيات والسبعينيات، بل ألجأ كثيرا إلى التاريخ وأتجاهل الحاضر، لأنني لا أعرف عن قرب هذا الحاضر، لا صورة الحب ولا صورة الصداقة ولا حتى صورة العداوة. كثيرون ينتقدونني لذلك، وهم محقّون'. كان ذلك في 'قصر السراب' في أبوظبي، في نوفمبر من عام 2014م، حيث كنتُ وبعض الروائيين العرب الشباب في ورشة البوكر. معظمنا كان سعيدًا بلقاء الروائي الكبير الذي لَطالما أُعجبنا عن بعد بقصصه ورواياته. وإذا كنا أحببناه قبل هذا اللقاء لجمال أدبه وإبداعه، فإن حبّنا له تضاعف بعد الاقتراب منه، لجميل إنسانيته، وتعامله الدمث، وتواضعه الجم.

كنتُ معتادًا أن أحمل معي في مثل هذه الملتقيات جهاز التسجيل الإذاعي، وهذه المرة كان هدفي الأول هو بهاء طاهر، فزميلاه الآخران في الإشراف على ورشتنا (الناقدة المغربية زهور كرام، والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله) كنتُ قد حاورتُهما كلّا على حدة، قبل مدة قصيرة من هذه الورشة عندما زارانا في مسقط. كان عليَّ أن أنتبه إلى أن بهاء طاهر إذاعيّ قديم، ومتمرّس في الإعلام الثقافي تحديدًا، وحاور أهم الكتّاب العرب، لذا فإنه يستطيع أن يحكم على عملي بسهولة.

أجرينا الحوار في مطعم قصر السراب، وكانت قرقعة الأطباق والملاعق والكؤوس خلفية لحوارنا الذي لفتَني فيه أن إجابات بهاء طاهر مكثّفة دون إسهاب أو تطويل، في البداية ظننتُ أن للأمر علاقةً بتمرّسه في كتابة القصة التي أصدر فيها خمس مجموعات لافتة، هي: 'الخطوبة' و'بالأمس حلمتُ بك'، و'أنا الملك جئتُ'، و'ذهبتُ إلى شلال'، و'لم أعرف أن الطواويس تطير'، لكني سأعرف فيما بعد عندما أقرأ مقدمته لإحدى طبعات روايته الشهيرة 'خالتي صفية والدير' أنه بات يعرف بحكم تجربته في الإذاعة ومحاوراته مع الأدباء أن من أصعب الأمور أن يتكلم كاتب عن نفسه، فهو إما أن يكون مسرفًا في التواضع بسبب الخجل بحيث يهوّن من شأن أعماله ويظلم نفسه، وإما على العكس ينتهز الفرصة ليُسرف في تمجيد ذاته وأعماله. ولعله لهذا السبب اختار أن يكون من النوع الأول.

كان الحوار أقرب إلى دردشة حميمة بين أبٍ وابنه، منه إلى حوار رسمي بين إعلامي وكاتب كبير. سرد فيه وهو يضحك حكاية بداية علاقته بالأدب عندما كتب قصة قصيرة وهو في المدرسة الابتدائية نال عنها جائزة عظيمة هي إعجاب ناظر المدرسة الذي ناداه في الطابور الصباحيّ أمام جميع التلاميذ، وامتدح قصته التي أخذت الدرجة النهائية في التعبير، بل وأمر الناظر أن تكون هذه القصة درسَ الإملاء لجميع فصول المدرسة. وبعد قليل ضحك أيضًا وهو يسرد حكاية طريفة عن قصته 'بالأمس حلمتُ بك' التي قُرِّرتْ على ابنته خلال دراستها مادة في الأدب في الجامعة، وفي ليلة الامتحان عَرضت عليه مذكّرة حول هذه القصة نقلتْها عن أستاذها وكانت كلها تتحدث عن الصراع بين الشرق والغرب، وهو أمرٌ كان يصيب بهاء طاهر بالامتعاض الشديد، فقد أكد غير مرة في تصريحاته أن هذا الصراع لم يكن هدفه من قصة 'بالأمس حلمتُ بك'، وأن كون إحدى شخصيتي القصة شرقيّة والأخرى غربية هو من قبيل المصادفة الإنسانية لا أكثر. وهكذا شرح لابنته رؤيته للقصة، ولأنها تعرف أن الكاتب هو أعلم الناس بعمله فقد كتبتْ رؤيته هذه في الامتحان، وكانت النتيجة أن الأستاذ أعطاها تقديرًا ضعيفًا جدًّا لأنها لم تلتزم بشرحه في المذكرة، وظلت فترة طويلة من الزمن تلوم أباها على هذه الدرجة الضعيفة.

كانت ضحكاتُه تتوالى بتقدم الحوار وتذكّره حكايات طريفة كهذه. وعندما ذكّرتُه بقوله إن علماء النفس لو تعرضوا لمجموعته القصصية 'ذهبتُ إلى شلال' لوصفوه أنه مريض بالشيزوفرينيا، قهقه قائلًا: 'هذا صحيح بالفعل. لأن هناك قصتين متتاليتين [في هذه المجموعة]، إحداهما تمجد عصر عبدالناصر، وأظن أنها قصة 'ولكن'، والأخرى وعنوانها 'شتاء الخوف' تدين هذا العصر'.

أذكر أنني في نهاية الحوار أهديتُه روايتي 'الذي لا يحب جمال عبدالناصر' فأمسك بها وهو يخبرني بأنه سمع عنها من صديقه الناقد صبري حافظ. ظننتُ أن هذه العبارة هي آخر عهده بالرواية، وأن أولوياته القرائية وهو في هذه السن الكبيرة (كان عمره حينئذ 79 عاما) ستكون ناحية أعمال أدبية أهم. لكنني فوجئتُ به بعد شهرين فقط، وفي حوار له في جريدة 'الشروق' المصرية' يعتبرها أفضل كتاب قرأه عام 2014م، وأن 'بها حسًّا فكاهيًّا وتشعر بأن مصريًّا الذي كتبها'، الأمر الذي أسعدني كثيرًا وما زلتُ أفخر به إلى اليوم.

آمن بهاء طاهر أن 'الأديب لا يكتب لمجرد الكتابة بل عندما تصبح الكتابة ضرورية جدا مثل عميلة المخاض'، ولهذا فقد كان من الأدباء المقلّين مقارنة بمجايليه، وعندما سألتُه عن هذا الأمر قال: 'إذا لم أشعر أن ما أكتبه ستكون له قيمة فلا أكتب، وإذا لم أشعر أنني سأضيف جديدا إلى ما قلتُه من قبل فلا أكتب'، واستدعى البيت الشهير: 'تعيرنّا أنا قليل عديدُنا / فقلتُ لها إن الكرام قليل'. أحد أعماله القليلة هذه هي روايته 'واحة الغروب'، أول رواية تفوز بجائزة البوكر العربية التي يقول فيها: 'لا أفهم معنى للموت. لكن ما دام محتّمًا فلنفعل شيئًا يبرر حياتنا، فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها'. وأحسب أن هذا بالضبط ما فعله بهاء طاهر قبل أن يغادرنا مساء الجمعة الماضي؛ ترك بصمته في أعمال إبداعية لا تُنسى، حتى استحق العبارة التي رأى وليم فوكنر أنها جديرة بنعي الكتّاب في جنازاتهم: 'لقد ألف كتبًا، ثم مات'.