الديمقراطية والظلام الجديد
الثلاثاء / 28 / ربيع الأول / 1444 هـ - 23:06 - الثلاثاء 25 أكتوبر 2022 23:06
في فبراير من عام 2017 تبنت صحيفة واشنطن بوست شعارًا جديدًا لها ذا مغزى كبيرا، هو «الديمقراطية تموت في الظلام»، للتأكيد على الرابط الوثيق بين ازدهار حرية الصحافة ونجاح الأنظمة الديمقراطية، وكذلك دور الصحافة الحرة في كشف الحقائق وإنارة الطريق أمام الشعوب حتى تكون خياراتها الديمقراطية صحيحة إلى حد كبير.
هذا الشعار الذي وضعته الصحيفة الأمريكية على موقعها الإلكتروني وطبعتها الورقية بعد أن عاشت أكثر من مائة وأربعين سنة بدون شعار ثابت، كان في تقديري صيحة تحذير من بعض الأصوات التي خرجت من أشخاص وصلوا إلى مناصبهم بالطريق الديمقراطي للحد من حرية الصحافة، ووضع العراقيل أمام تدفق المعلومات للجمهور، وكانت تحديدًا تحذيرًا أول للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي لم يكن قد مر على وجوده في البيت الأبيض سوى أقل من عام واحد، هاجم خلاله الصحافة ووسائل الإعلام بضراوة، ووصفها أكثر من مرة بأنها غير أمينة، وعدوة للشعب الأمريكي.
دعونا نتفق على شرعية هذا الشعار التي يستمدها من حقيقة أن المسؤولين حتى في الدول الديمقراطية يحاولون دائما فرض سرية على بعض أعمال الحكومة وإبعادها عن أعين الصحافة، حتى في تلك الدول التي أقرت حق الجميع في المعرفة، وعرفت منذ سنوات قوانين جيدة لحرية المعلومات. يعني الشعار إذن أن الديمقراطية الليبرالية، لكي تعمل بشكل جيد (ولا تتحول إلى نوع من الديماغوجية أو أنواع أخرى من الديمقراطية غير الليبرالية) تتطلب بالإضافة إلى شروط أخرى كثيرة، أن ترافقها صحافة حرة تتمتع بسهولة الوصول الموضوعي إلى المعلومات وإلى السياسيين، وذلك حتى يعرف المواطنون ما تفعله الحكومة وبالتالي يستطيعون إصدار أحكام مستنيرة، ومحاسبة حكوماتهم، فالمعلومات إذن هي الضوء الذي يتم تسليطه على الأعمال الحكومية للتأكد من سلامتها وكونها تصب في صالح المجتمع. يبدو من الطبيعي إذن أن تزدهر حرية الصحافة في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية، بينما تعاني في الأنظمة غير الديمقراطية. ومع هذا فإن ما حدث ويحدث في العالم في السنوات القليلة الماضية يضعنا أمام حقيقة غريبة، وهي أن بعض الديمقراطيات الأكثر عراقة والأكبر في العالم، لم تعد تهتم كثيرا بحرية الصحافة، ولم تعد قطاعات واسعة من المواطنين تتلقى أخبارًا ومعلومات موضوعية وغير ملونة. ولا يعود ذلك إلى الزج بالصحفيين في السجن كما قد يحدث في البيئات الاستبدادية، وإنما إلى ممارسات جديدة يمكن أن نطلق عليها ممارسات الظلام الجديد، وهي ممارسات نجحت من خلالها الحكومات في الدول الديمقراطية في جعل مهمة الصحافة في الإضاءة محدودة للغاية. ولعل هذا ما يجعلنا نقترح على واشنطن بوست أن تعكس شعارها ليكون «الظلام الحكومي يقتل الصحافة».
هذه الممارسات أو الآليات -إن صح التعبير- مراوغة، ولا يمكن تتبعها والإمساك بها بسهولة، ولا يظهر تأثيرها على حرية الصحافة بشكل مباشر، وبالتالي قد لا تثير قلق المدافعين عن هذه الحرية كونها لا تشمل أساليب القمع المعروفة مثل الرقابة بجميع أشكالها، وإغلاق الصحف والمواقع الإلكترونية، واضطهاد الصحفيين وسجنهم وقتلهم. ولعل أخطر هذه الأساليب هو العصف باستقلالية وسائل الإعلام، من خلال دعم وتشجيع انتقال ملكيتها إلى أشخاص موالين لها أو إلى شركات من صنعها.
