معنى جماليات القُبح
الثلاثاء / 28 / ربيع الأول / 1444 هـ - 23:07 - الثلاثاء 25 أكتوبر 2022 23:07
في العدد الصادر بتاريخ 11 أكتوبر من هذه الجريدة الرصينة، طالعت مقالًا للكاتبة نوف السعيدي بعنوان «في مديح الفن الهابط»، وهو مقال ينطوي على بعض المفاهيم في مجال الفن والجماليات، ولكنها جاءت متداخلة متضاربة على نحو يؤدي إلى إرباك القارئ الذي يريد أن يعرف شيئًا عن معنى الجمال والتذوق الجمالي. الفكرة الأساسية في المقال أن ما يُسمَّى «الفن الهابط» يمكن أن ننظر إليه بعين التقدير؛ لأن رفضنا له باعتباره فنًا متدنيًّا هو رفض لا مبرر له؛ فهو يرجع فحسب إلى أن هذا النوع من الفن يمثل خروجًا على القواعد والمعايير التقليدية للجمال. وترى الكاتبة أن هذا أيضًا هو سبب رفض حركات فنية معينة عند ظهورها أول مرة، مثل: الباوهاوس في فن المعمار، والجاز في الموسيقى! ويندرج تحت هذا الفن أيضًا ما تسمّيه الكاتبة «القباحة في الفن» من قبيل: التشوهات والإعاقات الجسدية، وما إلى ذلك! يا الله! كيف يمكن الجمع بين هذه المفاهيم المتضاربة التي لا صلة بينها! لنبدأ بمفهوم «الفن الهابط» أو ما يُسمى أيضًا «الفن المبتذل» Kitsch، وهو أسلوب من التعبير الفني ظهر في الربع الأخير من القرن الفائت، يقوم على استخدام الأدوات المستهلكة في صنع تشكيل فني ما، كاستخدام الزجاجات الفارغة أو عبوات العصائر والمياه الغازية وقصاصات الصحف، وما يشبه ذلك. مثل هذه الأعمال الفنية هي صيحات في الفن تشبه صيحات أو تقاليع «الموضة» التي تأتي لتدوم قليلًا ثم تختفي. امتد هذا المصطلح ليشمل سائر الفنون التي تتسم بالطابع الاستهلاكي، وبالذوق الرديء، وبالخيال الفج الذي يخلو من الرؤية والفكر (ومن ذلك ما يُعرَف بأفلام هوليوود على سبيل المثال). مثل هذه الأعمال لا تدخل في باب الفن العظيم Great Art، فهي فن استهلاكي يستخدم أدوات مستهلكة؛ ولذلك فإن المكان اللائق بها عادةً هو المطاعم والحانات وأماكن التسوّق في مرحلة تاريخية ولّى زمنها. أما العمل الفني العظيم فهو العمل الذي يتجاوز حاجز الزمن ليبقى على مر العصور. وعلى هذا، فإن مفهوم الفن الهابط أو المبتذل لا يعني التعبير عمّا تسمّيه الكاتبة «بالقباحة في الفن» (كما سنبيّن بعد قليل).
