من يقود الرأي العام ويصنعه؟!
الثلاثاء / 28 / ربيع الأول / 1444 هـ - 23:29 - الثلاثاء 25 أكتوبر 2022 23:29
يُطرح في العالم اليوم سؤال مهم حول من يصنع الرأي العام ومن يقود المجتمعات نحو المستقبل؟ هل ما زالت النخب السياسية والثقافية والفكرية والأكاديمية هي التي تصنع الرأي العام وتقود المجتمعات عبر مقولاتها الفلسفية والفكرية التي تفتح آفاق المستقبل كما كان دور النخب على الدوام، أم أن هذه النخب قد تخلت عن أدوارها لصالح وسائل التواصل الاجتماعي، واكتفت هي بمجرد الفرجة أو بالتصفيق والسير خلف القطيع في الكثير من الأحيان؟
هذا سؤال مهم ويشغل جميع المجتمعات وإن كان يشغل المجتمعات العربية اليوم أكثر من غيرها وأكثر من أي وقت سابق نظرا لتآكل دور النخب عبر العقود الماضية لدرجة يعتقد معها البعض أنه «أي التآكل» قد وصل إلى حافة الخطر وتماهت فيه النخب مع العوام لدرجة لا يمكن فيها التفريق بينهما أبدا، ولهذا أسباب كثيرة، الكثير منها له جذور تاريخية وبعضها وليد اللحظة الراهنة في العالم العربي!
ويوم الاثنين الماضي «24 أكتوبر 2022» نشرت جريدة الأهرام المصرية مقالا أراه مهما ومشخصا لهذه القضية للدكتور نصر محمد عارف بعنوان «المثقفون والعوام.. مَنْ يقود مَنْ؟» تحدث فيه عن العصر الجديد الذي شكلته وسائل التواصل الاجتماعي وأصبح فيه الوجود الافتراضي أهم بكثير من الوجود الواقعي، وانتقد فيه طبقة «المثقفين» من «الذين انشغلوا بصناعة الصورة والحصول على الحظوة والمكانة عند المتابعين»، ما أدى إلى انقلاب «العلاقة بين المثقف والعامي، أو بين طبقة المثقفين وبين العوام، حيث صار العوام أكثر قوة من المثقفين المشغولين بصناعة صورتهم، وتصورات الناس عنهم؛ لأن العوام هم المتابعون والمصفقون للمثقف، هم من يستحسن أفكاره وآراءه، أو يستقبحها، هم من يعطي القيمة الرقمية والكمية لوجوده، ودونهم يفقد هذا الوجود قيمته من خلال تضاؤل عدد المتابعين».
الأمر الذي جعل «المثقف أسيرا عند العوام، أو سجينا في كهوف العوام، فأصبح لا يستطيع إلا أن يكون حيث يريده العوام من متابعيه، ولا يستطيع أن يقول إلا ما يرضى العوام».
وما ذهب إليه الدكتور نصر محمد عارف في مقاله صحيح إلى درجة كبيرة، فقد تلاشى دور النخب الثقافية في العالم العربي، ودخل الكثير منهم فيما يمكن أن نعتبره «ملهاة» وسائل التواصل الاجتماعي، فقدوا خلالها أدوارهم التنويرية ونضالهم من أجلها، وقلّ نتاج المنتج منهم، حيث اكتفوا بالنجومية التي صنعتها لهم وسائل التواصل الاجتماعي بالطريقة التي يريدها المتابعون.. لا بالطريقة التي يفرضها دورهم الحقيقي في المجتمعات، إلى درجة أن الكثير من هذه النخب فقدت حريتها، في الوسيلة التي اعتبرتها الأكثر حرية على الإطلاق، فلم يعودوا قادرين على قول أو فعل لا يرضي «المتابعين» أو توجهاتهم أو «ترنداتهم»؛ حتى لا يجدوا أنفسهم في مواجهة معهم توصلهم إلى حد حملات «التبليك» (واعتذر حقا على استخدام هذه الكلمة) والتي تعني حملات إلغاء المتابعة التي تُعتبر أقسى عقوبة يمكن أن يعاقب بها رواد وسائل التواصل الاجتماعي!