لم تعد الحكومات التي تريد البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة تتحرج على الإطلاق حتى في الديمقراطيات الراسخة من تقديم الدعم المباشر للمنصات والمنافذ الإعلامية الصديقة لها، من خلال تمييزها وإسناد العقود الإعلامية المربحة لها، ومنحها الحق في الوصول التفضيلي إلى معلومات الدولة. والهدف النهائي هو جعل الصحافة وكل منافذ النشر والتعبير في المجتمع تخدم من هم في السلطة بدلًا من أن تخدم الجمهور. هذا التوجه المتنامي نحو السيطرة الحكومية على الإعلام من وراء ستار، والسيطرة بالتالي على مضامين وسائل الإعلام تزامنت مع صعود تيار الشعبوية اليمينية ووصوله إلى السلطة في أكثر من دولة ديمقراطية آخرها إيطاليا، وهو التيار الذي يطالب بتقييد الحريات الأساسية في العديد من البلدان الديمقراطية. إذ يقدم القادة الشعبويون أنفسهم على أنهم مدافعون عن أغلبية مظلومة ضد النخب الليبرالية وضد الأقليات العرقية التي يشككون في ولاءاتها، ويؤكدون أن مصالح الأمة -كما يعرّفونها- يجب أن تتجاوز المبادئ الديمقراطية، وعلى رأسها حرية الصحافة والشفافية والنقاش المفتوح.
ووفقًا للتقارير الدولية وباستخدام أساليب الظلام الإعلامي الجديدة نجحت الحكومات الشعبوية التي وصلت للحكم بالطريق الديمقراطي في بعض الدول، مثل المجر وصربيا في القضاء على الصحافة الناقدة، وذلك من خلال دعم انتقال ملكية وسائل الإعلام القوية في البلدين إلى أيدي أصدقائهما، وهو ما يضمن لهما أن وسائل الإعلام ذات الانتشار والتأثير الكبير تدعم الحكومة من جانب وتساعدهما في تشويه سمعة خصومهما من جانب آخر، وتشير دراسات حديثة في هذا المجال إلى أن نحو 80 في المائة من وسائل ومنصات الإعلام في المجر أصبحت مملوكة لحلفاء الحكومة.
ومثل مزارع المحتوى على الإنترنت التي كتبنا عنها هنا من قبل، أصبحت هناك زراعة موازية لها على مستوى وسائل الإعلام التقليدية كالصحف والإذاعات ومحطات التلفزة، تُعرف باسم «مزارع وسائل الإعلام الموالية للحكومة»، ومن خلالها يتم شراء الوسائل الكبيرة للسيطرة على المحتوى المقدم فيها. وقد أصبحت هذه الزراعة البالغة الأهمية والتأثير السلبي على حرية الإعلام أكثر شيوعًا في جميع أنحاء أوروبا على مدار السنوات الخمس الماضية مقارنة بأجزاء أخرى من العالم، رغم تاريخ القارة العجوز الطويل في دعم حرية الصحافة.
ولا يتوقف أمر آليات الإظلام الديمقراطي الجديدة للحد من حرية الصحافة على دول أوروبا، ويتعداه إلى دول ديمقراطية أخرى أو بالأصح تزعم أنها ديمقراطية. ففي الهند التي تعتبر أكبر الديمقراطيات في العالم وفقًا لعدد السكان، يسعى الحزب الحاكم منذ سنوات إلى ترسيخ مفهوم جديد لحرية الصحافة، يقوم على فكرة أن محاسبة الحكومة ليست جزءًا من مسؤولية الصحافة. وهناك دلائل ينشرها المعارضون بين الحين والآخر تؤكد أن الحكومة تصدر توجيهات للصحف حول كيفية تغطية أحداث وقضايا محددة، وتتدخل في منح تراخيص البث التلفزيوني، وتستبعد بالفعل المنصات الإذاعية غير الصديقة لها من موجات الأثير.