الأمر الثاني الذي يجب أن نتوقف عنده هو أن الحركات الفنية التي كانت تواجه رفضًا عند ظهورها مثل «الباوهاوس» في المعمار و«الجاز» في الموسيقى، لم تكن من قبيل الفن الهابط أو المبتذل، ورفضها كان لأسباب سياسية واجتماعية، باعتبارها خروجًا على المعايير الجمالية التقليدية، ولكنها في النهاية قد صمدت، ببساطة لأنها قد أبدعت معاييرها الخاصة في التعبير عن الجمال وليس الابتذال. موسيقى الجاز -على سبيل المثال- هي تطور في شكل التعبير الموسيقي، فقد بدأت هذه الموسيقى كتعبير عن صرخات وآلام وأحزان مكبوتة يطلقها جامعو القطن من عبيد أمريكا في القرن التاسع عشر، من أجل التسلية في أثناء العمل والتنفيس عن الأحزان. وعندما حررهم لينكولن بدأوا في ارتياد الحانات واستفادوا من الآلات الموسيقية لدى البيض، فاستخدموها في موسيقاهم؛ ولكن ظلت موسيقاهم تعبّر عن الحرية التي حلم بها آباؤهم، ونالوها بعد كفاح طويل. المفهوم الأهم الذي ينبغي أن نتوقف عنده هو مفهوم «جماليات القبح»، وهو مفهوم تناولته في كتاباتي بالتفصيل، كما أشرفت مؤخرًا على رسالة ماجستير تتناول هذا المفهوم في الفكر المعاصر. ومن الضروري منذ البداية التأكيد على أن هذا المفهوم الذي يتعلق بتناول القبح في الفن لا علاقة له على الإطلاق بمفهوم الفن الهابط ولا يدخل في بابه. فالواقع أن كثيرًا من الأعمال الفنية العظمى (بما في ذلك الأعمال الأدبية) قد تناولت سائر أشكال القبح في الواقع والحياة الإنسانية، ولكنها تعد أعمالًا عظيمة؛ بالضبط لأنها تعبّر عن هذا القبح بمعايير الإبداع الفني والجمالي. وعلى سبيل المثال: عندما نجد لوحة ما (مثل لوحة المصوّر الفرنسي العظيم: تيودور ﭼيرِكو) تصوّر وجه امرأة عجوز يفتقر إلى أي مسحة من الجمال، وتكسوه التجاعيد، بل تطل منه نظرة حاقدة على العالم والبشر الذين أصابوها بالإحباط واليأس، وألقوا بها في النهاية في مصحة عقلية فإن الجمال في اللوحة يكمن، لا في القبح، وإنما في قدرة وبراعة الفنان في التعبير الفني والجمالي عن هذا القبح الذي نجده في الواقع. فنحن هنا لا نتعامل مع امرأة واقعية نجدها في دنيا الحياة اليومية، وإنما نتعامل مع لوحة تصوّر امرأة ما. والفنان هنا يعبّر ببراعة واقتدار، حتى حينما يعبّر عن حالة اليأس والإحباط في حالة إنسانية ما. ومن شاء أمثلة أخرى من لوحات فن التصوير التي تعبّر عن صور متنوعة من القبح، فليرجع إلى الأعمال العظيمة للمصوِّر الإسباني الشهير جويا Goya، التي تصوّر البشاعة والقتل والذبح. ومثل هذا يمكن أن يقال عن التعبير الجمالي في سائر الفنون: كالتعبير عن حالات الشر والأذى واليأس والمرض والألم والموت. وكم تغنّى الأدباء العظام في أعمالهم المسرحية الشعرية بكل هذه الأشكال من القبح بدءًا من اليونان، مرورًا بالمحدثين (وعلى رأسهم شكسبير)، وصولًا إلى المعاصرين حتى يومنا هذا. كل إبداع هو تجاوز لتقاليد فنية سائدة، ولكن تجاوز التقاليد الفنية لا يعني مطلقًا تجاوز معايير الإبداع وشروطه باعتباره إبداعًا لقيم جمالية، وليس من قبيل القيم الجمالية التعبير عن الإسفاف أو الابتذال أو الضحالة، أو التعبير الركيك الذي يفتقر إلى أصول الصنعة والمهارة الفنية: فالفن يعبّر باقتدار وعمق وجمال حتى حينما يعبّر عن سائر أشكال القبح في حياتنا، بنفس الاقتدار والعمق والجمال الذي يعبّر به عن الأشياء الجميلة الممتعة في الحياة. ذلك أن ما يبهجنا ويمتعنا في الفن إنما هو براعة الفنان في التعبير عن شيء ما، سواء كان جميلًا أو قبيحًا أو حتى مجرد صورة متخيلة لشيء ما.