ليست هذه هي الأدوار الحقيقية للنخب والمثقفين في كل المجتمعات وعبر كل العصور.. كانت أدوارهم على الدوام صناعة الوعي وصناعة رأي عام وتوضيح الحقائق للناس «العوام وفق المصطلح الفقهي»، حتى لو دخلوا خلال ذلك في مواجهة مع السلطة السياسية كما حدث طوال التاريخ، ما حصل الآن هو تبادل للأدوار أصبح فيه المثقف «بالمعنى الواسع للمصطلح» تابعا للعوام وملبيا لما يريدوه حتى لو كان في داخله يؤمن إيمانا كاملا بخطأ الطريق الذي يسير فيه خلفهم أو بالقول الذي يردده وراءهم.. وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل «نقرات» إعجاب أو إعادة تغريد لكتابات عابرة لا تلبث في الأرض ولا تنفع الناس!
تحتاج الحياة التي صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرت فيها على عقول الناس «نخب وعوام» إلى إعادة نظر حقيقية، من أجل النخب قبل كل شيء.
ولكن قبل تلك المراجعة لا بد للنخب أن تُحرر نفسها من سطوة الصورة التي وضعت نفسها فيها، لأن هذه النخب وحدها من يعول عليها تقديم قراءات حقيقية لآليات الخروج من حصار «التواصل الاجتماعي» والعودة من الحياة الافتراضية إلى الحياة الواقعية وإلى مسارات التنوير وأخذ زمام قيادة المجتمعات التي تعيش في ظل هذا العالم الافتراضي على وقع خطابات زائفة وسطحية وبناءات وهمية لا تلبث أن توصلنا إلى حافة خطيرة جدا.
لا أحد ينكر أن لوسائل التواصل الاجتماعي «كوسيلة» فوائد كثيرة، وكان يمكن أن تكون أداة من أدوات التنوير ومنبرا من منابر صانعة الوعي الحقيقي وساحة من ساحات الجدال الفكري والفلسفي، لكن ما حصل أن الكثير من أرباب هذه الصناعة ممن انخرطوا في هذه الوسائل وجدوا أنفسهم أسارى خطابات شعبوية وسطحية وتحول دورهم من قيادة المجتمعات إلى السير مضمضي الأعين إلى المجهول. ولم يبقى الأمر محصورا في مساحات تلك الوسائل بل انعكس ذلك على كل نواحي الحياة حيث غاب ثقل النخب في المجتمعات العربية، وباتت خطاباتهم حتى في منابر الحياة الواقعية بنفس خفة خطابات وسائل التواصل الاجتماعي، بل أن الكثير مما ينتج من دراسات، على قلتها، نحت نفس المنحى وهذه مشكلة كبيرة من شأنها أن تخلق مشاكل أكبر في المرحلة القادمة ولا يمكن تجاوزها إلا بعودة النخب إلى القيام بدورها التنويري الرصين.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان
هذا سؤال مهم ويشغل جميع المجتمعات وإن كان يشغل المجتمعات العربية اليوم أكثر من غيرها وأكثر من أي وقت سابق نظرا لتآكل دور النخب عبر العقود الماضية لدرجة يعتقد معها البعض أنه «أي التآكل» قد وصل إلى حافة الخطر وتماهت فيه النخب مع العوام لدرجة لا يمكن فيها التفريق بينهما أبدا، ولهذا أسباب كثيرة، الكثير منها له جذور تاريخية وبعضها وليد اللحظة الراهنة في العالم العربي!
ويوم الاثنين الماضي «24 أكتوبر 2022» نشرت جريدة الأهرام المصرية مقالا أراه مهما ومشخصا لهذه القضية للدكتور نصر محمد عارف بعنوان «المثقفون والعوام.. مَنْ يقود مَنْ؟» تحدث فيه عن العصر الجديد الذي شكلته وسائل التواصل الاجتماعي وأصبح فيه الوجود الافتراضي أهم بكثير من الوجود الواقعي، وانتقد فيه طبقة «المثقفين» من «الذين انشغلوا بصناعة الصورة والحصول على الحظوة والمكانة عند المتابعين»، ما أدى إلى انقلاب «العلاقة بين المثقف والعامي، أو بين طبقة المثقفين وبين العوام، حيث صار العوام أكثر قوة من المثقفين المشغولين بصناعة صورتهم، وتصورات الناس عنهم؛ لأن العوام هم المتابعون والمصفقون للمثقف، هم من يستحسن أفكاره وآراءه، أو يستقبحها، هم من يعطي القيمة الرقمية والكمية لوجوده، ودونهم يفقد هذا الوجود قيمته من خلال تضاؤل عدد المتابعين».