إن نظرة على تقرير الحرية في العالم الذي تصدره منظمة بيت الحرية «فريدوم هاوس»، سنويا تكشف لنا الانخفاض الواضح في مستوى حرية الصحافة في الدول التي ما زالت تصنف فيها الصحافة على أنها حرة تماما، وذلك على مدى السنوات الخمس الماضية. ويتوافق ذلك بالطبع مع ما تمر به الأنظمة الديمقراطية في العالم من تدهور واضح في الحقوق السياسية والحريات المدنية. ولعل هذا ما يفضي إلى نتيجة تقول إن حرية الصحافة لم يعد لها مكان حتى عندما يكون الحكم الديمقراطي قائمًا منذ عقود. فهل انتهى عصر الديمقراطية على النمط الغربي؟
هذا الشعار الذي وضعته الصحيفة الأمريكية على موقعها الإلكتروني وطبعتها الورقية بعد أن عاشت أكثر من مائة وأربعين سنة بدون شعار ثابت، كان في تقديري صيحة تحذير من بعض الأصوات التي خرجت من أشخاص وصلوا إلى مناصبهم بالطريق الديمقراطي للحد من حرية الصحافة، ووضع العراقيل أمام تدفق المعلومات للجمهور، وكانت تحديدًا تحذيرًا أول للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي لم يكن قد مر على وجوده في البيت الأبيض سوى أقل من عام واحد، هاجم خلاله الصحافة ووسائل الإعلام بضراوة، ووصفها أكثر من مرة بأنها غير أمينة، وعدوة للشعب الأمريكي.
دعونا نتفق على شرعية هذا الشعار التي يستمدها من حقيقة أن المسؤولين حتى في الدول الديمقراطية يحاولون دائما فرض سرية على بعض أعمال الحكومة وإبعادها عن أعين الصحافة، حتى في تلك الدول التي أقرت حق الجميع في المعرفة، وعرفت منذ سنوات قوانين جيدة لحرية المعلومات. يعني الشعار إذن أن الديمقراطية الليبرالية، لكي تعمل بشكل جيد (ولا تتحول إلى نوع من الديماغوجية أو أنواع أخرى من الديمقراطية غير الليبرالية) تتطلب بالإضافة إلى شروط أخرى كثيرة، أن ترافقها صحافة حرة تتمتع بسهولة الوصول الموضوعي إلى المعلومات وإلى السياسيين، وذلك حتى يعرف المواطنون ما تفعله الحكومة وبالتالي يستطيعون إصدار أحكام مستنيرة، ومحاسبة حكوماتهم، فالمعلومات إذن هي الضوء الذي يتم تسليطه على الأعمال الحكومية للتأكد من سلامتها وكونها تصب في صالح المجتمع. يبدو من الطبيعي إذن أن تزدهر حرية الصحافة في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية، بينما تعاني في الأنظمة غير الديمقراطية. ومع هذا فإن ما حدث ويحدث في العالم في السنوات القليلة الماضية يضعنا أمام حقيقة غريبة، وهي أن بعض الديمقراطيات الأكثر عراقة والأكبر في العالم، لم تعد تهتم كثيرا بحرية الصحافة، ولم تعد قطاعات واسعة من المواطنين تتلقى أخبارًا ومعلومات موضوعية وغير ملونة. ولا يعود ذلك إلى الزج بالصحفيين في السجن كما قد يحدث في البيئات الاستبدادية، وإنما إلى ممارسات جديدة يمكن أن نطلق عليها ممارسات الظلام الجديد، وهي ممارسات نجحت من خلالها الحكومات في الدول الديمقراطية في جعل مهمة الصحافة في الإضاءة محدودة للغاية. ولعل هذا ما يجعلنا نقترح على واشنطن بوست أن تعكس شعارها ليكون «الظلام الحكومي يقتل الصحافة».
هذه الممارسات أو الآليات -إن صح التعبير- مراوغة، ولا يمكن تتبعها والإمساك بها بسهولة، ولا يظهر تأثيرها على حرية الصحافة بشكل مباشر، وبالتالي قد لا تثير قلق المدافعين عن هذه الحرية كونها لا تشمل أساليب القمع المعروفة مثل الرقابة بجميع أشكالها، وإغلاق الصحف والمواقع الإلكترونية، واضطهاد الصحفيين وسجنهم وقتلهم. ولعل أخطر هذه الأساليب هو العصف باستقلالية وسائل الإعلام، من خلال دعم وتشجيع انتقال ملكيتها إلى أشخاص موالين لها أو إلى شركات من صنعها.
لم تعد الحكومات التي تريد البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة تتحرج على الإطلاق حتى في الديمقراطيات الراسخة من تقديم الدعم المباشر للمنصات والمنافذ الإعلامية الصديقة لها، من خلال تمييزها وإسناد العقود الإعلامية المربحة لها، ومنحها الحق في الوصول التفضيلي إلى معلومات الدولة. والهدف النهائي هو جعل الصحافة وكل منافذ النشر والتعبير في المجتمع تخدم من هم في السلطة بدلًا من أن تخدم الجمهور. هذا التوجه المتنامي نحو السيطرة الحكومية على الإعلام من وراء ستار، والسيطرة بالتالي على مضامين وسائل الإعلام تزامنت مع صعود تيار الشعبوية اليمينية ووصوله إلى السلطة في أكثر من دولة ديمقراطية آخرها إيطاليا، وهو التيار الذي يطالب بتقييد الحريات الأساسية في العديد من البلدان الديمقراطية. إذ يقدم القادة الشعبويون أنفسهم على أنهم مدافعون عن أغلبية مظلومة ضد النخب الليبرالية وضد الأقليات العرقية التي يشككون في ولاءاتها، ويؤكدون أن مصالح الأمة -كما يعرّفونها- يجب أن تتجاوز المبادئ الديمقراطية، وعلى رأسها حرية الصحافة والشفافية والنقاش المفتوح.
ووفقًا للتقارير الدولية وباستخدام أساليب الظلام الإعلامي الجديدة نجحت الحكومات الشعبوية التي وصلت للحكم بالطريق الديمقراطي في بعض الدول، مثل المجر وصربيا في القضاء على الصحافة الناقدة، وذلك من خلال دعم انتقال ملكية وسائل الإعلام القوية في البلدين إلى أيدي أصدقائهما، وهو ما يضمن لهما أن وسائل الإعلام ذات الانتشار والتأثير الكبير تدعم الحكومة من جانب وتساعدهما في تشويه سمعة خصومهما من جانب آخر، وتشير دراسات حديثة في هذا المجال إلى أن نحو 80 في المائة من وسائل ومنصات الإعلام في المجر أصبحت مملوكة لحلفاء الحكومة.
ومثل مزارع المحتوى على الإنترنت التي كتبنا عنها هنا من قبل، أصبحت هناك زراعة موازية لها على مستوى وسائل الإعلام التقليدية كالصحف والإذاعات ومحطات التلفزة، تُعرف باسم «مزارع وسائل الإعلام الموالية للحكومة»، ومن خلالها يتم شراء الوسائل الكبيرة للسيطرة على المحتوى المقدم فيها. وقد أصبحت هذه الزراعة البالغة الأهمية والتأثير السلبي على حرية الإعلام أكثر شيوعًا في جميع أنحاء أوروبا على مدار السنوات الخمس الماضية مقارنة بأجزاء أخرى من العالم، رغم تاريخ القارة العجوز الطويل في دعم حرية الصحافة.
ولا يتوقف أمر آليات الإظلام الديمقراطي الجديدة للحد من حرية الصحافة على دول أوروبا، ويتعداه إلى دول ديمقراطية أخرى أو بالأصح تزعم أنها ديمقراطية. ففي الهند التي تعتبر أكبر الديمقراطيات في العالم وفقًا لعدد السكان، يسعى الحزب الحاكم منذ سنوات إلى ترسيخ مفهوم جديد لحرية الصحافة، يقوم على فكرة أن محاسبة الحكومة ليست جزءًا من مسؤولية الصحافة. وهناك دلائل ينشرها المعارضون بين الحين والآخر تؤكد أن الحكومة تصدر توجيهات للصحف حول كيفية تغطية أحداث وقضايا محددة، وتتدخل في منح تراخيص البث التلفزيوني، وتستبعد بالفعل المنصات الإذاعية غير الصديقة لها من موجات الأثير.
إن نظرة على تقرير الحرية في العالم الذي تصدره منظمة بيت الحرية «فريدوم هاوس»، سنويا تكشف لنا الانخفاض الواضح في مستوى حرية الصحافة في الدول التي ما زالت تصنف فيها الصحافة على أنها حرة تماما، وذلك على مدى السنوات الخمس الماضية. ويتوافق ذلك بالطبع مع ما تمر به الأنظمة الديمقراطية في العالم من تدهور واضح في الحقوق السياسية والحريات المدنية. ولعل هذا ما يفضي إلى نتيجة تقول إن حرية الصحافة لم يعد لها مكان حتى عندما يكون الحكم الديمقراطي قائمًا منذ عقود. فهل انتهى عصر الديمقراطية على النمط الغربي؟