الأمر الثاني الذي يجب أن نتوقف عنده هو أن الحركات الفنية التي كانت تواجه رفضًا عند ظهورها مثل «الباوهاوس» في المعمار و«الجاز» في الموسيقى، لم تكن من قبيل الفن الهابط أو المبتذل، ورفضها كان لأسباب سياسية واجتماعية، باعتبارها خروجًا على المعايير الجمالية التقليدية، ولكنها في النهاية قد صمدت، ببساطة لأنها قد أبدعت معاييرها الخاصة في التعبير عن الجمال وليس الابتذال. موسيقى الجاز -على سبيل المثال- هي تطور في شكل التعبير الموسيقي، فقد بدأت هذه الموسيقى كتعبير عن صرخات وآلام وأحزان مكبوتة يطلقها جامعو القطن من عبيد أمريكا في القرن التاسع عشر، من أجل التسلية في أثناء العمل والتنفيس عن الأحزان. وعندما حررهم لينكولن بدأوا في ارتياد الحانات واستفادوا من الآلات الموسيقية لدى البيض، فاستخدموها في موسيقاهم؛ ولكن ظلت موسيقاهم تعبّر عن الحرية التي حلم بها آباؤهم، ونالوها بعد كفاح طويل. المفهوم الأهم الذي ينبغي أن نتوقف عنده هو مفهوم «جماليات القبح»، وهو مفهوم تناولته في كتاباتي بالتفصيل، كما أشرفت مؤخرًا على رسالة ماجستير تتناول هذا المفهوم في الفكر المعاصر. ومن الضروري منذ البداية التأكيد على أن هذا المفهوم الذي يتعلق بتناول القبح في الفن لا علاقة له على الإطلاق بمفهوم الفن الهابط ولا يدخل في بابه. فالواقع أن كثيرًا من الأعمال الفنية العظمى (بما في ذلك الأعمال الأدبية) قد تناولت سائر أشكال القبح في الواقع والحياة الإنسانية، ولكنها تعد أعمالًا عظيمة؛ بالضبط لأنها تعبّر عن هذا القبح بمعايير الإبداع الفني والجمالي. وعلى سبيل المثال: عندما نجد لوحة ما (مثل لوحة المصوّر الفرنسي العظيم: تيودور ﭼيرِكو) تصوّر وجه امرأة عجوز يفتقر إلى أي مسحة من الجمال، وتكسوه التجاعيد، بل تطل منه نظرة حاقدة على العالم والبشر الذين أصابوها بالإحباط واليأس، وألقوا بها في النهاية في مصحة عقلية فإن الجمال في اللوحة يكمن، لا في القبح، وإنما في قدرة وبراعة الفنان في التعبير الفني والجمالي عن هذا القبح الذي نجده في الواقع. فنحن هنا لا نتعامل مع امرأة واقعية نجدها في دنيا الحياة اليومية، وإنما نتعامل مع لوحة تصوّر امرأة ما. والفنان هنا يعبّر ببراعة واقتدار، حتى حينما يعبّر عن حالة اليأس والإحباط في حالة إنسانية ما. ومن شاء أمثلة أخرى من لوحات فن التصوير التي تعبّر عن صور متنوعة من القبح، فليرجع إلى الأعمال العظيمة للمصوِّر الإسباني الشهير جويا Goya، التي تصوّر البشاعة والقتل والذبح. ومثل هذا يمكن أن يقال عن التعبير الجمالي في سائر الفنون: كالتعبير عن حالات الشر والأذى واليأس والمرض والألم والموت. وكم تغنّى الأدباء العظام في أعمالهم المسرحية الشعرية بكل هذه الأشكال من القبح بدءًا من اليونان، مرورًا بالمحدثين (وعلى رأسهم شكسبير)، وصولًا إلى المعاصرين حتى يومنا هذا. كل إبداع هو تجاوز لتقاليد فنية سائدة، ولكن تجاوز التقاليد الفنية لا يعني مطلقًا تجاوز معايير الإبداع وشروطه باعتباره إبداعًا لقيم جمالية، وليس من قبيل القيم الجمالية التعبير عن الإسفاف أو الابتذال أو الضحالة، أو التعبير الركيك الذي يفتقر إلى أصول الصنعة والمهارة الفنية: فالفن يعبّر باقتدار وعمق وجمال حتى حينما يعبّر عن سائر أشكال القبح في حياتنا، بنفس الاقتدار والعمق والجمال الذي يعبّر به عن الأشياء الجميلة الممتعة في الحياة. ذلك أن ما يبهجنا ويمتعنا في الفن إنما هو براعة الفنان في التعبير عن شيء ما، سواء كان جميلًا أو قبيحًا أو حتى مجرد صورة متخيلة لشيء ما.