الأمر الذي جعل «المثقف أسيرا عند العوام، أو سجينا في كهوف العوام، فأصبح لا يستطيع إلا أن يكون حيث يريده العوام من متابعيه، ولا يستطيع أن يقول إلا ما يرضى العوام».
وما ذهب إليه الدكتور نصر محمد عارف في مقاله صحيح إلى درجة كبيرة، فقد تلاشى دور النخب الثقافية في العالم العربي، ودخل الكثير منهم فيما يمكن أن نعتبره «ملهاة» وسائل التواصل الاجتماعي، فقدوا خلالها أدوارهم التنويرية ونضالهم من أجلها، وقلّ نتاج المنتج منهم، حيث اكتفوا بالنجومية التي صنعتها لهم وسائل التواصل الاجتماعي بالطريقة التي يريدها المتابعون.. لا بالطريقة التي يفرضها دورهم الحقيقي في المجتمعات، إلى درجة أن الكثير من هذه النخب فقدت حريتها، في الوسيلة التي اعتبرتها الأكثر حرية على الإطلاق، فلم يعودوا قادرين على قول أو فعل لا يرضي «المتابعين» أو توجهاتهم أو «ترنداتهم»؛ حتى لا يجدوا أنفسهم في مواجهة معهم توصلهم إلى حد حملات «التبليك» (واعتذر حقا على استخدام هذه الكلمة) والتي تعني حملات إلغاء المتابعة التي تُعتبر أقسى عقوبة يمكن أن يعاقب بها رواد وسائل التواصل الاجتماعي!
ليست هذه هي الأدوار الحقيقية للنخب والمثقفين في كل المجتمعات وعبر كل العصور.. كانت أدوارهم على الدوام صناعة الوعي وصناعة رأي عام وتوضيح الحقائق للناس «العوام وفق المصطلح الفقهي»، حتى لو دخلوا خلال ذلك في مواجهة مع السلطة السياسية كما حدث طوال التاريخ، ما حصل الآن هو تبادل للأدوار أصبح فيه المثقف «بالمعنى الواسع للمصطلح» تابعا للعوام وملبيا لما يريدوه حتى لو كان في داخله يؤمن إيمانا كاملا بخطأ الطريق الذي يسير فيه خلفهم أو بالقول الذي يردده وراءهم.. وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل «نقرات» إعجاب أو إعادة تغريد لكتابات عابرة لا تلبث في الأرض ولا تنفع الناس!
تحتاج الحياة التي صنعتها وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرت فيها على عقول الناس «نخب وعوام» إلى إعادة نظر حقيقية، من أجل النخب قبل كل شيء.
ولكن قبل تلك المراجعة لا بد للنخب أن تُحرر نفسها من سطوة الصورة التي وضعت نفسها فيها، لأن هذه النخب وحدها من يعول عليها تقديم قراءات حقيقية لآليات الخروج من حصار «التواصل الاجتماعي» والعودة من الحياة الافتراضية إلى الحياة الواقعية وإلى مسارات التنوير وأخذ زمام قيادة المجتمعات التي تعيش في ظل هذا العالم الافتراضي على وقع خطابات زائفة وسطحية وبناءات وهمية لا تلبث أن توصلنا إلى حافة خطيرة جدا.
لا أحد ينكر أن لوسائل التواصل الاجتماعي «كوسيلة» فوائد كثيرة، وكان يمكن أن تكون أداة من أدوات التنوير ومنبرا من منابر صانعة الوعي الحقيقي وساحة من ساحات الجدال الفكري والفلسفي، لكن ما حصل أن الكثير من أرباب هذه الصناعة ممن انخرطوا في هذه الوسائل وجدوا أنفسهم أسارى خطابات شعبوية وسطحية وتحول دورهم من قيادة المجتمعات إلى السير مضمضي الأعين إلى المجهول. ولم يبقى الأمر محصورا في مساحات تلك الوسائل بل انعكس ذلك على كل نواحي الحياة حيث غاب ثقل النخب في المجتمعات العربية، وباتت خطاباتهم حتى في منابر الحياة الواقعية بنفس خفة خطابات وسائل التواصل الاجتماعي، بل أن الكثير مما ينتج من دراسات، على قلتها، نحت نفس المنحى وهذه مشكلة كبيرة من شأنها أن تخلق مشاكل أكبر في المرحلة القادمة ولا يمكن تجاوزها إلا بعودة النخب إلى القيام بدورها التنويري الرصين.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان